استفتاء عام 1918..هل كانت بريطانيا جادة ببحث مستقبل العراق أثناء الحرب العظمى؟

استفتاء عام 1918..هل كانت بريطانيا جادة ببحث مستقبل العراق أثناء الحرب العظمى؟

■ علاء عباس نعمة
عُقدت هدنة مودروس في 30 تشرين الأول 1918 التي انتهت بموجبها العمليات العسكرية بين الدولة العثمانية وبريطانيا ، وبذلك دخل العراق مرحلة جديدة من مراحل حياته السياسية ، فأصبح منذ هذا التاريخ تحت حكم الإدارة البريطانية

كانت الحكومة البريطانية منقسمة على نفسها بشأن نوع الإدارة المطلوبة في العراق ، إذ كان هناك جناحان مختلفان حول تلك المسألة .
الجناح الأول : هو جناح وزارة الخارجية في لندن بقيادة اللورد (كيرزن)، وكان هذا الجناح يدعو الى حكم وإدارة بريطانية غير مباشرة على العراق.
أما الجناح الثاني : وتمثله حكومة الهند البريطانية وكان يدعو الى الإدارة البريطانية المباشرة على العراق ، لأن ( مكتب الهند البريطاني ) تحمل أعباء الحملة العسكرية على العراق ، فضلاً عن أهمية العراق للطريق الستراتيجي الى الهند ، ومخزن النفط ، وإشرافه على الخليج العربي ونفط عبادان ، كل ذلك جعل التخلي عن العراق ولو بصورة جزئية أمراً صعباً على حكومة الهند البريطانية.
كان آرنولد ويلسن ( نائب الحاكم المدني العام في العراق ) ، من أنصار الاتجاه الثاني، لكنه حاول أن يوازن ما بين الاتجاهين بإجراء استفتاء شكلي يسأل فيه عن رأي الوجهاء وليس عامة الشعب ، فقدم اقتراح في 24 تشرين الثاني 1918 الى حكومة الهند البريطانية (( يتفق الجميع على استمزاج رأي البلاد قبل اتخاذ أي قرار يصار إليه حقاً .... )) ، ووافقت الحكومة البريطانية على ذلك الاقتراح في 28 تشرين الثاني من السنة نفسها .
تضمن الاستفتاء ثلاثة أسئلة وهي :
1) هل يرغبون بإقامة دولة عربية واحدة تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل الى الخليج العربي تحت الوصاية البريطانية ؟ .
2) هل يرغبون بتنصيب أمير عربي على راس هذه الدولة ؟ .
3) فإذا وافقوا فمن الأمير الذي يفضلونه ؟ .
والملاحظ أن هذه الأسئلة صيغت بدقة متناهية حيث أنها حددت الإشراف البريطاني بصورة لا تقبل الرفض أو الاعتراض ، كما أن اللجنة أرسلت تعليمات الى ويلسن (( أن من المهم جداً الحصول على إفصاح صادق عن الرأي المحلي حول هذه النقاط ، إفصاح من النوع الذي يمكننا إعلانه على العالم باعتباره الرأي العام غير الخاضع للتأثير ، والمعلن من سكان بلاد ما بين النهرين )).

أولاً : الاستفتاء في النجف

قرر ويلسن أن يجري الاستفتاء أولاً في مدينة النجف الأشرف ، ربما بسبب حالة اليأس التي عمت المدينة بعد قمع الانتفاضة التي قامت فيها في ربيع 1918 ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لاعتقاد البريطانيون بأن المرجع الديني الأعلى السيد محمد كاظم اليزدي ( الطباطبائي ) لن يعارضهم علناً ، وبعد ذلك سيكون بمقدورهم استغلال نتائج الاستفتاء في النجف للتأثير على بقية المدن الدينية الأخرى مثل كربلاء والكاظمية.
وصل ويلسن الى النجف عصر يوم 11 كانون الأول 1918 ، وفي صباح اليوم التالي قام بزيارة السيد اليزدي في بيته ، وبعد الاجتماع ادعى ويلسن أن السيد اليزدي موافق على بقاء البريطانيين ، بينما نفى اليزدي ذلك في اجتماعه بوفد من العلماء والزعماء العشائريين الذين زاروه بعد يومين.
عُقد اجتماع في دار الحكومة خارج سور النجف في 13 كانون الأول 1918 حضره ويلسن ونوربري ( الحاكم السياسي للشامية والنجف ) وعدد من زعماء العشائر والوجهاء ومنهم الشيخ عبد الكريم الجزائري ، الشيخ عبد الواحد الحاج سكر ، السيد محسن أبو طبيخ، السيد علوان الياسري ، السيد هادي النقيب ، وغيرهم.
قام صفوة من المجتمعين بعد ذلك بزيارة السيد اليزدي لمناقشته وأخذ رأيه في الموضوع ، فأكد لهم ضرورة عدم الاكتفاء برأي الوجهاء فقط وإنما إشراك جميع طبقات الشعب في الاستفتاء سواء كانوا تجار أم فلاحين زعماء أم حمالين.وبعد ذلك عُقد اجتماع عام في منزل الشيخ جواد الجواهري حضره عدد من عامة الناس وبمختلف طبقاتهم، وتم طرح القضية عليهم ، وعلى الرغم من أن الجميع لم يتفقوا على من يكون الحاكم المقبل إلا أن معظمهم رفض الحكم البريطاني كما كان متوقعاً ، ولكنهم اختلفوا على نوع الحكم فأراد البعض النظام الجمهوري والبعض الآخر فضّل النظام الملكي الدستوري وإن كانت الأغلبية تؤيد النظام الملكي الدستوري وخاصة الشيخ عبد الواحد الحاج سكر ، وعندما سُئل السيد محمد كاظم اليزدي عن رأيه أجابهم أنه ليس رجل سياسة بل رجل دين .
أدرك البريطانيون أن الجو العام بدأ ينقلب ضدهم بعد الاجتماع في منزل الشيخ جواد الجواهري ، وبالرغم من استطاعة السيد ( هادي النقيب ) المعروف بولائه لبريطانيا أن يجمع تواقيع أحد عشر شخصاً من التجار والوجهاء ، إلا أن أغلبية العلماء والوجهاء ورؤساء العشائر امتنعوا عن التوقيع على مضبطة النقيب ، وقرروا الاجتماع في منزل السيد ( نور الياسري ) كي يوقعوا على مضبطة مضادة تطالب بحكم عربي مستقل ، وبينما كان المجتمعون يتداولون في الأمر اقتحم البوليس البريطاني بيت السيد الياسري وأمر بفض الاجتماع مهدداً باستخدام القوة ، فاضطر المجتمعون الى الرجوع الى مناطقهم والاجتماع بعشائرهم في الشامية وأبي صخير ، وبعد يومين دعاهم الحاكم السياسي البريطاني لمدينة الكوفة وحاول أن يحصل منهم على مبتغاه فأخفق ، حيث وقع الجميع على مضبطة طالبوا فيها أن يكون للعراق الممتدة أراضيه من شمالي الموصل الى الخليج العربي حكومة وطنية عربية إسلامية يرأسها أحد أنجال الشريف حسين على أن يكون مقيداً بمجلس تشريعي ، وتكون هذه الحكومة مستقلة استقلالاً تاماً بلا حماية ولا وصاية أو انتداب.

ثانياً : الاستفتاء في كربلاء

كان الاستفتاء الذي أجراه البريطانيون في مدينة كربلاء قد واجه انتكاسة قوية ، حيث اصطدم بفتوى صريحة من قبل الشيخ محمد تقي الشيرازي بعدم جواز انتخاب غير المسلم حاكماً على العراق .
وكانت هذه الفتوى أخطر من فتاوى الجهاد التي أعلنها رجال الدين في بداية الاحتلال البريطاني للعراق ، لأن فتاوى الجهاد صدرت خلال الحكم العثماني ، أما هذه الفتوى فإنها صدرت في ظل الحكم البريطاني ، وبذلك تشكل تحدياً مباشراً له ، فضلاً عن ذلك فإن هذه الفتوى انتشرت بشكل سريع في كثير من المناطق ومدن العراق مما أدى الى تأزم الموقف الشعبي ضد البريطانيين ، وعلقت ( المس بيل ) على هذه الفتوى بالقول (( ....حرم المجتهدون في كربلاء والكاظمية على المسلمين أن يصوتوا لغير تشكيل حكومة إسلامية ، فبلغ الاختلاف حداً أوقف سير الاستجواب )) ، ويظهر من قول المس بيل أن هناك فتوى شبيهة بفتوى الشيرازي في كربلاء ، أصدرها المجتهدون من علماء الكاظمية ولكن لم يتم العثور عليها .
أما عن الاستفتاء في مدينة كربلاء فقد عُقد اجتماع في السراي في 16 كانون الأول 1918 حضره حاكم الفرات الأوسط ( السياسي ) البريطاني الميجر ( تيلر ) ومجموعة من الوجهاء ورؤساء العشائر .
تحدث ( تيلر ) عن انتهاء الحرب العالمية الأولى بانتصار بريطانيا وحلفائها ، كما أعرب للحاضرين عن استعداد بريطانيا للالتزام بوعودها التي قطعتها للعرب ، ثم أردف قائلاً (( أُمرت من قبل حكومتي المعظمة أن أخبركم شكل الحكم الذي ترغبون فيه لتشكيل حكومتكم وعن الشخص الذي تنتخبونه وترونه صالحاً ليكون أميراً على العراق )) ، فطلب السيد عبد الوهاب الوهاب مهلة ثلاثة أيام لكي يتداولوا مع غيرهم من أهالي كربلاء ، فوافق الميجر ( تيلر) على هذا الطلب.
ولهذا عقد الكربلائيون اجتماعاً لهم في منزل السيد محمد صادق الطباطبائي للتداول في الأمر ، كما عُقد اجتماع آخر في منزل الشيخ محمد تقي الشيرازي ، وقد اختلفت الآراء وتعددت وجهات النظر حتى استقر الرأي أخيراً على مضبطة وقعها عدد من الحاضرين جاء فيها (( وقد اجتمعنا نحن أهالي كربلاء امتثالاً لأمركم وبعد مداولة الآراء وملاحظة الأصول الإسلامية وطبقاً لما تقرر رأينا على أن نستظل بظل راية عربية إسلامية فانتخبنا أحد أنجال سيدنا الشريف حسين ليكون ملكاً علينا مقيداً بمجلس منتخب من أهالي العراق لتسنين القواعد الموافقة لروحيات هذه الأمة وما تقتضيه شؤونها )) .
أراد الشيخ الشيرازي مع مؤيديه وأنصاره من الوطنيين الكربلائيين أن يقطع الطريق على أية محاولة بريطانية لتنظيم مضبطة أخرى مؤيدة لهم ، فعندما سُئل عن الطريق والمنهج الواجب اتباعه في عملية الاستفتاء وكان نص السؤال هو :
(( ما يقول شيخنا وملاذنا حضرة حجة الإسلام والمسلمين آية الله في العالمين الشيخ ميرزا محمد تقي الحائري الشيرازي متع الله المسلمين بطول بقائه ، في تكليفنا معاشر المسلمين بعد أن منحتنا الدولة المفخمة البريطانية العظمى في انتخاب أمير لنا نستظل بظله ونعيش تحت رايته ولوائه ، فهل يجوز لنا انتخاب غير المسلم للإمارة والسلطنة علينا أم يجب علينا اختيار المسلم بينوا تؤجروا ؟ )) .
وكان جوابه : (( ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين )). صدرت هذه الفتوى في 20 ربيع الثاني عام 1337هـ ( 23 كانون الثاني عام 1919م ) .وقد أيدها سبعة عشر عالماً دينياً في كربلاء إذ وقعوا على نص الفتوى وكان من أبرزهم السيد محمد صادق الطباطبائي ، السيد محمد علي الحسيني ، والسيد محمد رضا القزويني ، وغيرهم ، كما أرسلت نسخ عديدة من هذه الفتوى الى عشائر الفرات والجنوب وغيرها ، مما أدى الى تأزم الموقف ضد البريطانيين الذين ازدادوا صرامة .
حاول البريطانيون الرد على المضبطة التي نظمها الوطنيون في كربلاء بطريقتين :-
الأولى هو رفضهم استلام المضبطة بحجة أنها لم تسلم في الوقت المناسب ، والثانية هو تنظيم مضبطة أخرى بديلة عن طريق بعض مؤيديهم ، فتمكن الحاكم البريطاني للحلة الميجر ( بوفل ) من إغراء بعض الأشخاص لكتابة مضبطة مؤيدة للبريطانيين ، وأهم ما ورد فيها (( معروضات عموم أهالي كربلاء المقدسة هو أنه حسب الأمر الصادر علينا من حكومتنا العادلة البريطانية العظمى دامت عدالتها .... قد اجتمعت أفكارنا عموماً وصار نظرنا على ما فيه صلاح العموم بأن نكون تحت ظل حكومتنا العطوفة الرؤوفة البريطانية مدة من الزمان لترقي العراق .... )) ، ونظمت هذه المضبطة بتاريخ 21 ربيع الثاني 1337هـ ( 24 كانون الثاني 1919م ) لم يستطع البريطانيون اعتماد المضبطة الأخيرة كمضبطة معبرة عن آراء أهالي مدينة كربلاء ، لأن الموقعين عليها هم من الناس الذين لا يمثلون الوجهاء والشخصيات الحقيقية الكربلائية ، وكذلك ربما خوفاً من ردة فعل المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي استطاع بفتواه ضد الاستفتاء أن يهدد مصالح البريطانيين ، لذلك أهملت المضبطتين معاً ، لكن الشيخ الشيرازي أرسل نسخة من المضبطة الأولى الى الشريف حسين في الحجاز بيد الشيخ محمد رضا الشبيبي ليستند عليها عند مطالبته البريطانيين بتنفيذ وعودهم التي قطعوها.
أما ردة الفعل البريطانية فإنها عبرت عن انزعاجها من المضابط المتضامنة مع مضبطة كربلاء ، فرفضت إدراجها في النشرة الرسمية لنتائج الاستفتاء .
وبالرجوع الى فتوى الشيخ محمد تقي الشيرازي نجد تاريخها متأخر بعض الشيء ، فقد شارف الاستفتاء على الانتهاء حيث صدرت هذه الفتوى في 23 كانون الثاني 1919 ( 20 ربيع الثاني 1337هـ) ، وربما كان سبب ذلك أن الشيرازي كان مطمئناً على جواب أهالي مدينة كربلاء لأن العريضة التي نظموها بتاريخ 18 كانون الأول 1918م ( 15 ربيع الأول 1337هـ ) أي قبل الفتوى بأكثر من شهر ، لم تطالب بالحكم البريطاني وإنما طالبت بملك عربي مسلم ، ولكن حينما تناهى الى أسماع الشيرازي عن عزم السلطات البريطانية بإهمال وتزوير مضبطة أهالي كربلاء والمضابط المشابهة لها عند ذاك أصدر هذه الفتوى .

ثالثاً : الاستفتاء في الكاظمية

ذكرت ( المس بيل ) أن علماء مدينة الكاظمية أصدروا فتاوى ضد الاستفتاء البريطاني شأنهم شأن علماء كربلاء ومنهم الشيخ الشيرازي ، ولكن لم يتم العثور على نصوص تلك الفتاوى التي أصدرها علماء الكاظمية ، ولذلك لا بد من استعراض عملية الاستفتاء في هذه المدينة ولو بشكل موجز .
بدأ الاستفتاء في الكاظمية في 8 كانون الثاني 1919م ( 5 ربيع الثاني 1337هـ ) حينما عقد اجتماع في منزل أحد وجهاء مدينة الكاظمية ( أغا حسن النواب ) حضره مجموعة من العلماء والوجهاء من أبناء المدينة ، إضافة الى عدد من المسؤولين
البريطانيين ، وعند تداول موضوع الاستفتاء رفض المجتمعون من وجهاء مدينة الكاظمية صيغة الحكم البريطاني المباشر ، وخرج المسؤولون البريطانيون من الاجتماع وهم غاضبين، فاتفق المجتمعون على صياغة مضبطة طالبوا فيها بحكومة عربية إسلامية ، ووقع الجميع على تلك المضبطة ومن أبرزهم الشيخ مهدي الخالصي ، وكذلك كل من ( حسن الصدر ، محمد مهدي الصدر ، عبد الحسين آل ياسين ، أحمد الحيدري ، إبراهيم السلماسي ، عبد الحسين الجلبي ، وغيرهم ) وجاء في المضبطة (( .... أننا ممثلو جمهور كبير من الأمة العربية العراقية المسلمة ، فإننا نطلب أن تكون للعراق .... حكومة عربية إسلامية يرأسها ملك عربي مسلم وهو أحد أنجال جلالة الملك حسين علماً أنه يكون مقيداً بمجلس تشريعي وطني والله ولي
التوفيق ))
وساد في مدينة الكاظمية شعور معاد قوي للبريطانيين ، وقد اعترف البريطانيون به ومنهم ( المس بيل ) التي علقت على هذا الموضوع بالقول (( هدد العلماء أي شخص يصوت للاحتلال البريطاني بالمروق عن الدين والطرد من الجوامع)) .
وكان الشخص الوحيد الذي شذ عن الاجتماع هو رئيس بلدية الكاظمية ( جعفر عطيفة ) الذي كان يؤيد البريطانيين بشكل كبير ويوافق على استمرار وجودهم في العراق لأنه كان تاجراً قد جنى أرباحاً طائلة ن جراء تعاونه مع البريطانيين ، وقد بذل جهوداً كبيرة لوضع عريضة مضادة تطالب باستمرار الحكم البريطاني في العراق ، ولكن على الرغم مما بذله من مال وسلطة لم يستطع أن يكسب الى جانبه سوى عدد قليل من فقراء الحي الذي يسكنه.
وهكذا يتبين لنا وجود تناغم وشيء من التنسيق بين المدن الدينية المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية ، التي اتسق صوتها في رفض الاحتلال البريطاني أو الحكم البريطاني المباشر والمطالبة بحكومة عربية دستورية مستقلة . وكل ذلك لم يكن لولا تنسيق المواقف بين المراجع الدينية وزعماء الحركة الوطنية العراقية .

رابعاً : الاستفتاء في بغداد

كان الاعتقاد السائد لدى الحكام البريطانيين في العراق وبخاصة لدى ( ويلسن ) أن بغداد هي بؤرة المعارضة والرفض للسياسة البريطانية ، حيث يوجد فيها عدة أطياف تمثل الشعب العراقي من سنة وشيعة ومسيحيين وغيرهم ، فضلاً عن كونها عاصمة البلاد ، ولذلك لم يجازف البريطانيون بإجراء الاستفتاء في بغداد مثل غيرها من المدن الأخرى ، لأنه لو تبين رفض أهالي بغداد للإدارة البريطانية سوف ينعكس ذلك بشكل مباشر وغير مباشر على بقية المناطق الأخرى من البلاد ، لذلك عمدوا على تأجيل ذلك الى مرحلة لاحقة .
حاول ( ويلسن ) قبل الاستفتاء أن يعقد مجلساً خاصاً يضم بعض الأشخاص المؤيدين للإدارة البريطانية ، لكنه فشل في ذلك ، فطلب من عبد الرحمن الكيلاني ( نقيب أشراف بغداد ) ، وقاضي الشيعة الشيخ ( شكر ) أن يختار كل منهما خمسة وعشرين مندوباً من أبناء طائفته لتوجيه أسئلة الاستفتاء إليهم ، ولكن النقيب اعتذر واقترح أن يحل مكانه الشيخ ( علي الآلوسي ) ، كما طلب ( ويلسن ) من الحاخام اليهودي أن يختار عشرين مندوباً يهودياً ، ومن رؤساء الطوائف المسيحية أن يختار عشرة مسيحيين لتوجيه أسئلة الاستفتاء إليهم .
رفض كل من الشيخ شكر والآلوسي أن ينتخبا أحداً بنفسيهما ، وطلب كل منهما من أبناء طائفتهم أن ينتخبوا ، وفي جو مشحون تم انتخاب المندوبين ، لكن خمسة من السنة وواحد من الشيعة استقالوا بعد الانتخاب فاضطر الآلوسي أن ينتخب آخرين بدلاً عنهم.
اجتمع المندوبون في 22 كانون الثاني 1919 بحضور ( جعفر أبو التمن ) الذي برز دوره أثناء الاتصالات التي تمت ما بين السنة والشيعة لتوحيد المواقف ، وخلال الاجتماع حاول حاكم بغداد العسكري البريطاني ( فرانك بلفور ) خداع المجتمعين مُصرحاً بأن أهالي النجف وكربلاء والحلة والبصرة والشامية والموصل يؤيدون بقاء البريطانيين في العراق ، لكن المجتمعين كانوا على علم كامل بموقف هذه المدن ، قام المجتمعون بإخراج مضبطة معدة سلفاً تشبه مضبطة أهالي كربلاء تماماً ووقع عليها الجميع وسلمها جعفر أبو التمن الى ( بلفور ) وقال له ( اخترنا حليفكم ) ويقصد به الشريف حسين .
أما نص المضبطة وأهم ما ورد فيها (( .... أننا ممثلو الإسلام من الشيعة والسنة من سكان مدينة بغداد وضواحيها ، بما أننا أمة عربية وإسلامية فقد اخترنا أن تكون لبلاد العراق .... دولة واحدة عربية يرأسها ملك عربي مسلم هو أحد أنجال الشريف حسين مقيداً بمجلس تشريعي وطني مقره عاصمة العراق بغداد . حرر يوم الأربعاء 19 ربيع الآخرسنة 1337هـ الموافق 22 كانون الثاني 1919م )).أما المسيحيون واليهود فإنهم وقعوا على مضبطة أخرى تطالب ببقاء البريطانيين في العراق.
عرض ويلسن نتائج الاستفتاء على حكومته مدعياً أن أكثرية السكان في العراق ترغب ببقاء الحكم البريطاني ، وأن الأقلية ترغب في حكم عربي ، وعبر ويلسن عن رأيه بأن يكون للعراق مندوب سامٍ بدلاً من أمير عربي ، وسيطرة عسكرية بريطانية على العراق بإبقاء قوات برية وجوية على أراضيه .
وعلى الرغم من تزوير نتائج الاستفتاء لصالح البريطانيين إلا أنهم لم يخفوا امتعاضهم من فتوى الشيخ الشيرازي التي كان لها دور كبير في عرقلة عملية الاستفتاء في المدن العراقية وخاصة المقدسة منها رغم تأخر الفتوى بعض الشيء ، فقد جاء في أحد التقارير التي رفعتها ( المس بيل ) الى حكومتها البريطانية في شهر شباط 1919، أبدت فيه امتعاضها مما جرى في مدينة كربلاء بعد إصدار الفتوى ، فقد اتهمت في تقريرها جواسيس عثمانيين بالوقوف وراء ذلك ، حينما قالت (( .... لدينا أدلة تظهر أن جواسيس ودعاة من الاستانة كانوا يعملون ضدنا في هذه المدينة ( وتقصد كربلاء ) وقد وقعوا على أرض صالحة لما يزرعون )) .
وحاول البريطانيون ذر الرماد في العيون بإسناد بعض الوظائف الحكومية الى موظفين عراقيين ، وطبيعي أن يكون هؤلاء من الموالين لهم ، وغير منتخبين من قبل الشعب وإنما جرى تنصيبهم من قبل البريطانيون أصحاب السلطة الحقيقية والفعلية على العراق .

عن رسالة ( محمد تقي الشيرازي ودوره السياسي)