في رواية     غانياتي الحزينات..”سعادة الحب شعور ملهم.. والتعاسة في متعة تافهة

في رواية غانياتي الحزينات..”سعادة الحب شعور ملهم.. والتعاسة في متعة تافهة

بغداد/ أوراق
ونحن نتأمل في حياتنا التي قد نفارقها في أية لحظة هل يخالجنا الشعور نفسه الذي انتاب بطل غابرييل غارسيا ماركيز في رواية (مذكرات غانياتي الحزينات) الصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر بترجمة صالح علماني.. صحفي عجوز بلغ التسعين من عمره، لم يعش الحب الحقيقي

في حياته ولم يعرف له طعما أو شكلاً الا من خلال الغانيات في المواخير والحانات المنتشرة بين أزقة المدينة.. يخطر ببال هذا البطل العجوز ان يطلب من إحدى وسيطات المتعة ان تهيئ له فتاة عذراء ليحتفل بها في ليلة دخول عقده التاسع إذ يقول: في السنة التسعين من سنوات حياتي، رغبت في أن أهدي إلى نفسي ليلة حب مجنون، مع مراهقة عذراء. تذكرت روسا كباركاس، صاحبة بيت سري، اعتادت أن تتصل بزبائنها الجيدين، عندما يكون تحت تصرفها جديد جاهز. لم أستسلم قط لهذا الإغراء، أو لأي واحد آخر من إغراءاتها الفاحشة، ولكنها لم تكن تؤمن بنقاء مبادئي. فكانت تقول بابتسامة خبيثة: الأخلاق مسألة زمن أيضا، ولسوف ترى. كانت أصغر مني بعض الشيء، ولم تعد لدي أخبار عنها منذ سنوات طويلة، بحيث يمكن أن تكون قد ماتت. ولكنني، منذ الرنين الأول، تعرفت على صوتها في الهاتف، وبادرتها دون مقدمات: اليوم، أجل. فتنهدت قائلة: آه، يا عالمي الحزين، تختفي عشرين عاما، وتعود لتطلب مستحيلات فقط. وفورا، استعادت السيطرة على فنها، وعرضت علي ستة من الخيارات الشهية، ولكن عليك أن تعلم، جميعهن مستعملات. ألححت عليها أن لا، ويجب أن تكون عذراء، وأريدها هذه الليلة بالذات.. لكن المفاجأة تحدث لدى دخول البطل إلى غرفة الفندق حيث تنتظره العذراء الضحية، الفتاة المراهقة النائمة ببراءة على سرير سيدشن دخولها الرسمي إلى عالم البغاء على يد الصحفي العجوز إذ أن الأمور تخرج من اعتياديتها في هذه اللحظة بالضبط، حينما يجدها البطل نائمة فيرفض إيقاظها مكتفيا بالتأمل في براءة وجهها طوال الليل، في جسدها الهادئ المستسلم. وهكذا يولد الحب العذري من قاع الماخور، ومن هدأة الآثام الليلية. ويكتشف صحافينا أمام هذا المشهد عزلته التي منعته من الالتقاء بالحب، ويسقط ضحية إعجاب جديد هادئ وغير شبقي بحسنائه وهو يشعر أن عليه أن يعب من نهر الحب، وأن يمنح نفسه ربما للمرة الأخيرة ليلة عشق مجنونة مع مراهقة صغيرة تساعده على تحقيق غرضه صاحبة بيت لهذه الأعمال يعرفها منذ زمن بعيد، وتعد له ما أراده صبية في الرابعة عشر من العاملات الفقيرات في مصنع لحياكة أزرار القمصان. أرادها العجوز عذراء لأنه لم يكن يفتش عن ليلة حمراء، بل عن حب طاهر ونقي، حتى أنه رقد إلي جوارها مرة واثنتين من دون أن يلمسها حتى الصباح إذ يقول: استيقظت فجرا دون أن أدري أين أنا. كانت الطفلة لا تزال نائمة، مولية إلي ظهرها، في وضع جنيني. راودني إحساس مبهم بأنني سمعتها تنهض في الظلام، وبأنني سمعت ماء سيفون الحمام، ولكن يمكن لذلك أن يكون حلما. كان الأمر جديدا بالنسبة لي. فأنا أجهل نزوات الإغواء. وكنت أختار عروساتي لليلة واحدة بالمصادفة، وباهتمام بالسعر أكثر من المفاتن. ونمارس من دون حب، ونحن بنصف ملابسنا في معظم الأحيان. ودوما في الظلام. كي يتخيل كل منا الآخر أفضل مما هو عليه. في تلك الليلة اكتشفت المتعة التي لا تصدق. في تأمل جسد امرأة نائمة من دون تسرع الشهوة أو عوائق الحياء.. نهضت في الخامسة. قلقا لأن مقالتي ليوم الأحد يجب أن تكون على منضدة التحرير قبل الساعة الثانية عشرة. قمت بتغوطي في موعده الدقيق، وكانت حلقة القمر البدر لا تزال موجودة، وعندما شددت سلسلة الماء، أحسست أن أحقاد ماضيّ قد ذهبت في المجاري. وحين رجعت منتعشا ومرتديا ملابسي إلى غرفة النوم، كانت الطفلة تنام على ظهرها، على ضوء الفجر المهادن، معترضة السرير من جانب إلى آخر، وذراعاها مفتوحان في صليب وسيدة قلت لها: فليحمك الرب. وكل النقود المتبقية معي. نقودها ونقودي. وضعتها على الوسادة، وودعتها إلى الأبد، بقبلة على جبينها، وخرجت من البوابة المطلة على البستان، كيلا ألتقي بأحد. وتحت شمس الشارع اللاسعة، بدأت أشعر بوطأة سنواتي التسعين، وأعد دقيقة فدقيقة، دقائق الليالي التي تفصلني عن الموت.. يقع العجوز في غرام الصبية، ويقول لنفسه: كنت أعرف دائما أن الموت حبا أمر مسموح به فقط في الشعر، إلي أن اكتشفت أنني أنا نفسي العجوز الوحيد كنت أموت حبا.. هذه الصبية الصغيرة تحيل حياته إلي شيء آخر تماما ويغير حبه لها من التوجهات الروحية لمقالاته الأسبوعية، ويصبح كل ما يكتبه لها هي أيا كان الموضوع الذي يكتبه.. ومن أجلها هي صار يبذل في كل كلمة حياته كاملة، ويقرأ على سمعها مخطوطاته، ويحكي لها حياته. الحب الذي ينشده ماركيز ليس الجنس، لأن الجنس مجرد إرضاء للنفس عندما لا يحصل الواحد منا على الحب.. الحب عنده اكتمال الكائن بنصفه الآخر بالمشاركة والفهم. يقول ماركيز: لا تموت من دون أن تجرب جمال حمل عبء الحب.. وليس أتعس من الموت وحيدا. ولهذا تقول إحدى نساء الرواية: إنني أنظر الآن إلي الأيام الخوالي، وأرى طابورا من آلاف الرجال الذين مروا بسريري، وأجد أنني على استعداد لأن أدفع روحي ثمنا للبقاء مع أسوأ من فيهم. يحاول ماركيز أن يجعلنا نكتشف معه الحقيقة التي يعرفها منذ زمن، وهي أن الموت والوحدة قدر الإنسان، وليس للإنسان سوى الحب يواجه به ذلك القدر، وبفضله يصبح لكل شئ معنى، حتى وإن كان ذلك الحب عبئا.. إن رواية ماركيز قصيدة عن أهمية الحب، ودعوة للناس لكي يدركوا أن عليهم أن يبحثوا عن ذلك الشعور الملهم قبل أن يغمرهم الندم.