لمحات من تاريخ سعيد أفندي

لمحات من تاريخ سعيد أفندي

مجلة الفنون عاصرت كل مراحل التجربة، وفي قبوها المظلم ولد (سعيد أفندي) فراسة نور صغيرة.. تدور مع عجلات المطبعة.. وتطن في رؤوس محرريها.. وتطبع صفحاتها بالنور. و(الفنون) أن تتحدث اليوم، فلن يكون حديثها مقالة فخر.. لقد كفاها الكل موؤنة ذلك.. ولكن حديثها سيكون من نوع آخر..

انه حديث عن الأم الولادة.
كيف ولد سعيد أفندي؟
وذهبنا لنمسك بالخيط الأول في القصة، بالنغمة الاولى وغنوة العراق السخي باغنياته، وذهبنا الى كاميران واغلب ظننا ان القارئ لا يعرف كاميران. انه الوجه المختفي وراء كل الوجوه، وجه ساذج، منبسط الجبين، عريض القمة، وصاحبه يتعثر في حديثه، انه لا يجيد وصف الكلام وقد عرفنا أخيرا لماذا؟
عرفنا ذلك عندما حدثتنا الكاميرة في سعيد افندي، ولعل القارئ يدهش لقولنا: ذهبنا الى كاميران لأنه يعرف أن كاميران رئيس تحرير (الفنون)، ولكن القارئ لا يدري ان كاميران قد سرق منه، اختطفه سعيد افندي وستختطفه قصة اخرى غداً.. وبعد غد.
- استاذ كاميران، ان قارئ الفنون يطالبنا بالحرف الأول في قصة سعيد افندي. الحف الذي لم يصور في القصة المختفية وراء الشاشة ونحن نعرف ان الحرف الأول كان من عطاءك، عندما قررت ان تشتغل بالسينما؟
• في سنة 1947، كنت قد أكملت دراستي الثانوية، وكانت فكرة الاشتغال بالسينما، تاكل في رأسي، وبحماس المراهق الصغير هددت ابي بالهرب اذا لم يوافق على إرسالي إلى أميركا لدراسة السينما، فوافق بعد إلحاح كبير وأخذت اتصل بمعاهد أميركا الفنية، انتم تعرفون ان العالم كان في ذلك الزمن يسترجع انفاسه بصعوبة بعد الحرب العالمية، وكانت اميركا وكل بلد محارب تستقبل أبناءها العائدين، وجامعات العالم مكتظة بطلابها، لذلك واجهتني كل المعاهد السينمائية بالرفض. ولكن خطيا من الأمل جاءني في رسالة من معهد شيكاغو يعلن فيها قبولي.
- ما هي نوع الدراسة في معهد شيكاغو؟
• أن معهد شيكاغو يدرس التمثيل والمسرح فقط، ولكنني وافقت في الانتماء اليه املا ان اجد موطنا لقدومي في اميركا لاتصل بمعاهدها السينمائية.
- ومتى سافرت الى اميركا؟
• في الايام الاخيرة من سنة 1947 غادرت بغداد، وانا احصل في جيبي صكا بالف دولار موعدا مع مواطن اميركي كنت أراسله قبل سفري على ان يساعدني هناك في التعرف على الاخرين وايجاد محل ملائم لسكني وما الى ذلك. وقد قضيت في الحر اربعة ايام قاسية لم اذق فيها طعاما لانني كنت اتقيا خلالها بصورة مستمرة.
وسكت كاميران لحظة، ثم تفتحت أساريره عن ابتسامة ساذجة وألقى بخصلة من شعره إلى الخلف كما يفعل الصبيان الصغار، وتدفق بحديث الذكريات.
• عندها وصلت نيويورك فوجئنا بالصخب الذي يملا المدينة بان الناس كلهم يرقصون ويغنون في الشوارع، وقد فكرت في حينه بان هذه هي حياة الناس العادية في اميركا وكما يعرضونها لنا في افلامهم، لقد كنت لا احمل في جيبي سنتا واحدا عدا الصك الذي اخبرتكم عنه. وقد قبل سائق التاكسي بنقل أمتعتي بعد ان شاهد الصك، ثم ذهب بي لكي نصرفه، وبعد صعوبة كبيرة تمكنا من صرفه، وعندما اردت النزول من التاكسي سألت السائق عن اجرة الركوب فأشار الى الأوراق النقدية التي احملها وطلب اربعة منها، لقد احسست بانه يحاول استغفالي، لان أربعة أوراق تعني أربعين دولارا، وقد حاولت ان ارفض ذلك إلا أنني خفت، لقد تصورت انه سيسحب مسدسه ويفرغه في رأسي كما نشاهد في الأفلام. فألقيت ورقتين عليه، ثم انطلقت بأقصى سرعتي من السيارة.
وانطلق كاميران بضحكة مخنوقة، لا يمكنك إلا تحسسها إلا إذا حدقت في عينيه ثم استطرد في سرد ذكرى اليوم الأول من وصوله أميركا.
• بعد ان وضعت أمتعتي في الفندق انطلقت إلى الخارج وسرت مشدوها في شوارع نيويورك الصاخبة أضواء النيون والناطحات المشتعلة بالنور، والناس الراقصين، وتفجر الموسيقى ودورتني جموع البشر، وفجأة وجدت نفسي في سينما – راديو سيتي - إن برنامج هذه السينما يستمر أربع ساعات ويحتوي على غناء ورقص وتابلوهات حية ومسرحيات، وفيلم سينمائي.. فأخذت مقعدا وعيناي تلهثان في رشرشات النور وصريخ الناس ورعونة النغم. وعلى حين عرة انطفأت الأنوار، وخيم صمت اسود كنت اسمع خلاله همسات محمومة، وفرقعات قبل قريبة، واهتزت جدران السينما بطرقات رهيبة، وادركت فجأة اننا في منتصف الليل من اليوم الاخير من سنة 1947. وان هذه الاحتفالات تقام عادة بمناسبة ما يسمونه بـ (نيويير) اي السنة الجديدة.
ودخلت علينا زوجة كاميران وهي تحمل اكواب الشاب، وحيتنا بابتسامة طيبة كتلك التي شاهدناها على فم الخرساء في فيلم سعيد أفندي فالتفت إلى كاميران وسألته:
- هل أنجبتم أطفالا؟
* لقد قررنا ألا ننجب أطفالا من نوع سعيد أفندي.
- استاذ كاميران، كم قضيت في معهد شيكاغو؟
* لقد قضيت ثلاثة أشهر في المعهد ثم نفذت نقودي، فبدأت افتش عن عمل اعتاش منه، وقد ساعدتني صدفة حلوة فتعرفت على إنسان طيب ساعدني كثيرا، لقد كنت في حفلة طلابية ساهرة واقترب مني طالب اسمر الوجه، وحياني بان امتدح ربطة عنقي، فانتزعتها وقدمتها اليه، فدهش ورفض ان يأخذها، ولكنني اخبرته بأننا في العراق نتبع هذه الطريقة في الكرم وبعد ساعة كنا قد تعارفنا تماما، وفي اليوم التالي كنت اشتغل في معمل للصلب دلني عليه – زينو – ذلك الصديق الأسمر، لقد كان من المكسيك.
- وهل تركت المعهد؟
* لا كنت اقضي الصباح في المعهد كطالب مستمع ثم أستريح ساعتين لانطلق بعدها الى المعمل حيث اشتغل حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
- وهل استفدت من دوامك في المعهد كطالب مستمع؟
* لا.. لقد أدركت عندما أقبلت عطلة الصيف ان آخر ما تعلمته كان هو الفن.. لقد اتقنت إدارة الآلة. وأدركت كيف يأكل الإنسان حياته ليعيش، ولكنني لم اعرف شيئا من الفن، لذلك اتصلت بجامعة كاليفورنا وحصلت منها على القبول وبعد ان حصلت على ثمن دارنا التي باعها أبي في بغداد سافرت إلى لوس انجلوس والتحقت بالجامعة.
- ما هي الشهادة التي تمنحها الجامعة لطلابها؟
* انها تمنح شهادة بكالوريوس وهي غير اختصاصية، ولكنني هناك بدأت دراسة الفن بصورة حقيقية. لقد ادركت لاول مرة ان الفن معاناة متصلة ووظيفة حياتية قاسية. وأحسست بضعة وصفر امام هذا الكوم الهائل من التراث الانساني، مئات المراجع .. الاف الاعمال الفنية وما لا يحصى من المذاهب، لقد حدست نوع الصعوبة التي ستواجهني ما دمت قد اخترت حياتي ولكنني واقولها بصراحة، لم احسب حساب الصعوبات التي واجهتني هنا خلال عملي، انها اكثر بالف مرة من كل ما حدست واملت، واقسى ما واجهته هو عدم شعور الفرد عندنا بالمسؤولية وعدم صدق الناس في عملهم، والاختناق الذي....
- استاذ كاميران كنا نتحدث عن جامعة كاليفورنيا؟
* نعم.. نعم لقد قضيت سنين في دراسة تمهيدية لمختلف فروع الفن، وفي السنة الثالثة درست المسرح، وفي السنة الأخيرة عرفت السينما.
- لم أتيت إلى بغداد؟
* لا لقد ذهبت الى جامعة كاليفورنيا الجنوبية لاختص بالسينما وغادر كاميران الغرفة واتانان بصورة لجامعة كاليفورنيا الجنوبية وكتاب لم نعرف كنهه بعد ثم حدثنا عن الاستديو الكامل المعدات الملحق بالجامعة. والتجارب السينمائية التي يتحتم على الطالب اجراوءها. ان عليه ان يخرج مجموعة من الافلام القصيرة كجزء من دراسته العملية.
* لقد حصلت بعد دراسة سنتين على شهادة الماجستير، وعلى طالب الماستر ان يحضر اطروحتين احداهما عملية والاخرى نظرية. اما الاولى فقد كانت فيلما ملونا عن الرقص الهندي اسميته – لورشيفا – 16 مليمتر ويستمر 13 دقيقة. ولوردشيفا هو آلة الرقص عند الهنود. وقد قام بتمثيله احد الطلبة الهنود الذي كان ابنا لاستاذ من اساتذة الرقص في الهند. لقد كان الفيلم يوصل الحركة الراقصة باللحظة المعبرة في الطبيعة، كان تتفتح زهرة اللوتس، ثم اصابع الراقص تعبر بحركة صامتة عن هذا التفتح، انتم تعرفون الرقص الهندي يعتمد على حركة الرأس والجفون والحواجب والعيون والاصابع، ان هذه الاعضاء الانسانية تحكي قصة مدهشة والهنود بارعون في منح اصابع اليد تفورا تسرد قصة شيقة اما الاطروحة النظرية فهذه.
وقدم لنا كاميران ذلك الكتاب الذي اتانا به. انه يتكون من 110 صفحات من القطع الكبير، وعنوانه – دراسة ثاثير التقدم الالي على تطور اسلوب التمثيل – ويقول كاميران.
• ان فن التمثيل يلقي ضوءاً حقيقياً على تقدم الفن السينمائي كمجموع.
- استاذ كاميران، كم هي المادة التي قضيتها في اعداد هذا البحث؟
• هذه طويلة، لان الاطروحة رفضت اربع مرات، للصعوبة الكبيرة التي تواجه الباحث عندما يحاول ان يمسك بتاثير التقدم الصناعي على السينما، ففي عصرنا كما تعملون ينطلق الزمن بسرعة صاروخية، وفي كل لحظة يقذف الفكر البشري باسطورة جديدة... دراسة السينما سكوب مثلاً، اضطرتني – لعدم وجود مراجع – الى ان اتصل باول مخرج سينما سكوبي وهو – هنري كوستد – مخرج فيلم – الرداء -، فذهبت اليه وانا احمل معي مسجلا لتسجيل اقواله، وقد اتخذت هذا الشريط الصوتي كمرجع ، ودليل امام هيئة الممتحنين.
ان الاطروحة تتكون من 110 صفحات من القطع الكبير – ويأمل كاميران في ان يجد مترجما جيدا ليترجمها الى اللغة العربية لنشرها، واما مضمونها فيتقسم الى خمسة فصول.
الفصل الاول – تمهيد وتبرير للبحث كله، كان يلقي كاميران سوءالا معينا: لم اخترت هذا البحث؟ ثم يجيب على ذلك.
الفصل الثاني: هو مركزة البعد الموضوعي للبحث في قطاع اول: دراسة تاثير مسرح القرن التاسع عشر على السينم وعلاقته بظهروها. ويذكر كاميران في اطروحته ان مسرح القرن الماضي وصل الى نقطة المستحيل في مساره نحو الواقع الطبيعي. مما تختم ايجاد طريقة اخرى تفتت هذه الاستحالة، فكانت السينما كنتيجة لحتمية التطور. وكرفض انساني لنقطة مستحيل اخرى، وهكذا ولدت طريقة جديد ةتقدم الواقع بامل تضحية به وقد تميزت اهمية هذه الطريقة بخلود نتاجها، فبعد هاتين من السنين – كما يقول كاميران سيشاهد احفادنا – سعيد افندي -، وسيحدثون عن اجدادهم وعن طريقة عيشهم وازقتهم المظلمة..
الفصل الثالث: دراسة الفلم الصامت مع بحث فن جريفت وشابلن باعتبارهم الرواد العمالقة للفن السينمائي، وهنا يذكر كاميران من افلام شابلن تقدم لنا حركة الموءشر في تاثير التكتيك الصناعي على التفكير السينمائي.
الفصل الرابع: بحث الانقلاب الهائل في السينما عند ظهور الصور وتذكر الاطروحة هنا تقرب السينما نحو المسرح بتقديمها عنصرين من اهم عناصره، واهم بعد واقعي ايضا.
الفصل الخامس: دراسة تأثير التقدم العلمي الحديث على السينما. وتأثير التكتيك السنمائي واسلوب التمثيل بجميع الاختراعات الحديثة، فظهور التلفزيون – مثلا – كمنافس خطر على الصعيد الفكري والتجاري، اضطرت السينما الى ان تدافع عن كيانها امام هذا الخطر المستحدث، امام هذه الالة التي دخلت البيوت كفرد من افرادها، وحققت اتصالا حبيا مع الانسان، ومن اجل ان تجر السينما الناس من غرفهم الدافئة تملقت عيونهم – وقدمت الشاشة العريضة وعدسة السينما سكوب التي تقترب من مدى الروءية النصف دائري للعين البشرية. ويقول كاميران ان الشاشة العريضة كانت موجودة قبل اخراج العدسة السكوبية، التي كلها عملته انها اختصرت النفقات، ثم قدم السينمائيون السينراما كتحقيق افضل للواقع، والصوت المجسم – ستروفونيكك ساوند – كخداع مذهل لاذن الانسان، ويؤكد كاميران اهيمة – الستروفونيك ساوند – كاروع تقدم في التكتيك السينمائي.
ثم تنتهي الاطروحة، ويقول كاميران: ولكن الفكر البشري لم يكف عن تقديم اساطيره.
- نعم استاذ كاميران، اكملت دراستك وتوجهت الى بغداد. متى
دراستك وتوجهت الى بغداد، متى كان ذلك؟
* في سنة 1955 جئت بغداد وانا احمل معي امالا كبيرة وزوجة طيبة.
والان لنعرف ما تقوله الزوجة الطيبة.. السيدة لوسي اوسوسن كما يعرفها الكل، ولان الجمهور شاهد السيدة سوسن على الشاشة فلن نحتاج الى تقديم صورة عنها. ان صورتها في دور الخرساء تقدم فكرة حقيقية عن الطيبة التي نطفو حول وجهها. ولكننا عرفنا شيئا جديداً عنها، انها في البيت كاي زوجة عراقية اخرى نفس البساطة والحنان واكرام الضيف.. لقد ذابت تماما في محيطها الجديد، ورغم تعثرها بالكلمات العربية، الا انها تنتقي التعابير البغدادية المحببة وتلقيها بطريقة رائعة.
- هل درست السيدة سوسن التمثيل في احد معاهد اميركا؟
واجابت السيدة سوسن: لا.. لقد كانت امنيتي بعد اكمالي الدراسة الثانوية ان اصبح مصممة ازياء خاصة وانا اهوى الرسم، وفعلا انضممت الى جامعة كاليفورنيا، وهي نفس الجامعة التي كان كاميران يدرس فيها.. ثم عرفت كاميران هناك ثم.. ثم تزوجنا.
- هل عندك تجربة سابقة في التمثيل السينمائي او المسرحي؟
• لا ابداً.
- ما هي الصعوبات التي واجهتك اثناء تمثيل دور الخرساء؟
• في الحقيقة وجدت في البداية صعوبة في فهم القصة وفهم دوري على الاخص، الا ان كاميران ساعدني كثيراً، فهم الناس، خاصة وان القسم الاكبر من دوري يجري في الخارج. فكان الناس يبحلقون في وجهي ويتجمهرون حولي، واثناء ما كنت اركض في احد المشاهد اخذ الصغار يركضون ورائي ويرموني بالحجارة لظنهم انني مجنونة، وكدت اصاب لولا ان كاميران تلقفني ووضعني داخل السيارة.
- هل ستحاولين التمثيل مرة اخرى مع زوجك؟
• المخرج كاميران هو الذي يقرر ذلك، طبعا، بعد ان يأخذ موافقة زوجي كاميران!
- ما هو رأيك بفيلم سعيد افندي كمتفرجة؟
• عظيم.. – قالتها بالعربية-.
- سؤال اخير.. ما هو شعورك امام النجاح الذي حصل عليه زوجك؟
والتفتت السيدة لوسي نحو زوجها وحدقت في وجهه بحب وفخر، كانا اروح من كل جواب.
واكتفينا من السيدة لوسي، بهذه الاسئلة.
ولنرجع الان الى الاستاذ كاميران ولنسرد بقية القصة، قصة مع سعيد افندي.
يقول الاستاذ كاميران انه عندما جاء الى بغداد كانت فكرة اصدار مجلة فنية تمثل البداية للعمل الذي يريد ان يقوم به، كان يريد ان يعرف الجمهور وان يعرف الجمهور على نفسه، وان يجعل الجمهور يتعرف على فن السينما فكانت مجلة السينما – التي انشقت منها الفنون – ويقول الاستاذ كاميران ان لمجلة السينما قصة طويلة ربما يرويها يوما ما احد الاصدقاء الذين ساهموا معي في انشاءها.
- استاذ كاميران.. متى فكرت في اخراج فيلم؟.
• لقد فكرت طبعا في اخراج فيلم قبل ان اذهب الى اميركا، ومن اجل هذا درست الفن السينمائي هناك، ولكنني عندما جئت الى بغداد كانت فكرة ما قد نبتت في ذهني. وهي اخراج فيلم عن مدرس ابتدائية هذا الجندي المجهول الذي يختفي وراء ركام ادران الصغار والطباشير والسبورة السوداء وبالمناسبة ان فكرة اصداء فيلم عن (اشقيائية بغداد) تتملكني الان، اريد ان اخترق بالكاميرا هذا العالم الرهيب لاقدم وثيقة تاريخية عن هذه الطبقات السفل التي تعيش في جوها المرعب الخاص، نصور الليل والخمر والبغايا.. والقتل والسرقة والمواقف والحديد والخطط الجهنمية، تصور فيلما يضم هذا الجو الصاخب العنيف ذا الخطوط الحادة القاسية... الزور خانات، وصراع الديكة وصراع الرجال.. والدم الذي يجري والجراوبات المتطايرة. والروؤس المنفصلة عن اجسادها.. والريس والكوميشن، والتلخانات والكراسي المتطايرة، الشجاعة الرهيبة بجانب الجبن الخبيث، الرأس المفكر خلف اليد الحديدية.. ان فيلما يفور في اعماق هذه الظلمة المخيفة ليمنح السينما العربية قوة وحيوية لا عهد لها به من قبل. (وهنا اضطررت الى ان اقف امام استطراد الاستاذ كاميران الحماسي وان راجعه الى موضوعنا الرئيس).
- استاذ كاميران، كيف بدأت العمل بالفيلم.
• لقد حاولت قبل كل شيء ان استقيد من اخطاء الآخرين، وكان اول شيء تعلمته من تجاربهم هو ان اتجنب التمويل المشترك، كي لا اقع فيما يقوله المثل (واحد يجر بالطول وواحد يجر بالعرض).
- اذن من اين جاء اسم (شركة اتحاد الفنانين)؟
• ها!.. لقد فضل الاستاذ عبد الكريم هادي ان نترك في العمل معنا اكثر الذين تخرجوا من معهد الفنون والذين يشتغلون بالفرق الفنية، فانتقينا من كل فرقة جماعة تشاركنا في العمل. ومن هنا جاءت التسمية ( شركة اتحاد الفنانين)، وفي الحقيقة كان يجب ان يسمى سعيد افندي، (فيلم اتحاد الفنانين).
- قلت انك تفكر في اخراج فيلم عن مدرس ابتدائية فكيف لقيت القصة؟
• لقد كان الجميع يعرفون بانني افتش عن قصة تدور حوادثها حول مدرس ابتدائية ويومها جاءني عبد الواحد طه او (عزت افندي) واخبرني بوجود قصة (شجار) للاستاذ ادمون صبري، فقرات القصة، وتصورت سرعة من حادث الشجار، عقدة الرواية السنمائية، وبصورة طبيعية جدا كان يوسف العاني يدور في ذهني بملابس المدرس، وكنت قد شاهدت يوسف من قبل على المسرح واعجبت بفهمه العميق للشخوص الشعبية، وادركت الطاقات الفنية التي يمتلكها يوسف. لذلك عرضت عليه القصة، وسرعان ما صادفت فكرتها هوى في نفسه، فاندفع يصور الاجواء الشعبية ويمنح القصة قوة الحوار الرائع وحيوية الشخوص الشعبية الصميمية التي يدخلها الى القصة، وكنت اساعده في تنظيم السيناريو.
- قلت لك انني اخترت يوسف ليقوم بدور سعيد افندي او الاصح من ذلك ان سعيد افندي قد اختار يوسف بالذات، ثم اشتركنا انا ويوسف وعبد الكريم في اختيار باقي الممثلين، وهنا واجهتنا المشكلة الابدية – التي ارجو ان يكون سعيد افندي قد اضعف حدتها -.. مشكلة ايجاد الوجوه النسائية، وبعد اتصالات كثيرة اعلنا في الصحف عن (حاجة سعيد افندي الى زوجة) وبعد مدة اتصلت السيدة زينب يوسف العاني واعلنت استعدادها للتمثيل.
- لم اخترتم الحيدرخانة بالذات لتكون مكانا للفيلم؟
• ان اهم شيء في القصة السينمائية هو المكان والزمان، وقد حددنا زمن القصة منذ البداية وكان يجب ان نجد المكان. وما دمت قد قررت ان اشتغل خارج الاستوديو، فلن اصنع اي شيء، بل الشيء الذي في الشارع هو الذي سيصنعني، انك تعرف اهمية اللقطة السينمائية تصوير الحائط المحفر، والمنارة الشامخة والبيت المتداعي.. انك يجب ان تجد الشيء الملائم للقطة الممتازة.. لقد كان (ايزنشيتن) غالبا ما يدع هذه الجمادات تتحدث على الشاشة، تروي قصة ما تكمل السرد من الرواية، ان شخوص سعيد افندي من الطبقة المتوسطة ممن يعيشون حياتهم البسيطة الرتيبة الهادئة التي اهم توتر فيها هو ضربة حجر تصيب احد الصغار كنت اريد ان اجد تلك البيئة التي تمنحني الطابع الحقيقي لحياة الطبقة المتوسطة. وقضيت ثلاثة اشهر ادور ف بغداد وحدي او مع يوسف او على الاغلب مع الصديق صالح سلمان، وخايراً وجدنا الحيدرخانة.. نموذجا بيئويا ملائما جدا لجو القصة وبدأنا التصوير فعلاً.
- استاذ كاميران، هناك بعض الاسئلة الكلاسيكية نرجو ان نحصل على جوابها.
ما هو رأيك بمستقبل السينما العراقية؟
• هناك حقيقة يجب ان تفهمها وهي انه لم تتوفر لنا الاسواق الخارجية فلن تتفاءل بمستقبل حقيقي للسينما العراقية، ان السوق العراقية لا يمكنها سوى ان تسد تكاليف الفيلم ولكنها لا يمكن ان تقدم ربحا يساعد على ارساء دعامة اقتصادية للعمل السينمائي.
لقد بدأنا فن السينما ولكننا يجب ان نخلق صناعة سينما، لقد سمعت ان بعض الناس يتحدثون عن الارباح الطائلة التي حققها فيلم – سعيد افندي – فليمسك هؤلاء الذين يتحدثون قلما وورقة وليحسبوا تكاليف الفيلم، ليحسبوا انني والمنتج بقينا نأكل سنتين من رأس مال الفيلم وليحسبوا الضريبة التي فرضت على الفيلم الخام 25 بالمائة والضريبة التي فرضت على شباك التذاكر وهي 25 بالمائة ايضا، ثم بعد ان يكملوا حسابهم ليهنئوننا بالارباح الخيالية..!
(والشيء الذي نصدقه ان كاميران متعب الان.. منعب الى حد المرض لقد قال لي انه يشعر بشيء كالشكل الذي يكلبش رجله، ان الصعاب التي واجهها لا تنتهي، واخرها ان يقف على شباك التذاكر ليراقب عملية البيع.. كاميران متعبا حقا.
ومجلة الفنون وقراوءها يجب ان يشعروا بذلك.. لذلك سنغادره فالساعة الان الثانية بعد منتصف الليل..).
مجلة الفنون كانون الثاني 1958