إمــــــام..  فيلسوف هيجلي عربي

إمــــــام.. فيلسوف هيجلي عربي

د. علي المرهج
قدم لنا الدكتور إمام عبدالفتاح إمام الفلسفة الهيجلية تأليفاً وترجمة، ولولاه ـ كما أرى ـ لما كان لهيجل هذا الحضور الكبير، فهو يصح عليه القول أنه (المعلم الثاني) باستعارة من توصيف أطلق على الفارابي شارح فلسفة أرسطو، فأرسطو هو (المعلم الأول)

والفارابي نتيجة لدرايته ومعرفته الكبيرة بفلسفة أرسطو سُميَ بـ(المعلم الثاني)، ويصح مع الراحل إمام عبدالفتاح إمام القول أن هيجل هو (المُعلم الأول) للمثالية المُطلقة في الغرب، وإمام عبدالفتاح إمام هو (المعلم الثاني) للمثالية المُطلقة في الفكر العربي المعاصر، فنحن هامش على متن، فمن قبل كُنّا نُجيد الحفظ والشرح فقيل عن ابن رشد مدحاً بأنه (الشارح الاكبر) لأرسطو، وبذات السياق أقول عن إمام عبدالفتاح إمام إنه (الشارح الأكبر) لهيجل، ولا أحسب ذلك إلّا مدحاً يليق بالكبار، فلا وجود لمتن ولا حضور من دون هامش أو حاشية، فبالشرح يضاء الفكر ونستسيغ قبول فكر او فلسفة يعتريها التعقيد، وذلك هو فضل الشُرّاح.
بدأ إمام عبدالفتاح إمام حياته الفلسفية بدراسته للماجستير عن (المنهج الجدلي عند هيجل)، وكان من اوائل الكتب التي اطلعت عليها أيام دراستي للفلسفة في الكلية، ولي معه حادثة طريفة، فقد كانت استاذتنا أميمة الشواف قد حددت إمتحاناً لنا في مادة الفلسفة الحديثة، ولم اكن قد قرأت للإمتحان، وكان هيجل هو مادة الامتحان، وكنت قد سافرت لزيارة اهلي في قلعة سكر، وهي معروف عنها لا تؤجل الإمتحان، طلبت منها بعد عودتي وكان الامتحان يوم السبت تأجيل الامتحان لي، ولكنها رفضت، فما كان مني إلا الدخول لادائه، وصادف ان السؤالين يُمكن الاجابة عنهما لمن قرأ كتاب إمام عبدالفتاح إمام سابق الذكر، فابتهجت وأجبت على السؤالين، وبعد تصحيح الأوراق حصلت على درجة (٩) من (١٠)، فتعجبت أستاذتي، فقالت (ولك علي شنو هاي، جاي تطلب مني تأجيل الامتحان وتاخذ (٩)، (كلتلها والله ست اجت ضربة حظ، لانني قرات كتاب إمام عبدالفتاح إمام من باب الإطلاع، فشاءت الصدفة أن تاتي الأسئلة بحسب ما قرات!!.
وجد مفكرنا في هيجل فيلسوفاً عظيماً له قاموسه الفلسفي الخاص ورؤيته الكونية في تفسير الوجود بعبقرية نادرة من جهة ربط ما هو مثالي بما هو اقعي، من خلال رؤيته لمفهوم (المُطلق) أو (الروح الكلي) وسمه (الله)، ليرى فيه تمثلاً في الواقع الجزئي عبر اعتقاده بسريان هذه (الروح الكلي) في الطبيعة والنفاذ لتمظهرات (الجزئي) الواقعي، ليتشكل تارة مُتماهياً مع هذا الجزئي، ويعود تارة أخرى لتراه بعين ثانية بفردانيته وتفرده.
يؤمن إمام عبدالفتاح إمام بأهمية الفلسفة ودورها في بناء الوعي الأمثل للواقع والمثال، وهو أميل لتبني الفلسفة التأملية بطابعها المثالي (التصوري) من الدفاع عن الفلسفة الحسية (المباشرة)، فهو يرى أن مهمة الفلسفة صناعة الأفكار عبر (التجريد) لأن مهمة الفيلسوف هي فهم تنوعات الوجود الواقعي المحسوس للارتقاء بها من كونها مجرد وجودات محسوسة إلى جعلها وجودات معقولة. لذا نجده يرى أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة المثالية، وهي المثالية الهيجلية على وجه الدقة لأن اشتغال الفيلسوف إنما يقوم على فكرة (التجريد)، فأنت حينما ترى المحسوسات لا يعني أنك تحولت لوجود محسوس من جهة الفهم معها، إنما الرؤية هي ليست رؤية الحواس لأنها ترتكن لوصف الأشياء كما هي (في ذاتها) بعابرة كانطية، إنما تعتمد على معطيات الحواس التي تُعطينا صورة الأشياء لا جوهر وجودها الذي نستطيع إدراكه من خلال (التجريد).
الغريب المُثير أن هذا المفكر المثالي المُستغرق في المثالية اعجاباً وتبنياً فكرياً هو تلميذ الدكتور زكي نجيب محمود المفكر الوضعي المنطقي المتماهي اعجاباً وتبنياً للفكر التجريبي (الوضعي)، وقد ترجم إمام عبدالفتاح إمام إلى العربية أطروحة أستاذه (الجبر الذاتي) التي تقدم بها لنيل الدكتوراه من جامعة لندن عام 1947، والأغرب من ذلك أن ما طرحه زكي نجيب محمود في أطروحته هذه إنما هو اشتغال على قضية هي أقرب لعلم الكلام منها للفلسفة الوضعية المنطقية التي تبناها فيما بعد، لأنه يُناقش فيها مسألة الحرية، وهل الإنسان مُجبر أم مُخير،، ليطرح رؤيته حول مقتضيات الوجود الإنساني في الحياة هي التي تجعله حُراً ومُختاراً وفق حاجات الذات نفسها وارتباطها بالوجود. أظن أن ترجمة إمام عبدالفتاح إمام لهذه الأطروحة وفاء لأستاذه أولاً، ولكنها تتناغم ونزوعه للخوض في الميتافيزيقا، وهو الذي كتب فيها كتاباً أعدّهُ من أهم الكتب التي صدرت بالعربية وهو بعنوان (مدخل إلى الميتافيزيقا).
غادرنا جسدياً مُترجم الموسوعة الهيجلية، والمفكر الهيجلي الأهم في الثقافة العربية، ولكن نتاجه الفكري سيبقى حاضراً لن يغيب.