طه حسين وقادة الفكر

طه حسين وقادة الفكر

د.علي المرهج

في كتابه (قادة الفكر) يحاول طه حسين أن يكتب لنا عن شخصيات ملأت الدنيا وشغلت الناس، لا بوصفهم متفردين جاءوا من كوكب آخر، ليُحدثوا تغييرًا في مجتماعتهم التي وجدوا فيها، فهو أي طه حسين لا ينشغل في الغلو بالأشخاص، لأنهم من وجهة نظره نتاج مجتمهم وبيئتهم، لذلك نجده ينتقد الجماعة التي تفني نفسها من أجل الفرد مهما كانت قيمته ومكانته، لأن “الفرد لم يُنشىء نفسه، إنما هو في وجوده المادي والمعنوي، أثر اجتماعي وظاهرة من ظواهر الاجتماع».

يتعلم الفرد اللغة التي يعبر بها عن رؤاه، وهي منتج اجتماعي، ثم “يتعلم الدين الذي يُنظم حياته الروحية”، وهو لم يصنع اللغة ولم يُحدث الدين، وقل مثل ذلك عن الأخلاق والسياسة والآداب.

«الفرد ظاهرة اجتماعية”، ولا قيمة لفرد مهما علا شأنه من دون وجود الجماعة التي رفعت من قدره، وكل فرد إنما هو إبن بيئته.

يؤكد طه حسين على أن “الشعر هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية القومية لكل الأمم المتحضرة التي عرفها التاريخ، وإذن فالشعراء هم قادة الفكر في هذه الأمم».

كان “هوميروس” مثال قادة الفكر عند اليونان، كما هو حال إمرؤ القيس والنايغة والأعشى وزهير».

كان الشعر المظهر الأول في التعبير عن الحياة وحقيقتها في اعتماده على الخيال، بينما الفلسفة التي يمكن أن تكون هي المرحلة ما بعد الشعر “لا تعتمد على الخيال ولا تعتز به، لأنها مظهر الحياة العقلية القوية، وهي وسيلة الإنسان إلى أن يتصور الحقائق كما هي ويحكم على الأحكام التي تُلائم طبائعها”، أو هي الوسيلة التي يتصور بها الإنسان العالم وحقيقته بعقله لا بالخيال، لأن الفلسفة تعتمد النقد، ويعتمد الشعر التصديق.

مثل سقراط في فلسفته بداية التفكير الفلسفي الأخلاقي بعد أن تمكن من الخلاص من هيمنة التفكير الميتافيزيقي والأنطولوجي الذي كان يشغل الفلسفة اليونانية قبله، وهو السؤال عن أصل الوجود، ليستخدم العبارة التي كانت مكتوبة على معبد “دلف” “إعرف نفسك” لينزل الفلسفة، كم قيل، من برجها العاجي، بعد أن تمكن من نقل السؤال الفلسفي من بعده اللاهوتي” إل “الناسوتي” أي أن “تكون الفلسفة إنسانية، بمعنى أن تقوم قبل كل شيء على الأخلاق”، فعرف أن “السعادة إنما هي الخير أي أن يكون الإنسان خيرًا».

يكشف لنا طه حسين عن تميز إفلاطون عن أستاذه سقراط، في قوله بعالم المثل، وأن المعرفة تذكر، بل وفي رأيه بالفضيلة بأنها “مزاج يُنتج من التوازن بين القوى الغضبية والشهوانية والعاقلة، بحيث يستطيع الجسم أن يحيا ويحتفظ بحياته دون أن يحول بين النفس وبين الطموح إلى الخير والسعي للوصول إليه».

ليأتي أرسطو تلميذ إفلاطون فيقول “أن الفضيلة هي وسط بين رذيلتين، كلاهما إفراط وتفريط”، لؤكد لنا طه حسين أن أرسطو كان “سقراطيًا، وإفلاطونيًا، يُقيم فلسفته على الحقائق الثابتة”، ولكنه في الوقت نفسه خالف سقراط وافلاطون. كان أستاذه افلاطون مفتون به، فسماه “القرَاء”، “وكان يُسميه العقل».

يبحث طه حسين عن أرسطو في الخطابة والشعر رغم معرفته بقيته في المنطق والعلوم العقلية والأخلاق والسياسة.

فيقول عنه “إذًا ليس من الحق أن أرسطو فيلسوف عظيم، وإنما الحق أنه فيلسوف خالد مُلائم لكل زمان ولكل مكان”، وهذا يُذكرني بقول لأستاذي مدني صالح “أن أرسطو حتى في أخطائه خدم العلم والفلسفة والأدب”. يؤكد طه حسين على أن أرسطو “أكبر قادة الفكر” بعد أن سيطرت فلسفته منذ ظهورها على العقل الإنساني. “إنما هي التي كان لها الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي والإسلامي، وفي وجود فلسفة العرب وعلم الكلام عندهم، وهي التي تغلغلت في الحياة العربية حتى أثرت في البيان العربي تأثيرًا قويًا، وهي التي كونت العقل الأوربي في القرون الوسطى».

يظل طه حسين كاتبًا استثنائيًا وإشكاليًا من طراز الكبار.