الحمامات البغدادية ...

الحمامات البغدادية ...

مازن لطيف
تعود ظاهرة(الحمامات) عبر التاريخ لأسباب خدمية أضطلعت بها مفردات العمائر في الحياة الحضرية . وتعود جذور الأمر الى أزمنة قديمة ويرجعه الباحثون الى بابل أو قبلها في العراق القديم . وحدث أن أقتبسها اليونان ثم تلاهم الرومان إبان حقب التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب. بيد أن الأمر نسب تباعا للرومان من ضمن حيثيات المبالغات والمغالطات التي دسها الغرب في مدونات التاريخ ،

ويمكن أن يكون حمام كركلا الملك الشامي الآرامي الذي حكم روما و شُيّد أكبر الحمامات شهرة في التاريخ بين أعوام ٢١٢و٢١٦ق.م يدلل على الأصول الشرقية لهذا الضرب من الوظائف المدينية. وقد بالغ كركلا بما سجي من نزعة للخيلاء القيصري،و نفخ في المعلم حتى أتسع فضاء ذلك الحمام الى مجمع بنائي يتربع على عشرة هكتارات تقريباً ويحوي على البهوات و المغاطس والخلوات وحتى أماكن التسلية كالقاعات الرياضية والمكتبات والحدائق والأروقة.
ويحكى عن (بلاش ) ملك الساسانيين في المدائن(طيسفون) ( من عام 484 م - 488 م ) بأنه أمر بإنشاء الحمامات للعامة من العراقيين المتعودين عليه ، لكنه جلب على نفسه سخط الكهنة المجوس، لأنهم رأوا في ذلك انتهاكا لحرمة الدين. ولما جاء "قباذ" الساساني بعد ذلك واستولى على مدينة (آمد) أو ديار بكر الآرامية في شمال الرافدين ، ودخل أحد حماماتها العامة ، سر وتمتع به كثيرا ، وأمر أن يبنى حمام مثله في كل مدينة بالمملكة. ويؤكد الأمر الطبري في تأريخه، بأن الفرس لم يكن لهم قبل الإسلام حمامات .
ويحكى عن أبي بكر السلمي ( المتوفى عام 311 هـ –923 م ) أنه قيل له : لو حلقت شعرك في الحمام : فقال : لم يثبت عندي أن رسول الله (ص) دخل حماما قط (طبقات السبكي) .وفي مطالع البدور ج2، وينسب الى الإمام علي بن أبي طالب (ع) قولا نشكك به لخلافه مع طباع الإمام والمنهج الإسلامي،بأنه قال : بئس البيت الحمام، تكشف فيه العورات ، وترتفع فيه الأصوات، ولا تقرأ فيه آية من كتاب الله. ويحكى عن "الزمخشري" المعتزلي إنه قال : ويكره أن يعطي الرجل – امرأته – أجرة الحمام، لأنه يكون معينا لها على المكروه. وقد ذكر الخليفة القاهر عام 322هـ – 934 م عن أحد سلفه أنه بنى (حمامات رومية للحرم) (مسكويه ج5) . ومكث حتى اليوم المتشددين من المسلمين ينظرون إلى اتخاذ الحمامات العامة نظرة الارتياب.
وكلمة (حمام) وارد من كلمة "حمى" العربية التي تعني الحرارة المفرطة.ووردت متراكبة بصيغة(حمام تركي) لدى البعض بالرغم من أن الأتراك لم يتداولون الحمامات في بداوتهم السابقة في آسيا الوسطى،ومارسوها بعد الإسلام من ضمن ما أكتسبوه. ولم تكن الحمامات في الحضارة الإسلامية وليد صدفة وحاجة آنية اقتضاها توق ناس وردوا من بيئة الصحراء كما يشاع، لكنها جاءت سياق من ضمن نفحات الإسلام الأخلاقي الواردة من ثراء روحي محلي سابق بدهور، دعى وجسد طقوس التعمد والتندي والصب والتشطف والوضوء على درجاته وحاجاته ومكث حيا عند الصابئة المندائية وطقوس(المندي) العراقية، وولج المعمدانية دين النبي يحيى(ع)،ثم المسيحية بعمق وتقمصته شعوب أخرى كما الهنود ،ومارسته حتى اليوم.
وقد أمست النظافة سمة المؤمن التي كانت يوما محل تندر الغربيين على المسلمين في بؤر التلاقح والإقباس في الأندلس وجنوب أوربا والبلقان، حتى نعت نصارى الأندلس مسلميها غمزا ووصفوهم (كالوز الشغوف بالإغتسال). وأقتبست تلك الشعوب تباعا كل تلك الطقوس وتصاعدت به،وأصبح لصيقا بهم ،و تناسى القوم نسبها لأصلها وجالبها الأول من الشرق القديم.
وعلى خلاف الحمامات"الطبقية" لدى الإغريق والرومان التي أختصت بعلية القوم فأن المسلمين جعلوها مشاعية وعامة،و أدخلوا فيها الجانب القيمي ونبذوا الإبتذال. ومن الأمور التي وردت في التراث الإسلامي عملية ( التدليك) كنوع من العلاج الطبيعي ومكث في كل حمام (مدلكجي) مختص يفخر بحذقه المحل ،وعمل به حلاق للشعر كما كان يلحق به مطعم شعبي. واقام المسلمون في الحمام غرف البخار (الساونا)،و أدخلوا شبكات المياه في مواسير الرصاص أو الزنك إلى البيوت والحمامات والمساجد. وقد أورد كتاب "صناعات العرب" رسما وخرائط لشبكات المياه في بعض الحواظر الإسلامية. ومعروف أن الكيميائيين العرب قد اخترعوا أنواع متطورة من الصابون و منه الملون والمعطر، وآخر للعناية باليدين والقدمين.
وأهتم الأمويون في الشام بالحمامات، ونجد من تلك الحقبة(660-750م) أمثلة كثيرة مازالت تائهة في البوادي وحافظت على كينونتها الاولى. أما معالجات الحمام الزخرفية فلم تكن إسلامية البته، وإنما لفنون محلية أقدم، ففي قصير عمرة في البادية الأردنية(97هـ- 722م) وكذلك الحال في حمام الصرح (111هـ– 736م) الواقع في البادية الأردنية، نجد الرسوم التجسيدية والحال عينه تكرر بعد قرنين في حمامات سامراء حيث كانت الدرجات تزين بالصور بدلا من البلاط القاشاني الملون، وقد ذكر المسعودي أن الناس كانوا يصورون العنقاء في الحمامات، والعنقاء صورة لحيوان خيالي ،أسطوري عند الشرقيين، ويتمثل بطائر وجهه وجه إنسان، وله منقار نسر، وأربعة أجنحة من كل جانب ويدان ذوات مخالب. وكانت الحمامات تطلى بالقار وتسطح به، حتى يخيل للناظر أنها مبنية من رخام . وكان هذا القار يجلب من عين بين البصرة والكوفة يمكن أن يكون "ذي قار" أو الناصرية اليوم.
وقد قدر عدد الحمامات في بغداد وحدها في القرن الثالث الهجري (955 م) حوالي عشرة آلاف حمام. وبالغ بعض المؤرخين في العدد حيث ورد عند اليعقوبي أن ثمة خمسة آلاف حمام في الجانب الشرقي(الرصافة) من بغداد في القرن الثالث الهجري ، وكان في جانبي بغداد في النصف الاول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) عشرة آلاف ، وفي النصف الثاني كان بها خمسة آلاف فقط وهذا العدد لم يزل في نقصان، حتى يذكر في القرن السادس أنه كان في بغداد ألفا حمام. وبذلك يمكن اعتبار ميزان وسع المدينة و عدد ساكنيها وأهميتها مقرون بعدد حماماتها . أما بمصر فلم تكن العناية بإنشاء الحمامات كبيرة مثل ما كانت بالشام مثلا. ويذكر لنا المقريزي أنه كان بالفسطاط ألف ومائة وسبعون حماما وكانت حمامات القاهرة في عام 685 هـ – 1286 م ثمانين حماما فقط. وكان يقوم بخدمة الحمام خمسة أشخاص على الأقل: حمامي ، وقيم ، وزبال ووقاد ، وسقاء – وكان الوقود في الحمامات في الغالب من الزبل اليابس. وفي البلقان انتشرت الحمامات ابتداءا من القرن 15 الميلادي وبقيت حتى عند أفول نجم الإسلام في بعض أجزائه كما هو الحال اليوم في حمام مدينة بودابست عاصمة هنغاريا التي مازال يستعمل حتى اليوم.ومن الجدير بالذكر أن الأقليم (السواحيلي) في شرق أفريقيا لم تحتو مدائنه على هذا الضرب من المعالم الخدمية، على خلاف كل المدارس الإقليمية للعمران الإسلامي.
ومخطط الحمام يتبع دائما المدرسة العمارية التي أنشئ في كنفها مع الاشتراك في تقليد القباب الوسطية التي غلبت عليها.وعادة ما يأخذ بالحسبان التدرج الحراري لحجرات الحمام وإضفاء أجواء الراحة على مكان الاستراحة الذي يزدان بخرير نافورات المياه. ويتكون على العموم الحمام العام من الفضاءات العمارية التالية:
(القميم او القمين) : بيت النار في الحمامات القديمة .( البراني) : غرفة خلع ملابس لتهيئة الشخص للدخول إلى الحمام وحرارته تكون عادية .(الوسطاني) : حرارته أعلى من البراني ، وهو مكان لتجهيز الداخل إلى الجوانى بالأغطية والأدوات اللازمة للحمام . وكذلك لاعطائه الحرارة اللازمة للجوا ني وكذلك بالعكس لتهيئة الشخص الخارج من الجواني إلى البراني .(الجوانى) : مكان الحمام " وهو دائما عالي الحرارة ويضم مجموعة من المقصورات (جمع مقصورة).
وللحمام الشعبي مدخل صغير يطل على الزقاق أو الشارع ويقود الى بهو مغطى كبير تصف فيه أرائك خشبية متعددة فرشت بالصير ، في حين يجلس صاحب الحمام قرب الباب الخارجية ، ومن ضمن اجواء وطقوس وعادات الحمامات البغدادية هو دخول الزبون وفي يده صرّة بداخلها الملابس التي يرتديها المستحم بعد استحمامه ، ويأخذ أريكة ويبدأ بخلع ملابسه الخارجية وبعد ذلك يأتي العامل في الحمام بوزرة جافة يعطها للزبون ليغطي جسمه بها ، يدخل الزبون إلى قاعة الغسل التي هي عبارة عن أقبية وقباب تتخللها بعض الكوات الزجاجية المربعة والمدورة يغرض الإنارة الطبيعية ، أما في الليل فتستخدم قناديل زيتية حتى جاءت الكهرباء التي تشح اليوم .وفي داخل كل قبو هناك أحواض منفورة في الحجر متوسطة السعة تحيطها من الداخل حنفيات متعدد يجلس حولها المستحمون لمعادلة (مكاسر) الماء الحار والبارد. وتقع في وسط القاعة دكة كبيرة وعالية مبلطة بالاسفلت يجلس عليها الزبزن للتعرق ويضطجع الزبون عليها لكل يأتي دوره في عملية التدليك، حيث يقوم (المدلكجي) بالحك بكيس اسود خشن يرتديه في يده، ويمرره بقوة ذهابا وإيابا على جسم المستحم .و بعد انتهاء التدليك يقوم المستحم بضرب طاسة الغسل الحديدية على الحوض الصخري بمعنى انتهائه من الغسل ويأتي العامل بالمنشفة للمستحم ليلف وسط الخصر وعلى كتفيه ورأسه قبل كلمات "حمامك عوافي " ليسلمه ملابسه وقبل ارتدائه ملابسه يشرب المستحم الشاي أو الدارسين.
ويكثر حضور الزبائن إلى الحمامات الرجالية في بغداد أيام الخميس والجمعة وفي المناسبات مثل الزواج حيث يحضر العريس وكذلك أيام العيد وغيرها والكثير من رواد الحمامات هم الحرفيون ، وتكثر الحمامات في الرصافة اكثر من الكرخ كونها اكثر سكاناً.
ونتذكر جميعا شغف العراقيين بالحمام وطقوسه ومناسباته والتفريق بين(حمام البيت) و(حمام السوق) وأمست الفوضى والجلبة التي تشيعها النساء في الحمامات مضرب الأمثال فيقال مثل (حمام النسوان).وتتناقل الأجيال عن حمامات مكثت حتى عقود قليلة ماضية و استأصلتها الحداثة المتهورة ونتذكر منها ما بني منذ قرون خلت وتعود إلى بغداد قبل ألف عام ونيف وكان واقعاً في شارع المستنصر الذي يمتد إلى شارع الصابئة القديم . ونسب الى حيدر جلبي وهو من أثرياء بغداد في تلك العثمانية .ويذكر المرحوم جلال الحنفي بأن القوم ظنوا أن محلة الحيدرخانة تنسب إليه والأمر لم يكن كذلك.ومن أهم الحمامات البغدادية حمام بنجة علي ينسب هذا الحمام الى المقام والاثر المعروف ببنج علي ، وكان يقع بأزاء سوق الصفافير .وكذلك حمام حيدر الذي كان يمثل طراز حمامات بغداد القديمة ، والحمام منسوب الى حيدر جلبي احد وجهاء بغداد قبل اكثر من 450 عام ، يقع في محلة راس القرية ، وحمام الراعي يقع في محلة الشيخ عبد القادر ، وحمام السيد يحيى في محلة سوق الغزل بسوق العطارين ، وحمام الشامي وهو حمام قديم يقال انه انشأ في القرن السادس عشر و يقع في علاوي الشيخ صندل ، و حمام المالح ،وحمام الجسر ، وحمام كيجة جيلر ، و حمام القاضي ،و حمام الباشا ، وحمام بكتاش خان ، وغيرها من الحمامات البغدادية وقد اختفت هذه الحمامات من بغداد وقد بقي في الفترة الأخيرة بعض الحمامات التي تعد على أصابع اليد لأسباب عديدة منها شيوع الحمامات في البيوت الحداثية وكساد حرفتها، واليوم قلت أكثر لأسباب امنية كما كثير من مرافق الحياة. أما حمام البيت فيتألف في العادة من غرفة واحدة، او غرفتين متداخلتين . الاولى لتغير الملابس (المنزع) والثانية للاستحمام . وكان تسخين الماء يتم في المطبخ ، او من خلال موقد نفطي يقع تحت أرضية الحمام مباشرة . وكان وقود الحمام ، قبل استعمال النفط ، هو روث الحيوانات ثم استعمل الخشب. أما في الصيف ، فتستخدم النساء الحمام ، أما الرجال والأطفال فيستحمون ويطرطشون الماء في فناء الدار او الحوش المحفوظ من عيون الفضول، والذي أختفى في بناءات الحداثة المتضامة.