علوم الحرية

علوم الحرية

من الكلمات الشائعة عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرشل قوله: «إن الديمقراطية هي أسوأ أنظمة الحكم، باستثناء جميع الأنظمة الأخرى». مؤرخ العلوم الأميركي تيموثي فيريس يوظّف لحسابه هذه الجملة عن فضائل الأنظمة الديمقراطية كي يقول بوجود نوع من التواكب، بل التلازم، بين الحريّة وتقدم العلوم. بل يذهب إلى حد القول إن العلم الحديث والديمقراطية الحديثة عرفا تطورا «متوازيا» في العالم الغربي منذ 350 سنة.

ولا يتردد المؤلف في التأكيد أن مثل هذا «التلازم» ليس أبدا محض مصادفة كما يقول البعض. ويقول إن التاريخ يثبت ذلك بوضوح. يقول: «إن الثورة الديمقراطية هي التي حرّضت على قيام الثورة العلمية وأن العلم لا يزال عاملا أساسيا في نشر الحرية السياسية اليوم». بمعنى آخر الازدهار العلمي يولّد البحث عن الحرية والحرية تمثل مناخ الازدهار العلمي. وهذا ما يعبّر عنه المؤلف بوجود رابطة وثيقة، علاقة السبب والنتيجة بالتبادل، بين العلم واللبرالية. ثم إن علماء متنورين من «جون لوك» إلى «غاليلي» ساهموا إلى حد كبير في إخراج البشرية من عصور الظلمات التي كانت تعيش فيها.
ويلجأ المؤلف بصورة منهجية إلى محاولة التأريخ للتقدم الإنساني «حجرة فوق حجرة» وحيث يتطلب منه مثل هذا العمل الدقيق والشاق تكريس حوالي المائة صفحة الأولى من الكتاب. لكنه يحرص على أن لا يقوم بمثل هذا العمل «الأكاديمي» بصورة «جافّة» بل يستخدم كمّا كبيرا من الحكايات والأحداث التي تعرّض لها العلماء عندما طرحوا أفكارا جديدة على مجتمعاتهم.
هكذا يشرح مثلا أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة «الجدود» كانوا بأغلبيتهم من ذوي النزعات العلمية التي لم تكن بعيدة عن «ذهن الحريّة» لديهم. فتوماس جيفرسون كان قد اخترع «آلة لرفع الأثقال» وبنيامين فرانكلين أقام صلة بين الكهرباء والصاعقة عبر استخدام خيط من الحرير وطائرة من ورق. ومثل هذا الكثير من القصص البسيطة المألوفة التي يعطيها المؤلف أهمية كبيرة من حيث دلالاتها في الفترة التي ظهرت فيها.
بالمقابل يرى المؤلف أن العلم قد حقق تقدما كبيرا في مسيرته خلال القرن العشرين. هذا على رغم عمليات «الكبح العلمي» التي قامت بها الأنظمة ذات الطبيعة الدكتاتورية. ويتحدث المؤلف عمّا يسميه «معاداة العلم» لدى النازية ولدى الثورة الشيوعية الصينية.
ذلك أن العلم قوبل بقدر كبير من القمع الصارم والتوظيف الإيديولوجي البعيد عن مناخ الحرية.
إن المؤلف يكرّس كذلك عددا من الصفحات لما يعتبره نوعا من النزعة المعادية للعلم ومن التقاليد البعيدة عن اللبرالية في حقبة ما بعد الحداثة، وذلك تحديدا في الأوساط الجامعية التي يتم التعامل فيها أحيانا بذهنية «الاستعباد» حيال الباحثين والطلبة. هذا في الوقت الذي يستدعي فيه التقدم العلمي قبول تناقض الآراء بحثا عن الحقيقة بكل موضوعية.
وينقل المؤلف عن الفيزيائي «لي سمولن» قوله: «إن العلم يأتي من تصادم أفكار متناقضة ومن نزاعات بين أناس يحاولون أن يحققوا نتائج أفضل من تلك التي حققها أساتذتهم، واعتقد أن مثل هذا الأسلوب يمثل نموذجا لمجتمع ديمقراطي تتواجه فيه الأفكار وتتفاعل». وبنفس المعنى تقريبا يؤكد تيموتي فيريس أن «العلم لا يزدهر إلا في أوساط الحريّة».
المطلوب هو إذن تشجيع التجريب وإفساح المجال حرّا من أجل سبر مضامين الأفكار الجديدة والاستماع إلى أصوات جديدة واستخدام طرق مبتكرة. والمهم في هذا كله أن تكون «مصلحة البشر» هي الهدف المنشود الذي يتم البحث عنه. وهذا هو أيضا هدف الحرية.
ومن المسائل التي يحاول المؤلف البرهان عليها في هذا الكتاب، للتدليل على العلاقة «العضوية» بين العلم والحرية قوله أن الأفكار العلمية لغاليلي غاليليو ولإسحاق نيوتن كان لها تأثير كبير على الأفكار الفلسفية لجيمس ماديسون والكسندر هاميلتون. وبالتالي على أفكار عصر التنوير لاحقا وكذلك على توجيه الولايات المتحدة نحو تبنّي المنظومة الديمقراطية. وبهذا المعنى يتحدث المؤلف عن «دور العلوم في تثبيت مفاهيم الحريّة». وما يرى أنه يشكل صميم تحليلات هذا الكتاب.
الكتاب: علوم الحرية
تأليف: تيموثي فيريس
الناشر: هاربر نيويورك