الدمعة وأهوار عبد الباسط عبد الصمد

الدمعة وأهوار عبد الباسط عبد الصمد

نعيم عبد مهلهل

لم يكتمل سحر الأصغاء والتأمل في أول صباحات المناطق المفتوحة إلا مع أدعية وآيات لصوتٍ رخامي، يشاركني رهبة الذكريات في خشوعها للصوت السحري لقارئ القرآن المصري الشيخ (عبد الباسط عبد الصمد) والذي اسرى لذة سحرية في أوردة أجفان (ريكان) يوم سمع تجويده أول مرة، فانهمرت دموعه بخشوع غريب بعدما كانت تنهمر مع نعاء مراثي (ملا) عباس الذي كأن يأتي في كل عاشوراء ومعه ملحمة استشهاد الحسين ع.

لكن صوته لم يكن يملك تلك الوصفة السحرية في صوت عبد الباسط الذي حرصنا على جلبهُ مسجلا في شريط كاسيت يوم أتوا بولد ريكان شهيدا من أقاصي ربايا شمال الله، وبهذا يكون معلمو مدرستنا أول من ادخل طقس سماع القرآن مرتلا في مجلس عزاء في قرية أم شعثه، وتكريما لتلك اللحظة التاريخية في حياة ريكان وطقوس توديع ولده ضحية الحرب، وعندما جاءت مفارز تسجيل الاولاد الذين ليس هويات احوال مدنية قام بتغير اسماء ولديه الاخيرين. واحد اسماه عبد الباسط وكان أسمه (فرحان)، والآخر أسماه عبد الصمد وكان أسمه (مزيد)، وربما يكون ريكان أول أب من ابناء المعدان من يغادر الاسم المركب الذي لازم التسمية التي يطلقها المعدان على ابناءهم منذ طف كربلاء والى اليوم (عبد الحسين، عبد الكاظم، عبد العباس، عبد الهادي) فيما اعجبني أسم احدهم لم أسمع به ابدا طوال حياتي في تلك المناطق عندما اتى ابوه ليسجله في المدرسة وكان أسمه (عبد الحجه). ويقصد بالحجة الأمام المهدي الغائب (ع).

احتفظت بصورة تلك الدمعة التي انهمرت من تحت اجفان (ريكان) وكلما اسمع صوت القارئ المصري الشهير أتذكر تفاصيل تلك الدمعة التي لم تكون وليدة حزن عاشور أو موت قريب أو نفق جاموسة، بل هي صنيعة تلك الحرب التي أتت الى حياة المعدان في قدر غير محسوب لتجعل التلاميذ يسألون المعلمين وبذهول عندما سمعوا عبد الباسط لأول مرة في مجلس عزاء ولد ريكان: من هذه المؤدة التي قتلت، وبأي ذنب؟

وعندما نفسر لهم أن العرب في الجاهلية كانوا يقتلون بناتهم خشية املاق، ونفسر لهم الأملاق هو الفقر، فيردون: نحمد الله أن اخواتنا معنا، يحلبن الآن الجواميس مع امهاتنا، والفقر الله يبعدنا عنه، طاسة لبن تغني عن أي جوعٍ في البطن.

ذلك الصوت وتلك الدمعة بقيت تشاركني ذكريات المكان حتى في غربتي، ولهذا اصبح لصباحي طقس ذكرى أستعيد فيه طعم تلك الايام الهائلة المعنى والتي لن تعود ابدا.

وها أنا الآن أعد الاوراق النابتة على الشجرة التي تغادر الخريف الالماني الى ربيع يحمل عطر قصائد غوته وقصص غونتر غراس.

اتأمل الأفق لأتذكر بحنان غريب أولئك الذين فارقتهم، واتخيل دمعة ريكان المذهبة بحزنه الهائل يوم فقد ولده ثم اتذكر نصيحة زوجتي وهي تقول: كل صباح قبل ان تطل على حنجرة فيروز عليك أن تطل اولا على حنجرة القارئ عبد الباسط عبد الصمد.