لماذا قال الفيلسوف سقراط: تكلم.. حتى أراك

لماذا قال الفيلسوف سقراط: تكلم.. حتى أراك

د. رضا العطار
كان سقراط يحاور تلاميذه كالمعتاد في موضوع الاخلاق الذي ملك عليه فكره. وطال النقاش بين الاستاذ والتلاميذ، بينما جلس الى جوار الفيلسوف الكبير رجل لا يعرفه. ظل صامتا والحوار سجال لا يشترك فيما يدور من حديث ولا يعلق على ما يجري من نقاش --- وفجأة التفت اليه سقراط يقول غاضبا:

(ما بالك تجلس هكذا صامتا؟ تكلم.. حتى اراك)
ما اغرب هذا السؤال! ماذا يريد فيلسوف أثينا الاشهر بهذه العبارة؟ الرجل الذي يجلس الى جواره وهو يراه ببصره ويحسه ببقية حواسه، فماذا يريد غير ذلك؟ وما الذي يرغب في معرفته اكثر من ذلك؟ وماذا تبقى من الرجل مجهولا؟
بقى الجانب المهم: جوهره! ان سقراط يريد ان يعرف ماهيته (بلغة الفلسفة) اعني:
من هو؟ وتلك معرفة يستحيل ان تظهر الاّ اذا تكلم الانسان، لان الكلام تعبير عن الفكر، والفكر ماهية الانسان، واللغة هي الوعاء الذي يُصب فيه التفكير. فهو اذن يريد ان يعرف كيف يفكر هذا الرجل واين يضع تفكيره بين انواع كثيرة من التفكير، ذلك لانه يصعب عليك ان تحكم على انسان ما، الا بناء على تفكيره، كما يصعب ان تعرف كيف يفكر، الا اذا تكلم، اعني حين يضع تفكيره في اطار لغوي. انك لا تستطيع ان تحكم على الناس بمظهرهم الخارجي، فقد يعجبك الرجل من الخارج فاذا تحدث، سقط من نظرك. وعجبت كيف يمكن لكل هذا الجمال في المظهر ان يخفي وراءه كل هذا القبيح من التفكير!
يروى عن الفيلسوف الالماني المعاصر - ماكس شيلر – فيلسوف القيم، انه كان يقيم ندوة يناقش فيها تلاميذه حول مشكلات فلسفية كثيرة – القيم والفكر والوجود.. الخ
وكان الجميع يجدون لذة كبرى في مطارحته للاراء ومناقشته الافكار. بينما ظل طالب واحد لا ينطق بكلمة ولا يبدي اية ملاحظة واوشك العام الدراسي ان ينتهي، فاراد شيلر ان يستحثه على ابداء رأيه، فما كان من الطالب سوى ان اجابه بقوله: (اذا كان الكلام من فضة فان السكوت من ذهب) وعندئذ قام شيلر واقفا وهو يصيح في وجهه (يالك من مزيف نقود) ولم يجانب الفيلسوف الصواب، فان رفضْ الحوار هو ضرب من الاستخفاف والامبالاة، والفيلسوف هنا انما يضع عدم الاكتراث على قدم المساواة مع الكذب والتضليل والتمويه والتشويه وشتى ضروب التزييف الفكري.
الحوار اساسي لابراز ماهية الانسان، اعني كيف يفكر بل ان التفكير نفسه ضرب من الحوار حتى التفكير الذاتي هو لون من المونولوج الداخلي، ولهذا قيل ان الحبال الصوتية تهتز حتى اثناء التفكير الصامت، اعني اذا لم يصب الانسان افكاره في عبارة منطوقة فهو يفكر ايضا في عبارات صامتة ولعل ذلك يفسر لنا لماذا ظلت العبارة التي ذكرها ارسطو في تعريفه للانسان بانه – حيوان ناطق – باقية حتى اليوم بل ظلت اشهر ما قيل من تعريفات للانسان على الاطلاق على الرغم من ظهور تعريفات اخرى كثيرة، منها تعريف – يرباخ – بان الانسان حيوان متدين وتعريف هيدجر بان الانسان حيوان ميتافيزيقي.
فالعقل كما قال – ديكارت – هو – اعدل الاشياء قسمة بين الناس – حكّم عقلك وارجع الى نفسك والى صوت ضميرك تجد انك قد وصلت الى افكار بالغة الاهمية، وكم يحدث لكل واحد منا ان يدرك الفكرة بعقله هو لكنه يمسك عن النطق بها استهانة بشأن نفسه واذا بهذه الفكرة عينها تجيئ اليه في اقوال النوابغ العظماء وعندئذ يتقبل رايه الخاص صادرا اليه من غيره!!
وللاديب الفرنسي المعاصر اندريه جيد كلمة رائعة تدعو الشباب الى تكوين شخصية فريدة متميزة يقول (ما يستطيع غيرك ان يفعله لا تفعله! وما يستطيع غيرك ان يقوله لا تقله.. بل حاول دائما ان تخلق في نفسك – بكل صبر واناة – ذلك الموجود الفريد الذي هيهات لغيرك ان يقوم بديلا عنه!! فمن الضلال ان يكون المرء تابعا بدلا من ان يكون صاحب راي مستقل. ان المقلدين يتطلعون الى الوراء لا الى الامام في حين ان العبقرية هي ان تنظر الى الامام، فالانسان عيناه في مقدمة راسه لا في مؤخرته!!)
لقد كان الشاعر الامريكي العظيم – امرسن 1803- 1882 – يدعو الانسان الى الاستقلال بفكره والاعتماد على نفسه. والمرء اذا ما انصت الى صوت ضميره واحسن الانصات جاءت فكرته على اصالتها معبرة عن حق، يمكن لاي فرد آخر ان يدركه، ذلك لان الفرد الواحد من الناس ليس في حقيقة امره فردا قائما بذاته بل هو ممثل للانسانية كلها! ومن الطريف ان امرسن كان يزرع الثقة في نفوس مواطنيه لكي يستقلوا بتفكيرهم عن الاوربيين ويطالبهم بان ينطق كل منهم بما توحي اليه نفسه، وان يقول ما يدور في خلده دون ان يخشى ان يناقض قولا قاله بالامس.
فالفزع من ان نقع في التناقض كثيرا ما يفقدنا الثقة في انفسنا – يقول (هب انك ناقضت نفسك، فماذا وراء ذلك؟ ان الثبات السخيف على رأي واحد، لا شأن له. فهو كمن يأبى ظله فوق الحائط. انطلق بما تفكر به الان في الفاظ قوية وانطق غدا بما تفكر فيه غدا في الفاظ قوية كذلك حتى ناقض كل ما قلته اليوم)