عطا صبري.. ذكريات وتجارب

عطا صبري.. ذكريات وتجارب

عن مجلة "فنون" ت1- 1978
عاد عطا صبري عام 1940 وعمل موظفا براتب قدره خمسة عشر دينارا للرسم في الاثار الى ان اوفد الى انجلترا عام 1946 في - السليد سكول – التابعة لجامعة لندن ومن هنا نبدأ بنشر مذكرات الفنان "عطا صبري".

قبيل ان تندلع نيران الحرب العالمية الاولى، وبالتحديد في الاول من نيسان 1913 وفي مدينة كركوك، كانت ولادتي.. ولما كان والدي (حسن سامي) ضابطا في الجيش العثماني وبرتبة رئيس اول، فقد شد رحاله وذهب لمحاربة الانجليز في الجبهة العراقية. ويقع اسيرا بيد القوات البريطانية التي ترسله الى معسكرات الاعتقال للضابط الاتراك والالمان سواء في مصر والهند وغيرها، وعند نهاية الحرب اطلق الانجليز سراحه.
وفي تلك الفترة التي غطتها سحب دخان الحرب توفيت والدتي، وعندما عاد ابي الى الوطن لم يجد في بيته ببغداد غير طفل صغير ضعيف اسمه (عطا صبري). وهكذا لم يجد الصغير امامه سوى الارتماء في احضان والده، ووجد الوال سلواه في مداعبة طفله الصغير وممارسة هوايته المفضلة: الرسم.
كان والدي دقيقا في التعبير عن ملامح الاشخاص وتفاصيل المناظر الطبيعية والازهار والاشكال الثابتة، ولا ازال احتفظ بمجموعة من رسومه.
ان مشاهداتي المبكرة لوالدي وهو يرسم لوحاته وصوره بالاصباغ المائية والزيتية، كانت هي اول معرفتي بهذا الفن، كما كان تشجيع والدي لي هو الحافز الاول لكي ارسم.
ورغم ان والدي، رغبة منه بملء فراغ الأم الراحلة، قد تزوج للمرة الثانية، غير انني بقيت محروما من حنان الأم الذي لا يعوض.
دخلت مدرسة التفيض الاهلية، وكان موقعها في ذلك الوقت خلف محافظة بغداد وامانة العاصمة اليوم، ومدرسة التفيض كانت واحدة من اشهر مدرستين في بغداد، والمدرسة الاخرى هي الجعفرية الاهلية.
كان لزاما علينا، نحن تلامذة تلك المدرسة، ان نعتمر السدارة المعمولة من جلد الخروف.. ومن يخالف ذلك يعرض نفسه للعقوبات والى السخرية.
من المعلمين الذين درسوني الرسم، المرحوم ناصر عوني، والمرحوم محمد صالح زكي ووالدي الذي عين مدرسا للرسم بعد تقاعده لرفضه الاشتغال مع الضابط الانجليز.
في مدرستنا (التفيض الاهلية) كانت هنالك فرقة تمثيلية، ومن اعضائها (حقي الشبلي) و(احمد حقي) وغيرهما، وكان لهذه الفرقة عروضها في (سينما رويال)، كما كانت تسافر الى البصرة والمدن الاخرى لجمع التبرعات للمدرسة ومعلميها! لأن المعلمين – حينذاك – يتسلمون رواتبهم مرة كل ستة اشهر او اكثر، ومن التبرعات التي تصل اليهم في المدرسة.
وعندما كانت فرقة المدرسة للتمثيل تقدم عروضها على سينما رويال، كنا نقف بملابس الكشافة للمحافظة على النظام في قاعة السينما وللحفاظ على كراسيها من عبث العابثين.
كانت هنالك "لوحتان كبيرتان على جانبي المسرح تمثل كل منهما راقصات وهن يلوحن بالزهور، كما كانت لوحات مرسومة اخرى على المقصورات، ولا اعرف بالضبط ما حل بهذه الصور، ربما رميت في الانقاض عندما هدموا السينما في السنوات الاخيرة، والتي حل محلها الان موقف للسيارات.
كان والدي صديقا للرسامين امثال: عبد الكريم الرسام، والحاج سليم والد الفنان جواد سليم وغيرهما، ومن الاماكن التي اتخذوها ملتقى لهم، مقهى (حسن العجمي) وكذلك (قهوة الشط) التي كان في الطابق الثاني وعلى السوق، وكنت اتردد مع ابي على هذه المقهى لكي اتفرج على البواخر التي كانت اغلبها تعود لـ (بيت لنج). كانت لحظات حلوة وانا اتابع حركة المراكب النهرية وهي تشق طريقها بين امواج النهر، والحمالين في ذهابهم ومجيئهم وهم يفرغون البضائع وينقلونها. في الوقت نفسه كان عدد من المتقاعدين يتجاذبون اطراف الحديث عن ذكريات شبابهم الغابر.
وفي يوم من ايام العيد اخذني والدي معه لزيارة صديقه (عبد الكريم الرسام) الذي كنت انظر اليه بدهشة لاناقته التي يبالغ فيها وخاتمه الماسي ومشيته في الشارع ويده تمسك (الباصطون).
حين دخلنا عليه، كان عنده جمع غفير من اصدقائه العسكريين القدامى، وشدتني اللوحات الزيتية في السرداب و(الطارمة) وفي الطابق الثاني. وكانت اكثر لوحاته الزيتية عن المناظر الطبيعية ومناظر من بغداد. ولما رجعت الى البيت، رسمت – كما اتذكر – باخرة في بحر هائج.
كنت متقدما في الرسم على زملائي طلاب مدرسة التفيض الاهلية لهذا حصلت على درجات عالية في درس الرسم، مما دفع مدير المدرسة (لمرحوم حسين العاني) الى ان يقدم لي جائزة تقديرية وامام جميع طلبة المدرسة.. وكانت تلك الجائزة التقديرية (برست كارت) ملون..
وفي احدى المرات، رسمت صورة بقلم الرصاص وقدمتها لمعلمي (العقيد المتقاعد محمد صالح زكي) الذي كتب على الصورة (هل هذا مينثور؟). ولاني لا اعرف معنى هذه الكلمة في فترة العشرينات – بقيت حائرا.. غير اني وبعد ان سافرت عام 1937 في بعثة فنية الى ايطاليا، عند ذاك عرفت ان تلك الكلمة تعني بالعربية: المتمتمات!.

تخرجت في الدراسة المتوسطة (الامتحان الوزاري) وفي مدرسة النفيض الاهلية واتجهت الرغبة بدخولي الى دار المعلمين الابتدائية. اخذني معه (المرحوم والدي حسن سامي) واخذت بعض التخطيطات والصور والرسوم التي رسمتها في التفيض الاهلية وفي الدراسة المتوسطة والابتدائية وكان (الدكتور منى عقراوي) مديرا للدار فدخل والدي عليه في الادارة واخذ الصور والرسومات والتخطيطات معه، ثم طلبني المدير للمقابلة وقال لوالدي سوف اقبله لانه رسام (اي لي قابلية في الرسم) وسوف اصدر جدولا باسماء المقبولين في الدار يوم غد لكي يطبع اسم ولدك (عطا صبري) معهم وهكذا شكره الدي وخرجنا وكنت فرحا جدا لهذا الدعم والتقدير للقابلية الفنية، وهذا اول دعم لي بعد والدي طبعا، وكان ذلك في سنة 1930 وكانت بناية دار المعلمين الابتدائية في الكرخ وفي محل المجلس النيابي القديم الذي اصبح بعد ذلك مستشفى واخيرا اصبح بعد هدمه حديقة عامة في محل البناية القديمة.
كان في الدار نوعان من التخصص والدراسة، الاول الشعبة الزراعية وكان يدرس فيها (المرحوم جعفر خياط) حيث رجع لتوه وبعد ان تخصص في الزراعة من كاليفورنيا / الولايات المتحدة، وبعد مدة الف الاستاذ جعفر كتابا للزراعة حيث كلفني برسم جميع الصور والتخطيطات فيه، وكانت الشعبة الثانية شعبة اللغة الانكليزية وفي الحقيقة كانت الدراسة فيها صعبة يدرسنا فيها (الدكتور متي عقراوي) اللغة الانجليزية والتربية وعلم النفس وبالانجليزية ايضا، والاستاذ الدباس، والاستاذ (جاك يحيى) خريج الجامعات البريطانية، ومدرس اخر امريكي الجنسية لا اتذكر اسمه الان، مع الاسف. كنا نقضي وقتا كبيرا وطويلا في الدراسة والتتبع والترجمة واستعمال القواميس، بينما جماعتنا (الشعبة الزراعية) السعداء يلبس قسم منهم القبعة الكبيرة من الخيص والبنطلون الخاكي وعلى كتفهم المسحاة. وكان مدرس الرسم عند ذاك (الاستاذ شوكت سليمان) وهو الان قيد الحياة ومتقاعد، فنظم لنا المرسم وعينني مسؤولا عن المرسم وادوات الرسم، وكنا نجتمع نحن الطلاب الذين نرغب الرسم ونرسم عصرا وفي اوقات الفراغ. في الحقيقة ان (الاستاذ شوكت سليمان) اهتم بنا كثيرا، فاخذنا نطالع عن الرسم والفنون بصورة عامة وبالانجليزية والعربية، ثم منعنا من نقل الصور منعا باتا، بينما مارسنا قبله الرسم وعلى شكل نقل اللوحات العالمية وللفنانين العالميين وكان ذلك من قبل جميع الرسامين.
ولاول مرة في حياتي الفنية اخذت بالرسم عن الطبيعة وعن الاشخاص ومن الخيال، وكان شديدا في الدرجات بينما المرحوم (فتحي صفوة) مدرس الاعمال اليدوية وعلى اختلاف انواعها وكان على العكس منه وكنا ندرس النجارة بصورة خاصة، وكنت اخذ الشيء السهل لي اي الرسم ووضع التصاميم للزخارف بينما مراقب الصف عندنا وهو (خيري يحيى الحافظ)، الرياضي ولاعب الكرة المعروف في الدار، ياخذ الناحية الصعبة بالنسبة لي وهو قطع الاخشاب وتصفيتها والتي تتطلب الجهد العضلي والقوة الجسدية. وكان يدرسنا علم الاجتماع والتاريخ (الاستاذ عبد الله الحاج) من لبنان وكان طويل القامة وعملاقا وحسب ما اتذكر كنا نعرف على انه كان ينام في الدار وفي الشتاء القارس البرد بالنسبة لنا كان ينام في (البالكون) وفي الهواء الطلق. وفي الحقيقة درسنا علم الاجتماع والتاريخ بشكل آخر وتماما يخطف عن تدريس هذه المادة ومن قبل الاساتذة الاخرين وفي المدارس الاخرى قبله. فكانوا نخبة ممتازة من المدرسين عندنا مثل (الاستاذ ابراهيم شوكت) و(الاستاذ صادق الملائكة) و(الدكتور ناجي معروف) و(لدكتور خالد الهاشمي) وغيرهم من الاساتذة. وفي سنة 1933 – 1934 فتحت (دار المعلمين العالية) واصبح (الدكتور متي عقراوي) عميدا لها وتحول العدد الكبير من الاساتذة الجيدين لها. وكان عندنا مدرس الرياضة (االمرحوم عبد الكريم عسيران) وهو من عائلة كبيرة ومشهورة في لبنان، وابنته اليوم الكائنة الشهيرة (ليلى عسيران). اما في دروس الرياضة (الاستاذ عسيران) يساعدني كثيرا ولانني ارسم، فكنت انتخب المواد الخفيفة في الرياضة مثل التنس والبنج بونج والرياضة السويدية، واما الرياضيون عندنا فكانوا (المرحوم مجيد محمد السامرائي) والمرحوم (لطيف حسن) و(خيري يحيى الحافظ) وغيرهم. ودخلت فرقة الكشافة في الدار ونظم لنا مدرس الرياضة سفرتين كشافيتين الاولى كانت الى سوريا ولبنان وكانت الثانية الى سوريا ولبنان وشرق الاردن (عند ذاك) وفلسطين (كانت تحت الاحتلال البريطاني) ومصر (كانت في زمن الملك فؤاد والد الملك فاروق) حيث كان حتى شرطي المرور بريطانيا، وكانت السفرات الكشفية بواسطة اللوريات والقطارات والبواخر، وكنا نسكن في الخيم والمخيمات ونطبخ الطعام بايدينا ونغسل ملابسنا ايضا، اتذكر على ان (المرحوم عبد الكريم عسيران) مدرس الرياضة والكشافة وقبيل سفرتنا الكشافة الاولى او الثانية اخذنا للبلاط الملكي وجاء الملك فيصل الاول وصافحنا فردا فردا وقال لنا "انتم رسل الوحدة" والى آخره من الكلمات ومن الطلاب الذين اتذكرهم (عارف رشيد العطار) و(يحيى عبد الباقي) وغيرهما، وفي اليوم الثاني سافرنا الى سوريا بالسيارات وعن طريق (دير الزور) واستقبلونا، فكانت شبه تظاهرة شعبية، وكانت سوريا ولبنان عند ذاك تحت الاحتلال الافرنسي، فجاءت الشرطة الفرنسية وسفرتنا ووضع اهالي (دير الزور). الحرفان لنا في اللوريات معنا تقديرا للضيافة العربية.
ثم وصلنا (الشام) وكنا نمشي في الشوارع ونقرأ الاناشيد الوطنية والحماسية فمثلا (يا فرانسا ويا اوروبا اوروبا لا تغالي، لا تقولي الحرب طال، تأتيك الليالي نورها لمع الحراب)، واتذكر مرة كنا نمشي في الشوارع وبنظام عسكري فسكب احدهم قنينة دهن الزيت علينا وكان تصور انه ماء الورد!!
وفي احدى الحفلات اتذكر جاء بعض الوطنيين من السوريين بالعلم السوري وبصورة سرية ووضعوه مع العلم العراقي ومع جو من الحماس والاناشيد، ثم جاءت السلطات الفرنسية وسفرتنا الى بيروت ونصبنا المخيم في حديثة مدرسة المقاصد الخيرية الاسلامية وهكذا ثم سافرنا الى فلسطين المحتلة من قبل البريطانيين / القدس/ وبيت لحم/ وتل ابيب وغيرها من المدن الفلسطينية وكانت ترزح تحت نير الانتداب البريطاني، فكانت في ذلك الوقت اللوحات مكتوبة بثلاث لغات (الانجليزية، العربية والعبرية) ثم بدأنا بالجولات الكشافية ومع الاناشيد الحماسية وفي المدن الفلسطينية الاخرى ايضا.
ثم سافرنا الى شرق الاردن وعمان وكانت مدينة صغيرة في الثلاثينات وكان الشارع الرئيسي متربا وعليه قصر (الامير عبد الله) الذي دعانا للعشاء في قصره في اليوم الثاني. واخيرا اخذنا الباخرة من بيروت الى الاسكندرية فالقاهرة وكان (الملك فؤاد) ملكا على مصر عند ذاك وكان شرطي المرور بريطانيا وحسب ما ذكرت سابقا، وكانت الدعوات الكبيرة توجه لوفدنا الكشافي العراقي من الاثرياء ورجال الصناعة والسياسة ومنهم (المرحوم حمد الباسل) وغيره وحسب ما اتذكر عن تلك السفرة ان قسما من طلابها اصبحوا وزراء وبعد سنوات طويلة مثل (رشدي الجلبي) وغيره.وكانت هذه السفرة الكشافية الثانية والواسعة في سنة 1933 حيث أنني رسمت عدة صور بالقلم الرصاص وللاثار المصرية مثل ابو الهول والاهرامات وغيرها من الجوامع والاثار المشهورة بها مصر ولا ازال احتفظ بها حتى الان وفي مرسمي الشخصي في بغداد.
وكنت ارسم اغلفة (مجلة المعلم) فرسمت الاندلس وامامه المعلم يؤشر على تاريخنا العربي والاسلامي وعلى تراثنا القومي، ثم رسمت النشرات الصحية مثل (مرض التراخوما)، و(الملاريا) وغيرها (للمرحوم الدكتور علي غالب) فكان طبيب العاصمة، رسمت كتابا اخر وفيه التخطيطات وللحركات العسكرية مع وضعيات الجندي العراقي ولا اتذكر الان المؤلف الذي كلفني برسمها.
وحسبما اتذكر عندما رجعنا وعن طريق الصحراء الرطبة تاه بنا اللوري وخرجوا من بغداد يفتشون عنا في الصحراء (ولا اعرف فيما اذا كانت قد خرجت الطائرات في ذلك الوقت او السيارات المسلحة) وكان الطعام والماء قليلا جدا، وفي اليوم الثاني وجدنا طريقنا وهكذا وصلنا وبسلام الى بغداد وبعد سفرة متعبة للغاية وملذة في الحقيقة وفيها كثير من التجارب المفيدة ولطلاب في مثل اعمارنا.
وهكذا انتهيت من الدراسة ولمدة ثلاث سنوات في دار المعلمين الابتدائية وتخرجت معلما للرسم واللغة الانجليزية وللمدارس الابتدائية في 1934.