سركون بولص

سركون بولص

عاش دوماً في زمن مقبل
جاد الحاج
لن يكون رحيله مفاجأة كرحيل من إذا رحل... راح، فهو المرتحل أبداً إن بين قارات الأرض وإن في أصقاع المغامرة، وإن في الكلمة والحياة. وليس من قبيل التأدّب أن قصائده الماضية هي أجمل القصائد يوم ننهض من كبوة الحاضر.

عاش سركون بولص دائماً في غد الزمن المقبل. كلّ غروب رفّت له عيناه كان فجراً. هذا الأشوري الذي مشى صافياً كالبرق من العراق عبر الصحراء إلى سوريا فلبنان كي يلتقي قصائده المنشورة في «شعر» ولم يكن في جيبه فلس ولا قطرة تعب على جبينه، هذا الأشوري ظلّ يبتسم هازئًا بكل الصعاب، بلا بيت، بلا جواز سفر، بلا نعل غير الذي ألصقته رمال القيظ بقدميه.
طالما قال لي يوسف الخال ان قصائد سركون أدركته في بيروت مثلما تظهر طيور غريبة فجأة على النافذة، ترمقك بشزر، تحطك في قلقك وتختفي، كأنها بانت في منام. وحين وصل سركون في أوائل الستينات إلى عتبة يوسف كان يشبه ناطوراً عارك الذئاب فأكلها وما تركت فيه سوى خدوش طفيفة: أنا هنا! هربت من سجن بلادي ومن شجونها وما معي سوى هذا القلم!
كانت مراحل عبوره إلى الولايات المتحدة مسبوقة بتسكعه في بـيـروت يوم كانـت بيروت مملكة الشعراء. الكل قلقوا عليه وجهدوا لاستصدار جواز له من الأمم المتحدة. وبقيت جيوبه مملوءة بالقصائد وبقي هو مبتسماً في وجه التوقعات. ذلك الثبات لديه، تلك الصلابة، توّجهما دائماً بضحكته البيضاء. وحين صعد إلى الطائرة أخيراً لم يلوّح لأحد. كأنه كان مدركاً أن خميرة حضوره باقية في معجن ذاكرتنا. وكان على حق.في مطلع الثمانينات، وفيما الحرب تأكل لبنان، قيَّض لي الإمساك برسن الحظ لمرة فأرسلت «أستنقبه» من سان فرنسيسكو إلى أثينا بعدما اكتنفت غيابه غمامة طويلة: تعال إلى القرب يا سيرغي، أثينا عوضاً عن بيروت.ثلاثة أعوام بين 1982 و1985 تبدو لي اليوم مثل مدى ازرق لا يؤطره زيح، ولو أن سركون كان قانطاً تماماً من جدوى النشر في العالم العربي. يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب. تحت السرير، تحت الوسادة، بين الصوفا والجدار، في جيوبه الذاهبة إلى الغسيل... كنت أصطاد القصائد له وأحاول زحزحة عناده حيال نشرها. أخيراً قبل على مضض كؤود، وهكذا أخذت ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» وطبعته في بيروت وحملته له كي يفرح.
حكايتي مع سركون أطول من طريقنا معاً بين سان فرنسيسكو ورينو طوال الليل بدعم سائل من الصديق البني جاك دانييلز... إلا ان ذكرى يوم معين في مقهى مهجور على شاطئ بيريوس بانتظار سفينة تقلنا إلى الجزر الإيجية والريح تعبث بالبحر وبأحلامنا، تلك الذكرى أخذتني اليوم إلى دفاتري المهجورة حيث قرأت من سطور سركون: «قبل أن نترك هذا الميناء، قبل أن نجرع هذه الجعة، قبل أن يفرغ صحن اللوز، علي أن أتذكر. في الصباح كانت نياتي واضحة: أن أجد حلاقاً. في لندن ترددت في أن أسلّم رأسي إلى حلاق إنكليزي. دخلت دكان حلاق في باريس كانت له أخت في تكساس حدثني عنها طويلاً، بفرنسية – انكليزية – إشارية، فهمتها جيداً متعاطفاً معه: البعد، الأخت البعيدة. ولكنه نسي أن يقص شعري».
كان ذلك صباح الحادي عشر من الشهر الأخير من سنة 1982 وكان معنا دفتر نكتب فيه مداورة كلّ ما من شأنه الاحتيال على الزمن.
عن السفير اللبنانية

الرائد بامتياز و ... المظلوم
نوري الجرَّاح
عندما يتوقف قلب شاعر له قامة سركون بولص، الرائد بامتياز، في حركة الشعر العربي الحديث، والمظلوم بامتياز من أقرب الأقرباء، ممن سبقه منهم ومن لحقه، عندما نخسر هذا المغامر الفاتن، والرفيق الغالي، المنتَظَر ببهجة، هو وقصيدته، هل سيكون في وسعنا أن نعود إلى أنفسنا كما كنا؟
لقد فقدنا، اليوم، رفيقاً في رحلة قاتلة. اقتسمنا معه المنفى الأكثر عبثية لشرقيين بلا أمل.
وضيعناه في مكان ما من هذه التغريبة.
هل من جديد؟ إنها الأمثولة نفسها: نفقد ونندم، ثم نفقد ونفقد ونندم.
كنت كتبت لك رسالة طويلة يا سركون عن أشياء طريفة من صيف مضى. هل تذكر؟ وها أنا أفقد خفّتي، وأمحو كل شيء.
أيها الشاعر، الموت ينحني لك لتمر.


كل يوم ... بيومه
أنطوان جوكي
لا. لن أبكي على رحيل سركون، لن ألومه «لوم الصديق» على عدم اعتنائه بصحته التي تدهورت في شكل خطير بين لقائنا الأول في مهرجان «أصوات المتوسط» عام 2005 ولقائنا الثاني في المهرجان ذاته في أقل من ثلاثة أشهر.
هكذا عرفته، بعدما عكفت على ترجمة شعره إلى الفرنسية. يعيش كل يوم بيومه، حتى الثمالة، وكأنه يومه الأخير. لا. لن أسرد صفاته اليوم أو أتحدث عن شخصيته التي أسرت كل الذين عرفوه بالطريقة ذاتها وتبيّن لي بسرعة أنها الشخصية العربية الوحيدة التي يجتمع جميع الشعراء والمثقفين العرب على مدحها.
سأقول فقط أنه بهذا الإجماع إنجازاً فريداً وصلباً على أرضيتنا الرملية المتحركة وتحوّل إلى مثالٍ مشترك لنا كإنسانٍ وشاعر.


لقاء أول به ... وأخير
فاطمة ناعوت
كان لقائي الأولُ به هو الأخير فعلاً. لم أترك بابَ صديق من الأدباء إلا طرقته بحثاً عن وسيلة اتصال به، عن رقم تليفون، إيميل، عنوان بريدي. أي شيء! الكلُّ أجابني أن أرقامه سريّةٌ وأنه يحب عزلته التي اختارها لنفسه في سان فرانسيسكو منذ عقود.
بعد دعوتي الى المشاركة في مهرجان الشعر العالميّ في روتردام هذه السنة، راسلني فيليم آنكر، أحد مسؤولي لجنة المهرجان، قائلاً إنهم كانوا يودون دعوة سركون بولص، الشاعر العراقي الكبير، لكن أعيتهم سبل الوصول إليه! لذلك ما باليد حيلة وسأكون وحدي العربية! وأنا كذلك أعيتني الحيل. لكنني لم أيأس كما يئسوا هم. فمَن أجملُ منه يمثّل شعراء العرب في المهرجان الهولنديّ؟ وحصلت بعد جهدٍ على إيميله من صديق. وراسلوه. ومن طيب الظروف أن لبّى وشرّف المهرجان بحضوره الجد جميل.
مادام يحب العزلة، أقول لنفسي، فبالتأكيد هو شخصٌ باطنيٌّ غيرُ اجتماعيّ ولا يحبُّ الناس.ّ واللقاء به، فضلاً عن مرافقته أسبوعاً كاملاً، سوف يكون عملاً ثقيلاً وصعباً. واطمأننتُ لقراري بعدم الاقتراب منه، والكلام معه في أضيق الحدود. على أنني لم أعد أذكر هذا القرار إلا الآن فقط فيما أكتب عنه في مماته. إذ بمجرد لقائي به لم أجد إلا أحد أجمل خلق الله، روحاً وبساطةً ورقياً وتواضعاً مشوباً بنرجسية رفيعة تليق بالشعراء. لكنّ ثمة وعداً لم يتم. فحين عرف افتتاني بـ «نبيّ» جبران، وعدني أن تكون أول نسخة، من ترجمته العربية التي يتوفر عليها تلك الأيام، لي.
غير مسموح لك أن تدخن على مقربة منه، بسبب آلام حنجرته. لكنك لن تعرف هذه المعلومة منه، فهو أرقُّ وأرقى من أن يطلب هذا، بل من أصدقائه العراقيين الذين يتوافدون من أنحاء أوروبا ليلتقوا حبيبهم المهاجر إلى بلاد العم سام منذ العام 1969. كي يتجمهروا حوله في مظاهرة حبٍّ تلقائية لا توجدها إلا حالٌ حقيقية من الإكبار والمحبة والفخر بهذا الشاعر الذي أنجبه العراق ليعتلي قمّة الشعر العربي مع قلة ممن يجارونه قامةً وعلوّاً.
أمسيةُ الافتتاح كانت مبرمجة ليلقي فيها كل شاعر قصيدة حول «كلمة» يحبها وتتكرر في شعره ويعدّها ملهمتَه. وحده سركون بولص صعد المنصّة ليقول: وماذا عن الكلمة التي «لا» أحبها؟ ثم قرأ قصيدة عنوانها: «الرئيس». لاعناً فيها كلَّ قامعٍ مستبدٍّ وفاشيّ. إنه الشاعر الذي يؤمن أن لا شيء فوق الشعر إلا الحرّية، وأن لا رئيس على الإنسان سوى نفسه وكلمته.
عن صحيفة السطر