دراسات نقدية في

دراسات نقدية في

أوراق
إنما النص هو حياة أيضاً، لكنها حياة رمزية تماماً، أما الحياة فهي تجربة حقيقية تجري في إطار الزمان والمكان، وتكمن قيمة هذا الاقتراح، أنه جاء في مرحلة ثقافية تحولية، وهي المرحلة التي تنبهت فيها الثقافة العربية إلى قيمة السياقات المقصية من عملية تكوين تفسير معقول للتجربة الادبية أو التجربة الثقافية عموماً في البلاد العربية الواقعة في جغرافية ثقافية وسياسية ساخنة على الدوام.

ولعل الذي دفع مؤلف كتاب " النص والحياة" الصادر عن (دار المدى)، حسن ناظم إلى المجاورة بين النص والحياة، إنما هو ذلك الصراع الوجودي الساخن الذي تخوضه شعوب هذه البلاد ومنها العراق، الذي يعود تاريخه القديم والحديث إلى تاريخ من المآسي البشرية المفجعة.
الدراسات المقدمة في كتاب " النص والحياة" وهي على الأغلب تحاول أن تعيد تأمل هذه العلاقة بعيداً عن اي تعسف ايدولوجي كانت تقتضيه دعوات الالتزام، أو منحى اصلاحي كانت تقتضيه الوضعية المعرفية للعرب في بواكير القرن العشرين ولعلها افلحت أيضا في التخلص من تعسف آخر غير ذلك التعسف الابديولوجي، وهو التعسف المنهجي، فهي تحاول أن تخفف من غلواء الالتزام الحرفي بالمناهج الحديثة، ومن المهمة الثقيلة التي ألقيت على عاتقها في إعادة قراءة النصوص، الأمر الذي خلط حابل النص بنابل المنهج، فكانت عاقبة ذلك على الاغلب، مذابح نصية تناثرت فيها اشلاء اجمل نصوص الشعر العربي، ولذا فثمة حذر هنا وتدبر، يجنبنا مصاعب النظرية، واستحالات المنهج التي توقع الكثير من المحاولات النقدية في ضرب من النقد الذي يتغافل عن حالات عدم ملاءمة المنهج، نقد غير علمي يورث العقم وحتى الملل للقارئ، لابد من اعادة تأكيد ان النصوص الادبية لها رسالة تنقلها الى القراء الفعليين من دون التنكر إلى القراء النصيين وهذه الرسالة لاتقف في آخر صف الأولويات، ناهيك عن قضية عدم إيلائها اهمية بالمطلق. انها حقا تتمتع بالصدارة بين جملة اشياء.
وفي غمرة اهتمام الناقد ببعض النصوص الشعرية والنثرية والقضايا النقدية، كتب الناقد مقالات هذا الكتاب، وأجد الآن أن المنطق الأساس لها هو تعضيد المجال الذي يعيد الاعتبار الى صلة النصوص بالواقع، ولذا فإن في الكتاب مناقشة نظرية تتوخى تعزيز الصلة الفاعلة بين النصوص الادبية والحياة، وتدعو إلى تضمين أعمال الادب رسالة مقتضاة، لكن أغلب الدراسات هنا تعالج القضية نفسها عبر النصوص الشعرية. وقد جاءت ضروب هذه النصوص متوزعة على شعراء عراقيين ينتمون إلى اجيال مختلفة ابتداءً من الخمسينيين وانتهاءً بالجيل الذي ولد في اعقاب حرب الخليج الثانية.
من ناحية اخرى، لا تدّعى هذه الدراسات آية شمولية تذكر، فهنالك جملة من الشعراء الذين تبرز في أشعارهم الصلة الضرورية بين النص والواقع. وما غيابهم هنا بإغفال لخبراتهم الشعرية، وقد ينفع القول أن تنوع الصلات بين النص والواقع يقوم مقام البحث عن الشمول. اذ من المؤكد أن العلاقات التي يقيمها نص شاعر مثل محمود البريكان هي غيرها لدى شعراء آخرين كثر، إذن، التفلسف العميق الذي تمارسه نصوص البريكان والرمزية الحروفية لدى أديب كمال الدين، والإبهام المريع في نصوص شعراء حقبة الثمانيات، والشفافية الطاغية في نصوص عدنان الصائغ وحسن النصار، وهذه كلها تحاول وتدعي إقامة رابط جوهري بين الكلمة وما تحيل عليه بين ملموسيتي اللغة ووقائع الحياة.
إذاً الصلة بين النصوص والوثائع ما زالت تتأرجح على مستويين: مرة بتنوعها وثانية بضعفها او قوتها. ويبقى التنوع مهما كان منحاه على ضرب من الوشائج بينهما، اما ضعف هذه الوشائج أو قوتها فأمر قد يعود إلى الكاتب نفسه وما يتبناه من رؤى شعرية أو فكرية، وقد يعود الى الحقبة التاريخية وسماتها التي تُثقله بإكراهات لا سبيل إلى التملص منها، أو إلى كليهما معاً، وفي الحالة الاخيرة تتظافر جهود الكاتب ورؤاه مع السعي الحثيث للحقبة التاريخية أما إلى جعل النص والحياة لُحمة وسداة، أو إلى طمس معالم كل منهما، فيكون عاقبة ذلك على التوالي، توهج روح الكاتب في نصوصه، وتمثيله الحياة التي يحياها، او اختفاء روح الكاتب وامحاؤها تحت وطأة هوس نصي، أو لهاث وراء بلاغة لفظية، لتنتصر في الاخير النداءات النظرية على النداءات الروحية.