شهادة أخلاقية بقلم الكاتب الأكثر تمردا في فرنسا القرن العشرين

شهادة أخلاقية بقلم الكاتب الأكثر تمردا في فرنسا القرن العشرين

مخلص الصغير

ما أشبه اليوم بالبارحة

يعدّ كتاب "أربع ساعات في شاتيلا"، للكاتب الفرنسي الراحل جان جينيه، ريبورتاجا مرعبا وموضوعيا، يسرد من خلاله المؤلف مذبحة شاتيلا، إحدى أفظع تراجيديات العالم الحديث.

في المخيمات، واجه جينيه الموت وجها لوجه، وبأغلب الحواس، شاهده عن قرب ورعب، وحاصرته روائحه من خلال الجثث المكدسة، ولامس الموت وهو يتعثر في تلك الجثث، ولكنه لم يسمع أي صوت في ظل صمت رهيب وقاتل، وموت فظيع وشامل.

وكتاب "أربع ساعات في شاتيلا"، الصادر مؤخرا، عن مكتبة الأعمدة، بطنجة، نشره محمد برادة مخلدا بذلك يوميات ومشاهدات جان جينيه، أحد أصدقاء القضية العربية الفلسطينية، مثلما ظل الكاتب صديق المغرب والمغاربة إلى حين وفاته في باريس. لكن جينيه كان قد ترك وصية من أجل دفنه في مدينة العرائش المغربية، غير بعيد عن طنجة.

جينيه الفلسطيني

لم يكن جان جينيه مطالبا بوصف الموت في مخيمات صبرا وشاتيلا، بوصفه شاهدا على المذبحة. هو الذي وصل إلى المخيمات أسبوعا قبل تنفيذ الجريمة الأكثر بشاعة في تاريخنا الدموي الحديث، بل كان على جينيه أن يواجه الموت نفسه، أن يقفز وينط لكي يتجنب الاصطدام بالجثث "وقد يستطيع طفل ميت أن يسد الأزقة لأنها جد ضيقة"، يكتب جنيه، وهو يقدم لنا مسحا طوبوغرافيا للمخيمات وأزقتها الضيقة، التي سرعان ما تحولت إلى أنهار من دم هادرة.

في المخيمات، كان جينيه أمام موت تعجز كل تقنية في الكلام عن وصفه، كان يرى جثثا تحجب عنك رؤية جثث أخرى، وكان في عزلة نهائية عن العالم الخارجي، كان أمام الحزانى والثكالى، الأمر الذي جعل منه فلسطيني المبدأ والقضية "منذ انقطعت الطرقات، وصمت التلفون، وحرمت من الاتصال بالعالم، أحسستني، لأول مرة في حياتي، أصير فلسطينيا، وأكره إسرائيل". وهو ما يشدد عليه الكاتب في سياق موال، حين يؤكد "إنني فرنسي، غير أنني، كليا، ودون حكم، أدافع عن الفلسطينيين، إنهم محقون في ما يطالبون به، ما دمت أحبهم. لكن، هل كنت سأحبهم لو أن الظلم لم يصنع منهم شعبا مشردا؟". ذلك هو السؤال الإشكال الذي يطرحه الكاتب، وهذا هو السر الذي جعله واحدا من أشد المدافعين المكلومين عن القضية الفلسطينية، عبر العالم.

الكتاب ريبورتاج مرعب وموضوعي يسرد من خلاله المؤلف إحدى أفظع تراجيديات العالم الحديث.

يرى محمد برادة أن لهذا النص الذي كتبه جان جينيه عن صبرا وشاتيلا قصة، لأنه سيكون النواة الأساسية لكتابه الشهير الذي نشر بعد موته "أسير عاشق". ويحكي برادة، وهو الروائي، أن جان جينيه كان يتمتع بذكاء حاد. فقبل أسبوع من المذبحة، كانت زوجة برادة ليلى شهيد، تريد الذهاب إلى بيروت، فتشبث بمرافقتها. وبعد أيام معدودات من وصوله، وقعت الواقعة المذبحة، فألح على زيارة المخيم "شاتيلا"، ليواجه مخلفات وضع وحشي وغير إنساني.

المشاهد الرهيبة للجثث وروائح الموت البيضاء، الأحياء الأبرياء الذين قتلوا وحرموا من أي قبر أو كفن أو صلاة، بل قتل الموتى أيضا. وهذا ما يقدمه الكاتب على لسان حفار قبور التقى به في شاتيلا، وهو يحاول دفن الضحايا، فأخبره بأنهم قد "قنبلوا المقبرة، فتناثرت في الهواء جميع عظام الموتى".

كان جان جينيه قد انقطع عن الكتابة لمدة 25 سنة، لتفرض عليه تجربة صبرا وشاتيلا العودة إلى الكتابة. أرغمته ليلى على العودة إلى المغرب، لكن تجربة المخيم الفجائعية كانت قد ألهمته كتابة هذا النص، وهو لم يعد يحتاج إلى أدنى خيال لكي يكتب هذه المرة، أو هذه المرارة. وهنا، يخبرنا برادة أنه لما اطلع على النص لم يجده شهادة على المذبحة، بل رأى فيه عودة جينيه إلى الكتابة، بعد ربع قرن من الانقطاع. فهذه الزيارة إلى شاتيلا حركت في أعماقه دوافع الإبداع والكتابة.

هذا العمل هو نص عن جان جينيه نفسه، وعن همومه وجراحاته. وينبهنا مترجم النص إلى أننا حين نقرأ "أربع ساعات في شاتيلا"، لا نكون عند مجرد وصف للمجازر، فهنالك توقف عند قضايا كانت تشغل جينيه، من قبيل العلاقة بين الموت والجمال. من هنا، سيدفع هذا النص جينيه إلى كتابة عمله "أسير عاشق"، بعد سنتين من المجزرة، والذي لم يكن مجرد شهادة عن الفلسطينيين والفهود السود، فقط، بل كان عنوانا لشخصية جينيه الثائر، الذي عاش مهمشا، وطفلا لقيطا جرى وضعه خارج المؤسسات، فظل طوال حياته يكتب ليفضح المجتمع الفرنسي الذي ولد فيه. يكتب من أجل أن يناصر المستضعفين والمقموعين في كل مكان. فكان هذا سبب خلاف جينيه مع سارتر، الذي كان يدعو إلى الالتزام من داخل الكتابة، يضيف برادة. بينما يرى جينيه أن للكتابة عالمها الخاص، ولا يمكن لها أن تلتزم بما هو خارج عنها.

النص ليس شهادة على مذبحة صبرا وشاتيلا بل هو عودة جينيه إلى الكتابة بعد ربع قرن من الانقطاع.

رؤية جذرية

كان جينيه كاتبا متمردا، باعتبار التمرد شرطا لكل إبداع، وحتمية في كل جديد. أليس جينيه هو الذي وصف نفسه بالخائن، وكان مثليا لعينا، منبوذا من قبل المجتمع الفرنسي البرجوازي الذي لم يكن يتقبل كل هذا التمرد.

عن هذا الوضع، يحدثنا محمد برادة، وهو يصف موقف جان جينيه بالرؤية الجذرية. بمعنى أنه أصر على أن يمضي إلى أبعد حد لكي يقترب من الحقيقة. فكان مصيره السجن، داخل دهاليزه كتب روايته الأولى، مثلما كتب قصيدته الشهيرة عن "المحكوم بالإعدام"، فأطلق سراحه بعدما تعالت صيحات المثقفين، وهي تنادي بحريته. غير أنه أصر على أن يظل طوال حياته إلى جانب المستضعفين والمحرومين، فكيف له ألا يكون إلى جانب الفلسطينيين. إنها جذرية في الفعل والممارسة، أفضت إلى جذرية في القول الإبداعي وفي الكتابة.

هذا التجذر، في الواقع والكتابة، جعل الكاتب ينتقل إلى لبنان، أيام تلك الإبادة التي تشبه واقعنا العربي والدموي القائم والقاتم، إبادة صبرا وشاتيلا، وذلك كيما يكون الكاتب صادقا في ما يصفه وهو يصفه عن قرب وحب، ويواجهه مثلما يواجه الموت. "إنني أكتب هذا الكلام من بيروت، حيث كل شيء أكثر صدقا من فرنسا. ربما بسبب مجاورة الموت الذي لا يزال يكسو وجه الأرض".

ثمة مشهد يختم به الكاتب الفرنسي مذكراته المأساوية. مشهد ملاك أسود متفحم، جثة شاب أو طفل ممدودة في مدخل زقاق ضيق. كانت عيناه جاحظتين، فلا أحد واتته الشجاعة لكي يغمض له جفنيه. فظلت عيناه مفتوحتين، وهو يقول لهم "لقد رأى كل شيء" حيا وميتا، وميتا وحيا.

· عن جريدة العرب