فرج فودة والعلمانية وإشكاليات الدولة الدينية

فرج فودة والعلمانية وإشكاليات الدولة الدينية

عمار كاظم محمد
يركز دعاة التيار الديني في نقدهم للعلمانية على نقطتين اساسيتين هما: ان العلمانية بمفهومها ومصطلحها الفلسفي هي انها نتاج مستورد وفكرة اجنبية، مثلما يؤكدون في النقطة الثانية على كونها مطلبا للأقليات في البلدان المتعددة الاثنيات والديانات والطوائف وفي الحقيقة ان هاتين الخصلتين ليستا بمثلبة ولا نقص في مفهوم العلمانية،

اما كون العلمانية مفهوماً أجنبياً مستورداً فبالتأكيد هو نتاج صراع طويل عانت فيه أوروبا من تدخل رجال الدين في شكل الدولة وبروز الصراع الطائفي نتيجة لمطامح اولئك المتشددين وطمعهم في النفوذ والسلطة، كان من نتيجة ذلك ان يستغل الصراع الطائفي من اجل تلك الاهداف لكن حركة الاصلاح العلماني التي ازاحت رجال الدين المتصارعين على تلك المناصب ومنع تدخل الدين في شؤون السياسة قد اديا بالنتيجة الى اضمحلال ذلك العنف الطائفي وحل السلم الاهلي الذي نعمت به اوروبا بعد عدة قرون من القتل وسفك الدماء واهدار ارواح الناس وضياع قوتهم ووسائل عيشهم، ومن الطبيعي ان عملية البناء وتحسين الاوضاع الاقتصادية والمعيشية للمجتمع لاتتم الا بوجود الامن الكافي الذي يوفر للعمل والحركة الفرصة المناسبة.

أما كون الفكرة مستوردة فهي مستوردة ولكنها علاج ووصفة ناجعة نتيجة لتجربة مريرة خاضتها أوروبا وعانت من تدخل الدين في شؤون السياسة وهو علاج لم يكن من دون ثمن فقد ازهقت الملايين من الارواح نتيجة لذلك فهل علينا ان ندفع الثمن نفسه لكي يعتبر هذا العلاج نابعاً من صميم الواقع الذي نعيشه؟ ولا ادري لماذا تتملك البعض حساسية الخشية من كل ماهو قادم من الخارج فما هي اذن قيمة التلاقح والتواصل الحضاري واين هو دورالعقل حينما لا يتم الاستفادة من تجارب الاخرين؟
ان هذا لايعني بالضرورة ان نأخذ التجربة بكل ابعادها ونستنسخها كما هي بقدر ما نستفيد من جوانبها الايجابية في ارساء اسس ودعائم السلم الاهليين وبالتأكيد ان تحقق السلم والامن يعقبها تحقق النمو والحركة الاقتصادية وتحسن الاوضاع المعيشية في الدولة والمجتمع.
النقطة الثانية التي تتمثل في كونها مطلبا للأقليات في الدول ذات الاثنيات والعرقيات المختلفة. ان هذا لايشكل قدحا في مفهوم العلمانية كفكرة فان طلب الاقليات بمعاملتهم على قدم المساواة مع غيرهم من ابناء الوطن ضمن الحقوق والواجبات القانونية التي يتضمنها الدستور العلماني يمثل طلبا مشروعا للجميع وليس فقط للأقليات حيث ان العلمانية بمفهوهما الديمقراطي السياسي الذي يتركز في معاملة الجميع على اساس المواطنة والانتماء بغض النظر عن الدين والمذهب والطائفة يمثل حلا عقلانيا هاما في تحقيق العدالة بين الجميع بدون تمييز فهل كانت الدولة الدينية تمارس فعلا هذا التعامل مع الجميع على اساس الشراكة في المواطنة دون النظر الى الدين والطائفة والعرق؟.
ان حركة التاريخ الطويل لظهور الدولة الدينية والذي زاد لدينا لو اعتبرنا الدولة الاسلامية دولة دينية بالمعنى الثيوقراطي منذ عام 41 للهجرة وحتى سقوط بغداد عام 556 هجرية هي بالتأكيد ليست بالفترة القصيرة وقد امتلأت شواهد وكتب التاريخ عبر الحقبتين الاموية والعباسية بالاضطهاد الواضح للأقليات والعرقيات غير العربية ناهيك عن غير المسلمين من الديانات، هذا اذا كان المقياس للدولة الدينية هو دولة الخلافة الاسلامية بشقيها الاموي والعباسي والذي يمثل بالنسبة للكثير من الاسلاميين اليوتوبيا التي يهربون فيها من مواجهة حقيقة الواقع المهزوم الذي تعيشه المجتمعات العربية وتخلفها الحضاري قياسا بما وصلت اليه الامم الاخرى.
وحقيقة القول اننا لو استعرضنا ما في كتب التاريخ من فضائع لاحتاج هذا البحث الى مساحة واسعة جدا يضيق المقام عن ذكرها وسأكتفي بايراد مثالين واضحين على ذلك هما اولا اجماع كتب التاريخ على ان الدولة الاموية كانت دولة تتعصب للجنس العربي وتعامل الاخرين من الداخلين في الاسلام من غير العرب باحتقار وازدراء وابسط مثال على ذلك هو التفريق في العطاء بين من يسمونهم الموالي وهو ما يقصد به غير العرب والعرب انفسهم ولا نريد ان نذكر ما وصلت اليه هذه التقسيمات الى تفريق بين المسلمين انفسهم الى مهاجرين وانصار وقرشيين وغير قرشيين من قبائل أخرى لأنه سيكون محل نقاش لنقطة أخرى سنأتي على ذكرها لاحقا.
المثال الثاني هو المرسوم الذي اصدره المتوكل العباسي كما ذكره السيوطي في كتاب تاريخ الخلفاء واورده ابن الاثير في الجزء العاشر من كتابه البداية والنهاية واقتبس هنا مانصه التالي: " امر المتوكل في السنة الثالثة من خلافته اهل الذمة ان يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وان يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلى على ان تكون عمائمهم ذات رقاع مختلفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين ايديهم وان يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم وان يحملوا في رقابهم كرات خشب كبيرة وان لايركبوا خيلا وان لايستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وامر بتخريب كنائسهم المحدثة وتضييق منازلهم المتسعة وان يعمل مما كان متسعا من منازلهم مسجدا وامر بتسوية قبورهم بالارض وكتب بذلك الى سائر الاقاليم والافاق والى كل بلد ورستاق " والتساؤل الذي يتبادر الى الذهن ترى لو ان دول العالم الاوربي والامريكي قامت بهذا الاجراء ضد المسلمين الذين يعيشون في بلدانهم الان فما هو رد الفعل على ذلك الا تخرج مظاهرات صاخبة وهتافات وزعيق وشعارات فارغة تستذكر الحروب الصليبية والعداء للعرب والاسلام... الخ فلماذا نستنكر ذلك ولا نستنكر ما كانت الدولة الدينية تفعله من تمييز ومن غزوات تعتبر فيها نساء الدول التي تخضع للفتوحات سبايا واموالهم غنائم وقتلهم جهاداً في سبيل الله كما يدعون؟.
وقد يقال ان الاسلام كدين لم يأمر بهذا وان الدين غير الرجال وهذا صحيح من الناحية النظرية باعتبار تعاليم الدين هي غير السياسة الاموية والعباسية لكن خمسمئة عام من الحكم التي يعتبرها البعض على انها الفترة الذهبية التي ساد فيها العرب على غيرهم من الامم هي تلك الفترتين وهي الخلافة الاسلامية للدولة كما تذكرها كتب التاريخ وكما يعرف بها لدى الشرق والغرب، وحقيقة الامر ان العدالة التي ينشدها الاسلام في المجتمع هي غير العدالة التي تحققت في واقع الدولة الاسلامية كتاريخ مكتوب، ماعدا دولة الرسول والخلفاء الراشدين، اي ان هناك فرقا شاسعا بين الدولة التي ينشدها الاسلام وبين الدولة الاسلامية الواقعية كما ظهرت في كتب التاريخ او بمعنى آخر هو وجود هوة كبيرة بين النظرية والتطبيق وقد لعبت السياسة والنزاعات والخصومات دورا كبيرا في قلب الموازين حسب اهواء الفئات التي حكمت وتوجهاتها آنذاك.
هناك احتجاج أخير طالما تشدق به اصحاب النزعات والتشدد الديني هو تلك العبارة الممجوجة التي تتكرر في كل حين وهي ان العلمانية بطبيعتها هي "حكم بغير ما انزل الله" فهل كانت الدولة الدينية على مقاييس الدولة الاموية والعباسية حكما بما انزل الله؟ ولننظر في بعض الشواهد على ذلك ماذكره كتاب العقد الفريد المجلد الرابع وتاريخ الخلفاء للسيوطي، انه لما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة خطب في الناس قائلا: " اما بعد فلست بالخليفة المستضعف ولا الخليفة المداهن ولا الخليفة المأمون الا اني اداوي ادواء هذه الامة بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، الا ان الجامعة التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي، والله لايفعل احد فعله الا جعلتها في عنقه. والله لا يامرني احد بتقوى الله بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه...ثم نزل " الشاهد الثاني قول الحجاج " والله لا آمر احدا ان يخرج من باب من ابواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه الا ضربت عنقه " الشاهد الثالث المنصور العباسي ويحدد المنصور في إحدى خطبه برنامجه السياسي بوضوح لا لبس فيه:».أخذ بقائم سيفه فقال: أيها الناس إن بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به!) الشاهد الرابع هارون الرشيد عندما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي فراودها عن نفسها فقالت لا أصلح لك، إن أباك قد طاف بي لكنه شغف
بها فأرسل إلى أبي يوسف قاضيه الشهير والذي لقب (بفقيه الأرض وقاضيها! -)
فسأله الرشيد: أعندك في هذا شيء؟! وجاءه الجواب:(اهتك حرمة أبيك واقض شهوته وصيره في رقبتي. هذه بعض من الشواهد التي وجدتها في دراسة الدكتور امام عبد الفتاح امام المعنونة "الطاغية " سلسلة عالم المعرفة وبالتأكيد فان الباحث في كتب التاريخ سيجد مئات بل الاف الشواهد على امثال هذه الحالات من الخروج على حكم الله وعلى الشرع والدين والعقل مما نأنف عن ذكره في هذا المجال ثم ان التساؤل عن هذه العبارة الغامضة من وجهة النظر المنطقية يفرض علينا القول عما يعنيه المتحدث بحكم الله وهو سؤال يجب ان يستكمل وهو حكم الله من وجهة نظر من؟ ان الانقسامات الطائفية والدينية قد خلقت اسلامات متعددة في داخل الاسلام فما يعتبره البعض حكم الله لايراه البعض الآخر كذلك وهكذا سنظل في دوامة لانهاية لها من التساؤلات عن ماهية الدولة الدينية في ظل الاشكالية المنبثقة من تعدد وجوه الدين بوجود الطوائف والمذاهب وصراعاتها التي لا تنتهي.
ان حل العلمانية بتوأمها الديمقراطي هو بالتأكيد افضل الحلول المتاحة لحل تلك الاشكاليات الدينية ويتمثل هذا مستعيرا بعض ماورد في كتاب الراحل فرج فودة " حوار حول العلمانية "في اسس الدولة العلمانية التي تنص على ما يلي اولا ان حق المواطنة هو الاساس في الانتماء بمعنى اننا جميعا عراقيون سواء كنا مسلمين من طوائف متعددة ام غير مسلمين، ثانيا ان الاساس في الحكم هو الدستور الذي يساوي بين الجميع ويكفل حرية العقيدة دون قيود، ثالثا ان المصلحة العامة والخاصة هي اساس التشريع، رابعا ان نظام الحكم مدني يستمد شرعيته من الدستور والانتخابات ويسعى لتحقيق العدالة من خلال القانون والالتزام بميثاق حقوق الانسان بمضمونه الحضاري العام، واعتقد ان هذا الشكل هو ما نسعى اليه جميعا بعيدا عن المحاصصات والصراعات متطلعين لرؤية غد مشرق في عراق يتعايش فيه الجميع بمحبة وسلام.