جمعية باسم طاغور فـي بغداد..عندما زار الفـيلسوف الهندي العراق!

جمعية باسم طاغور فـي بغداد..عندما زار الفـيلسوف الهندي العراق!

سالم الالوسي
كان المستر "مايترا" المستشار الثقافـي فـي سفارة الهند ببغداد يسعى سعيا حثيثا لتأسيس جمعية ثقافـية تحمل اسم الشاعر الفـيلسوف الهندي "طاغور"، وقد اقام لهذا الغرض دعوة شاي بداره الواقعة فـي منطقة العطيفـية بجانب الكرخ، دعا اليها عددا من الاساتذة الشعراء والادباء والفنانين ورجال الصحافة، القى خلالها محاضرة عن "رابندرانات طاغور" ومكانته العالمية فـي الادب والشعر والمسرح وكان ذلك ربيع عام 1960.

جلسة ادبية
وفـي خريف العام نفسه دعانا الشاعر الكبير الاستاذ حافظ جميل الى وليمة عشاء بداره تكريما للسيد "مايترا" حضرها عدد من الشخصيات الادبية والسياسية والصحفـية منهم الاساتذة: محمد سليم الراضي – سفـير العراق فـي الهند سابقا، والدكتور مصطفى جواد، حقي الشبلي، جعفر الخليلي، فؤاد عباس، مشكور الاسدي، احمد حامد الصراف، صبيح الغافقي، طلعت شوكة، وعدد آخر من الادباء والفنانين وكاتب هذه الكلمة.
تحولت الوليمة الى جلسة ادبية شعية من الطراز الاول دار فـيها الحديث عن طاغور وشعره ومسرحياته ودعواته الاصلاحية التي اكسبته شهرة عالمية فوصف بـ "شاعر الحب والسلام" وقد تحدث كل من الاساتذين احمد حامد الصراف وجعفر الخليلي عن اشعار طاغور المترجمة الى الفارسية وغيرها من اللغات، ثم تكلم الاستاذ محمد سليم الراضي والاستاذ فؤاد عباس عن طاغور ومساعيه ودعوته لنشر مفاهيم السلام والتعاون بين الامم ونبذ العنف والحروب التي عانت منها البشرية وما تركته من كوارث وفواجع، وقد وصف الاستاذ الصراف زيارة طاغور الى العراق عام 1931، كما اقترح ان تتولى الجمعية المفترح تأسيسها الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاده "1861" والذكرى العشرينية لوفاته فـي 7/8/1941 توثيقا لروابط الصداقة بين الشعبين العراقي والهندي، وقد رحب الحاضرون بالفكرة وفـي مقدمتهم السيد "مايترا" الذي قال انه سيعمل جادا ليكون هذا الاحتفال على المستوى الرسمي بالتعاون والتنسيق بين الجهات الثقافـية فـي العراق والهند كخطوة اولى تتبعها خطوات لدعم التعاون بين البلدين الصديقين.
انتقل الحديث بعدها الى زيارة الفـيلسوف "طاغور" الى العراق فـي الربع الاول من عام 1931 وقد تولى الاستاذ احمد حامد الصراف وصف مظاهر الاستقبال والحفاوة التي قوبل بها شاعر الهند الكبير وقد جاءت هذه الزيارة تلبية لدعوة من الملك فـيصل الاول، اشرفت عليها وزارة المعارف على عهد وزيرها السيد عبد الحسين الجلبي فـي وزارة نوري السعيد الاولى،. وقد نهضت الوزارة بالمهمة فشكلت هيئة استقبال مؤلفة من: الشاعر جميل صدقي الزهاوي، الدكتور محمد فاضل الجمالي، العلامة محمد بهجة الاثري، المترجم الاستاذ عبد المسيح وزير وقد توجهت الهيئة الى خانقين لاستقبال الضيف القادم من ايران، وقد صحب الهيئة المصور ارشاك.

تكريم طاغور فـي بغداد
اقيمت لطاغور عدة حفلات وولائم احتفاءً به وتقديرا لمنزلته، تبارى فـيها الشعراء والادباء ورجال الصحافة كان فـي مقدمتهم الزهاوي والاستاذ الاثري، كان الاستاذ الصراف كشير الاشادة بالزهاوي وبقصيدته، هنا انبرى الشاعر الاستاذ حافظ جميل معقباً بقوله انه يفضل قصيدة الاثري على قصيدة الزهاوي لكونها ارقى سبكا وابلغ نظما وادق تعبيرا، يضاف الى ذلك مضامينها الوطنية والقومية، اؤكد على ذلك – والقول لحافظ – وعلى مسؤوليتي كشاعر. وقد اصطف الاديب الشاعر جعفر الخليلي الى جانب حافظ جميل فـي الاشادة بالمستوى الرفـيع لقصيدة الاثري، لانها شعر بمعنى الكلمة، بينما جاءت قصيدة الزهاوي خيالية ضعيفة لا ترقى الى المستوى المأمول من شاعر كبير مثله. ولما احتدم الجدل والنقاش بين الحاضرين نهض الشاعر حافظ الى مكتبته وعرض ديوان الزهاوي وصحيفة من الصحف البغدادية التي نشرت قصيدة الاستاذ الاثري وطلب الى الاستاذ الصراف ان يقرأ قصيدة الزهاوي، والى الاستاذ فؤاد عباس قراءة قصيدة الاثري، وبعد ذلك طلب الى الحاضرين التحكيم والمفاضلة بينهما، وقد اجمع الحاضرون على حيازة الاستاذ الاثري قصب السبق وانه المجلي فـي ميدان الشعر.
وتوثيقا لهذه الجلسة الادبية الشعية، وحفاظا على الامانة التاريخية ننشر القصيدتين ليطلع عليهما القراء:
قصيدة الزهاوي
كنت "طاغور" ماثلا فـي خيالي
حيثما التفت اجدك حيالي
عن يميني اذا نظرت يميني
وشمالي اذا نظرت شمالي
مثل نجم يهوي ابتساما جميلا
فـي دجى الليل من مكان عالٍ
وانا باسط اليك يدي فـي
ضرع اليائس الكثير الملال
قلت لي ان اردت ان نتناجى
فادن مني وفـي الدنو تعال
قلت لا استطيع ذاك لاني
من شكوكي اسوح فـي الاوحال
قلت حاولت منها بنفسك افلا
تا فحاولته فبان كلالي
وضعت فـي جيدي الطبيعة اغلا
لا فما حيلتي مع الاغلال
ما بوسعي الدنو الا اذا حر
وتني او خففت الغالي
ثم لما تصرم الليل ينأى
وبدا الصبح ابيض الاذيال
لفظ الناس من كراها تحيي
موكب الشمس طالعا فـي جلال
لم يكن قد بان يومئذ لي
غير طيف من الحقيقة خال
وارى اليوم بالنواظر ماقد
كنت قبلا رأيته فـي الخيال

عتاب الاثري !
كانت الاوضاع السياسية فـي العراق مضطربة وغير مستقرة وعواطف الشعب ثائرة مائجة، والصحافة الوطنية تهاجم سياسة نوري السعيد وخضعه لمشيئة الانكليز وتنفـيذه رغباتهم بسبب عقده معاهدة 1930 الجائرة، وقد عمدت الدوائر الاستعمارية البريطانية بخبث ودناءة الى ان تجعل تاريخ ابرام هذه المعاهدة التي رفضها الشعب العراقي بكل اباء وكبرياء "يوم 30 حزيران" وهو تاريخ ثورة الشعب العراقي ضد الاحتلال الانكليزي للعراق.
نقول فـي هذا الجو المشحون بالعواطف الثائرة ضد الاحتلال والمعاهدة، والغليان الشعبي على اشده كرها للانكليز ومعارضة لوزارة نوري السعيد، تتزامن زيارة الفـيلسوف الهندي "طاغور" داعية الحب والسلام، ويومها فسرتها الاوساط الوطنية بانها –اي الزيارة – قد خطط لها وكانما جيء بطاغور لنشر دعابةة مغلفة تهدف الى السكينة والهدوء ورفض العنف، وبكلمة اخرى التخفـيف من معارضة الشعب العراقي للسياسة الانكليزية والدعوة الى المسالمة، وعلى قدر موجبات اللياقة مع ضيف الملك فـيصل الاول، وجه اليه العلامة الاثري قصيدة يحتفـي بها بشاعر الهند، ضيف العراق ضمنها عبارات، يشم من ثناياها بعض العتاب مؤكدا على ان المسالمة تختلف من حال الى حال، فقد تكون فـي بعض الاحوال من موقع القوة والاقتدار، وتقتضيها الحكمة والتدبير، وقد تكون من عوامل العجز والقصور، فتكون حينئذ خضوعا وانقيادا للسياسة الغاشمة، فلنستمع ونقرأ قصيدة العلامة الاثري التي قال فـيها:
بسمت لبغداد وبغداد ثاكله
فلم تر الا ان تهش مجاملة
وبغداد ثغر صاغه الله باسما
لكل اديب حط فـيها رواحله
محلة اجواد على بعد عهدها
عن البدر تقري الضيف بالروح عاجلة
هواها العلى فالمس نوازي نبضها
تجد وثبات الدم فـيهن جافلة
وغن لها اغنية المجد تمتلك
هواها وذكرها الذوابل عاسله
هنالك ان تفعل تر اليوم امه
اعز من الاقدار جاشت مقاتله
وما هي الا ان ترى الامر سائحا
وما هي الا ان تثور مصاوله
لها عزمة فـيها اناة ومن يكن
كذلك يصبر او يعز قبائله
اذا ما اقشعر الدهر فارقب فعالها
واصغ الى صوت القواضب قاصلة
الا.. لايرعك القول مني اقوله
وان بك ضدا للذي جئت حامله
فانا على حال اذا ما دريته
عذرت ورمت العفو ان كنت جاهله
وقد يدع الرأي امرؤ متصلب
وينصر رأيا عاش دهراً مناضله