ترجمة رامبو

ترجمة رامبو

علي حسن الفواز
يتوهم كثيرا من يقول ان الترجمة خيانة، أو انها خطيئة تعمد الى العبث بسرانية جسد آخر لايخصنا، تعبث بقانونه الصوتي وقانونه الاستعاري. لكن لنتصور قليلا عالما من دون ترجمات ودون مترجمين اودون مكتبات تظللنا بسقوف المعارف الكونية،

فهل كنا سنعرف سقراط وارسطو وافلاطون وشكسبير وجيمس جويس وفوكنر واليوت وطاغور وآنا اخماتوفا وعزرا باوند وفوكو ودريدا وبارت ومالارميه وفولتير وبودلير وآرثر رامبو ودريدا وهابرماز وغيرهم.
الترجمة ازاء كل ذلك جعلت هؤلاء يخصوننا، اذ يمكننا مشاطرتهم اسرار وجودهم وكتاباتهم ونظامهم المعرفي وانزياحاتهم التي تشطح باللغة والجسد والامكنة..
هذه التوطئة افترضها ضرورية وانا اكرر قراءة اوراق الترجمة الكاملة لاعمال رامبو الشعرية التي قدمها الشاعر والمترجم كاظم جهاد(طبعة دار الجمل 2007) فهذه الترجمة تعكس وعيا بحثيا منهجيا يؤسس مشروعه على اساس اعادة انتاج ظاهرة رامبو الشعرية في سياق ثقافي متكامل، بالاتجاه الذي يجعل هذه الترجمة متميزة عن غيرها، اذ هي تتعاطي مع التفاصيل الدقيقة الخفية والمهملة احيانا في حياة رامبو وشعريته.
سعي كاظم جهاد الى قراءة رامبو الصاخب والنافر وتقديمه كأثر شعري وثقافي واسع، وليس كظاهرة كرستها البعض من(الاشاعات الشعرية) ينطلق من احساسه الشعري اساسا بان رامبو وقع تحت تهويمات هذه الاشاعة والاستعراض كثيرا، وان ظاهرته بحاجة الى نمط اخر من القراءة، تلك التي تقدمه الى قارىء يعرف اشياء عامة عن رامبو، لكنه لايضعه في الصورة المتكاملة. فرامبو صاحب (المركب السكران)هو المنحرف والمهووس والسكير والضال والتمرد على اغواء الامكنة، وهذه الصورة هي الراسخة والمكرسة والمكررة في الكثير من الثقافات الشعبية والرسمية والتي تحولت الى استعارة عمومية صالحة للتداول. ولعل الكثيرين لم يعرفوا عن رامبوغير هذا العمومي، لكن ظاهرته تستبطن مظاهر وتجليات اخرى، فهو القريب من هواجس الروح الثورية الرومانسية التي انحنت على ظواهر التحولات السياسية في القرن التاسع عشر، وهو الشاعر القريب من احلام (الكومونيين)في باريس، اذ يعدّ البعض ان انهياره الوجداني وتحوله السلوكي، وربما صمته المريع فيما بعد كان بسبب انهيار مُثله في رومانسية الثورة وقيم العدالة والحرية، تلك التي انهارت بعد انهيار ثورة الكومونة..
وهنا اجد تـأكيدا واضحا لما رآه البعض من ان هذه الترجمة تمثل محاولة عميقة في السعي الى اكتمال ترجمة مشروع رامبو الشعري، اذ يبدو هذا التأكيد رغم رومانسيته، فانه يعكس اهمية وفاعلية هذه الترجمة وخصوصيتها في التعاطي مع ظاهرة رامبو الشعرية والانسانية وطبائع تمرداته الصاخبة، تلك التي عكست تمرد الشعرية ذاتها على تاريخها ونمطها وقلقها. فضلا عن ان هذه الترجمة عمدت الى التعاطي مع حياة رامبو ذاتها باعتبارها جزءا من ظاهرته الشعرية، تلك التي لم يتم الكشف عن الكثير منها والتي كانت تمور بالكثير من الغموض والاسرار التي جعلته ينأى عن الكتابة فجأة ويذهب بعيدا باتجاه مجاهل افريقيا بحثا عن كنوز ضائعة او(برغماتيات واستكشافات) لم يعرفها سوى ما كان يُسمع من تجار العاج والاسلحة. واعتقد ان التعاطي مع هذه الموضوعة في سياق انتاج(متحف)ترجمي تعريفي لرامبو تحتاج ايضا الى المزيد من القراءة والتقصي والبحث في الأثر الذي تركه رامبو في المدن التي وصل اليها..
هذه الترجمة الواسعة والعميقة تؤكد وعي الشاعر المترجم في ضرورات التعاطي العلمي مع المنهجة الترجمية بوصفها جزءا من صناعة الوعي بالظواهر مثلما هي ضرورية في اعادة انتاج مفهوم التراكم المعرفي وردم الفجوات الثقافية في قراءة تاريخ التحولات الشعرية، فالحديث عن استباقية رامبو في وعيه الحاد والجريء والعارف وانطلاقته المدهشة في كتابة قصيدة النثر لم تأت من فراغ، اذ يحتاج هذا الوصف الى قراءة العوامل والمؤثرات الفنية التي صنعت هذه الومضات التي تحولت الى(اشراقات)، فضلا عن العوامل الفكرية السرية التي اسهمت في تشكيل وعيه المتمرد الساخط الاحتجاجي واللذوي، وهذا بلاشك يحتاج ايضا الى تشريحات نفسية تؤكد علائقية شخصيته المنتجة الواعية بشخصيته النزقة المطرودة الهاربة واللاواعية..
لقد اعطت ترجمة كاظم جهاد للآثار الرامبوية روحا جديدة، عبّرت عن امكانية التوافر على ترجمات اخرى لشعراء أثرّوا في صناعة(العقل الشعر)الكوني،مثلما تجاوزت عقدة الترجمات الكاملة التي لم يقف عندها الكثيرون بدءا من خليل خوري الذي قرئناه صغارا وانتاهء بترجمات هنا وهناك لشوقي ابي شقرا ولبول شاؤول وغيرهم والتي كانت تلقي بنا الى فضاءات رامبو الموحشة.
ولعل مقدمته المتميزة بوعيها النقدي التحليلي تعطي لهذا الكتاب عمقا تعريفيا منظّما يعكس جدية مشروعه وتوافره على مكونات تقديم هذا المشروع الاكاديمي الاصل ليكون فضاء ثقافيا مفتوحا على استغراقات الثقاقة الشعرية الفرنسية في ادق حلقاتها توهجا وسرانية وفي عمق خطابها اللغوي الرمزي والروحي،مثلما يعكس تمكنه ايضا من ادواته ومن درسه العلمي ومنهجيته في البحث،ليس لتسليط الضوء على ماهو غامض في حياة رامبو الشعرية والنفسية ورحلاته الغامضة،بقدر ماهو سعي موضوعي لاجتراح سياقات فاعلة تؤكد صرامة الشرط الاكاديمي مقابل استحضار الشرط الجمالي الباعث على الغواية واللذة والاستشراف التعريفي للترجمة، باعتبارها علما وفنا في آن واحد،والتي تؤكد حيوية المترجم والاكاديمي العراقي وقدرته على الحضور الفاعل في المحافل الدولية والعربية، مثلما هي قدرته المتميزة على امكانية التوغل في المساحات الشعرية الخاصة الغامضة والمدهشة