من تاريخ العراق الديمقراطي.. الشبان المثقفون و المعاهدة  العراقية ـ البريطانية لعام 1930

من تاريخ العراق الديمقراطي.. الشبان المثقفون و المعاهدة العراقية ـ البريطانية لعام 1930

د. وسام هادي عكار

بعد تقديم وزارة ناجي السويدي استقالتها في (11 آذار 1930)، زاد سخط الشعب العراقي على سياسة التسويف والتضليل التي سار عليها البريطانيون في العراق، فأظهروا هذا السخط بالقيام بتظاهرة في (21 آذار 1930)،

بعدما تألفت لجنة لقيادة تلك التظاهرة، والتي دعت في بيان أصدرته إلى مشاركة جميع أبناء الشعب فيها، وقد حددت هذه اللجنة أسماء الخطباء وهم كلاً من عزيز شريف، وفائق السامرائي، وإبراهيم صالح شكر، وعبد القادر إسماعيل، كما حددت اللجنة شعارات معينة للتظاهرة مثل " للوطن نحيا وللوطن نموت "، " ليحيا الشعب "، " ليحيا العراق مستقلاً "، لنعش مستقلين ".

وفي يوم الجمعة (21 آذار 1930)، وبعد صلاة الجمعة التي أقيمت في جامع الحيدر خانة، تجمع المتظاهرون الذين جاءوا من بغداد وبعض المدن القريبة منها كالحلة وكربلاء والنجف وبعقوبة حتى وصل عددهم ثمانية آلاف شخص، وقد أشارت اللجنة المنظمة إلى نوع العلاقة بين العراق وبريطانيا، واخفاق السياسة العراقية على أيدي الوزارات التي تعاقبت على كراسي الحكم في هذا البلاد، وصعد الخطباء واحد تلو الآخر، حتى جاء دور عزيز شريف، فألقى خطاباً مطولاً بعنوان: (مثال من المساعي المثمرة في الجهاد الوطني) وكان آخر الخطباء هو إبراهيم صالح شكر. وبعدها انفضت التظاهرة بكل هدوء من دون أن يحدث ما يكدر صفو الأمن، ويعود الفضل إلى منظمي التظاهرة الذين بذلوا ما أمكنهم لتحقيق النظام بين المتظاهرين، وفي ظل هذه الظروف كان رأي الملك فيصل أن تؤلف وزارة من عناصر تفهم الأغراض المشتركة للحكومتين العراقية والبريطانية، فعهد الملك فيصل إلى نوري السعيد تأليف الوزارات الجديدة فألفها في (23 آذار 1930)، وكان الملك فيصل توّاقاً إلى تأليف هذه الوزارة منذ زمن بعيد لولا وجود عبد المحسن السعدون الذي كان لها بالمرصاد.

كان ضمان تصديق المعاهدة في مجلس النواب، هو إجراء انتخابات نيابية جديدة بين (العاشر من تموز والعاشر من تشرين الأول 1930) بعد حل نوري السعيد للمجلس السابق في (الأول من تموز 1930)، بحجة الاستفتاء على المعاهدة الجديدة تحتاج إلى نواب جدد ينتخبون لهذا الغرض، وأعلن جعفر أبو التمن مقاطعة الانتخابات في بيان أعلنه للشعب في صحيفة صدى الاستقلال، كان لهذه الدعوة ردود فعل ايجابية لدى المثقفين الشباب، فبدأت الاتصالات بين عزيز شريف، وعبد القادر إسماعيل، إذ كانا في كلية الحقوق مع حسين جميل، الذي تخرّج من كلية الحقوق في دمشق، وبعض الشباب المتحمسين لهذه الدعوة وعقد اجتماعاً في سينما رويال، ببغداد بتاريخ (18 تموز 1930)، ونشر بيان جاء فيه " من شباب الأمة الباسلة إلى الشعب العراقي الكريم: التضحية الخالصة والتراث المجيد، يدعوك أيها الشعب إلى عدم التعاون مع الحكومة، وأول عمل نقوم به هو مقاطعة الانتخابات النيابية، إذ برهنت الوقائع أن المجالس النيابية في الأمم المستبدة والشعوب المضطهدة، أداة بيد المستعمرين في تنفيذ مآربه الجائرة، بصفة قانونية مشروعة، والمجالس سبيل التسويف والتضليل التي يدعو إليها من يطمع للتوصل إلى اعتلاء الكراسي الممقوتة "، وقد وقّع هذا البيان من عزيز شريف وعبد القادر إسماعيل، وحسين جميل، ويونس السبعاوي، وفائق السامرائي، وخليل كنة، وصادق كمونة، ومحمد مهدي كبة.

قدّم هؤلاء الشباب ومنهم عزيز شريف طلباً إلى متصرف لواء بغداد، للسماح لهم بعقد اجتماع في دار الأوبرا في ساحة الميدان ببغداد في يوم (22 أيلول 1930)، لأجل مناقشة بنود المعاهدة، وقدّم هذا الطلب قبل موعد الاجتماع بخمسة أيام، وفي الوقت ذاته قاموا بكتابة نداء طبع في مطبعة الآداب لصاحبها عبد المجيد حسن، كان بمثابة بيان سياسي تضمن مفاهيم اجتماعية وسياسية عديدة، أسهم عزيز شريف بالتوقيع على هذا النداء ولصقه على الجدران، وتوزيع أربعة آلاف نسخة منه، وقد جاء في هذا النداء " إلى الشعب العراقي العظيم: أنت تعاني الجوع والعري، والإنكليز وأتباعهم سبب جوعك وعراك، وهم ينعمون بثروتك وغناك... وفلسطين مرهقة شتت الإنكليز أبناءها تخرجهم من ديارهم، ويسكّنون الصهاينة الأعداء فيهما، فهذا الفقر وتلك المظالم، تدعوك إلى الأضراب العام في يوم الاثنين (22 أيلول 1930)، بتعطيل الأعمال ووسائل النقل، وإقفال الدكاكين والمحلات والمقاهي، وأن تكون تظاهرة سلمية ".

على الرغم من رفض الحكومة عقد هذا الاجتماع لكن الجماهير تجمعت، وأخذ أصحاب المحلات والمواطنون يتركون الأسواق، متوجهين إلى دار الأوبرا في الموعد المحدد، وعلى أثر ذلك تحركت الشرطة لإحباط الاجتماع، فألقت القبض على المشاركين في الإعداد له، وعلى الذين أسهموا في صياغة النداء، وقدّموا إلى محكمة جزاء بغداد، بتهمة التحريض على الحكومة، والإخلال بالأمن، وإثارة الفوضى ونشر المبادئ الشيوعية الهدامة، وأصدرت عليهم احكاماً مختلفة، فحكـم على كل من عبد القادر إسماعيـل، ويونس السبعاوي، وجميل عبد الوهاب، وفائق السامرائي، وخليل كنة، بالحبس لمدة ستة أشهر، ثم خفف إلى ثلاثة أشهر، وعلى أحمد قاسم راجي، وسليم زلوف بالحبس لمدة ثلاثة أشهر، ثم خفف إلى شهر واحد، وعلى عبد المجيد حسن مدير مطبعة الآداب، بالحبس لمدة شهر وغلق المطبعة لمدة شهرين بعد التخفيف، وبرأت المحكمة كلاً من عمر خلوصي، وحسين جميل، لأنهما لم يوقعا على طلب عقد الاجتماع.

أما عزيز شريف فقد هرب قبل مجيء الشرطة لإلقاء القبض عليه، إذ سافر إلى تكريت، ومكث في دار ابن خالته مالك فتيان الراوي، في قرية "جيوان"، فكان محل ترحيب رئيس القرية الشيخ عبد آل كميت شيخ عشيرة البوناصر، ورحب به وأخفاه عن أعين الشرطة إلى أن هرّبه إلى عنة، وبقى هناك مدة ثم عاد إلى بغداد، وأُجري معه استجواب شكلي وأغلقت القضية.

ساعد الموقف المعارض لمعاهدة عام 1930، على التقارب بين هؤلاء الشباب لتوحيد جهودهم، من أجل تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كما هيأت هذه المعارضة عدداً آخر من الشباب للمشاركة في الجانب السياسي، وأخذ هؤلاء يكثرون من اتصالاتهم ولقاءاتهم، وبعدها اتفقوا على توضيح مواقفهم السياسية ونشرها في بعض الصحف أو عن طريق بعض الكراريس، وهم كل من عزيز شريف، وعبد القادر إسماعيل، وعبد الفتاح إبراهيم، وفائق السامرائي، فأصدر حسين جميل الكراسة الأولى بعنوان: (الإنكليز في جزيرة العرب)، وتناول فيه الوجود البريطاني في الجزيرة العربية، وما له من دور في تحطيم الشعب العربي، كما أصدر فائق السامرائي، كراس بعنوان: (عدم التعاون)، تلخص مضمونه بالقول أن الطريقة المجدية للعمل السياسي ضد البريطانيين وأعوانهم تكمن في المقاطعة وعدم التعاون، ورفض الضرائب، متأثراً بنضال الزعيم الهندي غاندي وكفاحه السلمي، لكن هذه الكراس لم يصدر بسبب سجن فائق السامرائي.

تعرض موقف هؤلاء الشباب المعارض للانتخابات والمعاهدة إلى النقد والتأويل، وعدّهُ مؤيدو الحكومة أن قرار مقاطعة الانتخابات هو من صالح المرشحين وليس من صالح المنتخبين، كما أنها منافية للواجب الوطني والقومي، بينما ذكر خليل كنة، أن سبب معارضة هؤلاء كان نتيجة عدم اشتراكهم بأي حزب سياسي، فاستغلوا من أحزاب المعارضة بصورة خاصة في معارضة تصديق المعاهدة العراقية ـ البريطانية.

عن رسالة (عزيز شريف ودوره الفكري والسياسي)