المقروء والمكتوب في أوديسات سليم بركات

المقروء والمكتوب في أوديسات سليم بركات

علي حسن الفواز
تُحيل قراءة كتابات سليم بركات إلى الكثير من القضايا الإشكالية التي تخصّ إجناسية المادة الأدبية المكتوبة، ومستويات لغته الشعرية والسردية، فضلا عن علاقتها المُضطربة والشائهة مع إشكالية الهوية والاغتراب بتوصيفها اللغوي السيميائي والتعبيري.

يكتب سليم بركات بنوع من الثأرية مع اللغة ومع الهوية، إذ تتمثل هذه الكتابة هواجسه العميقة، واستلابه الشخصي المسكون بالمفارقة، فهو يأخذنا كـ(قرّاء) لأعماله الشعرية والسردية والسيرية إلى ما يشبه التحَفّز والحذر، ولما يمكن أن تُفضي إليه من أسئلة تمسّ وجدانه (الشقي) مثلما تمسّ سرائر بلاغته في الكتابة.
هو يكتب بـ(العربية) وكأنه يفترسها، أو يغالب بها الآخرين، إذ تضعه الكتابة عند شفير الوجود كما يسميها، تُساكنه شهواتٌ شتى، التمرد، والاقتحام والحرية والخوف والهُجرة والفقد، حدّ أن كائنه المضطرب دائما/ كائن موسسيانا يجدُ نفسه في متاهة، تلك التي تقذفه إلى أمكنة مضادة، أمكنة توهمه بالأوديسات وبالبحث عن وجود لا شفير له، عن مدن لا تهاجر، لا تحارب.
سليم بركات الشاعر هو ذاته الروائي، يتبادلان الحكي والاستعارات والأوهام، مشدودين إلى غواية المعنى الغائب، الطُلسّم الذي يتكئ بشيفراته على اللغة بوصفها التعويضي وليس التوصيلي، إذ تبدو هذه الوظيفة وكأنها نزوع للمجاهرة بفرادة الشاعر وتعاليه خارج المكان والقبيلة والأثر، وحتى البلاغة التي يجترحها البعض لقراءته يتمثلها الكثير من التحولات العاصفة، فهو لا يطمئن كثيرا للغة التي يكتبها، لذا ينحتُ فيها كثيرا، ويبعثر في أنظمتها، ويُضلِل عبرها مسار تلك القراءة، حدّ أنه يوحي وكأنه تحت وطأة إحساس باغتراب وجودي مفارق، له أسئلته وإحالاته، وله أيضا شغفهُ الباعثُ على مواجهة وزر أي مهيمنة قد تجرّه إلى قاعها وغيلانها.
الكردي في المكان غير الكردي في اللغة، إذ ليس له (إلّا الريح) كما يقول محمود درويش، وهذا ما عاش مفارقته وهواجسه سليم بركات، فهو الغامر في استيهامات المكان، لكنه المطرود من اللغة، وهكذا ثنائية وضعته في لعبة ملتبسة، لا تاريخ لها، ولا حدود لها، قدر ما انكشفت عليها كينونته، تلك التي ظلت أكثر تورطا في الاستلاب والوجع والفقد والبحث عن خرائط أخرى، وأمكنة أخرى وأناشيد أخرى يمكن لها أن ترمم خرابه العميق، وأن تعي له صوت الكراكي المفقودة.
العجائبي والفانتازي والسحري، كُلّها شيفرات للتمرد على الوضوح في المكان والسلطة والتاريخ والهوية المهيمنة، ما أعطى لقصيدة سليم بركات غواية أن تكون صاخبة ومتمردة، ولا وضوح لها، ولا اطمئنان لخطابها، فهي قصيدة مزاجه الشخصي، وسؤاله الشخصي ورعبه الشخصي، ووعيه الحاد بأوهام التاريخ الذي يصنعه الآخرون/ الجحيم على حدّ قول سارتر، مثلما لا أجده بموقع من يريد أن ينحاز- من خلال تلك القصيدة- للنبش في المسكوت عنه، المسكوت الراهن باستلاب لساني تعبيري ودلالي، والمطوي على سرائر يحاول أن يستعيدها عبر استعادة أساطير الكردي المهاجر والعاشق..
فمنذ أن كتب أوراقه الشعرية الأولى «كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً» و«هكذا أبعثر موسيسانا» و»للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك» و»الجمهرات» وضع اللغة أمام رهان الوجود، فهما يبادلان لعبة الفريسة والصياد، مثلما تضعه في سياق الباحث عن(لذّته) وسط عتمة الوجود، حيث هذه اللغة الشعرية هي ذاتها التي تشتبك مع تاريخ طويل ومنهك مع الغناء والملحمة والسيرة.
أحسب أن هذا الهاجس الشعري القلِق والمُريب هو الذي دفعه للمغامرة الأكثر جموحا نحو كتابة الرواية، تلك التي تمثلت أسفار سيرته الوجودية، سيرة وجوده وخساراته ومراثي أمكنته وهجراته الداخلية والخارجية، إذ كتب رواية «الجندب الحديدي/ سيرة طفولة» ورواية «هاته عاليا، هات النفير على آخره/ سيرة الصبا» وهذا ما يمكن تسميته مجازا بـ»كتابة البراءة» وأنّ رواياته الأخرى الأكثر تمثلا لتجربته الثقافية يمكن وضعها ضمن مقترح (كتابة الخبرة)..

غواية المحرر الثقافي
ليس من اليسير وضع تجربة سليم بركات خارج التحولات العاصفة في المشهد الثقافي العربي، ليس لأنه يكتب بطريقة مفارقة، أو أن عقدة الهوية جعلته يتعاطى مع اللغة العربية وكأنها فكرة هرمان مليفل عن الحوت (موبي ديك) حيث التحدي والافتراس والقوة والغريزة مقابل الشغف بالبقاء.
فضاءات تجربة سليم بركات الثقافية وشغفه بدتْ أكثر وضوحا في عمله التحريري في مجلة «الكرمل» التي رأس تحريرها محمود درويش، وأحسب أن ما كان يكتبه من مقاربات تضعنا أمام وعي عميق بالمشهد الثقافية وبمعطياته وأسئلته، وحتى بلحظته الوجودية الغامرة، فالمجلة كانت شاهدا على لحظة ثقافية عربية كاشفة، ليس بسبب مرجعياتها الفلسطينية، بل بسبب جدّة ما طرحته من سؤال ثقافي مفارق، ومن رؤية عميقة لطبائع ما يعيشه المشهد الثقافي العربي من تحولات واغترابات وصراعات تمسُّ الوجود والهوية والكينونة والعلاقة مع العدو ومع الذات، وتضع سؤال الحداثة بوصفها اغترابا قريبا من هاجس الوجود المفقود الذي يعيشه الفلسطيني، وكأن هذا الفلسطيني يبدو قريبا من الكردي الذي يعيش قلق وجوده ورهاب الآخر الذي يلاحقه عبر القسوة والعنف، مقابل أن يظل هو موهوما بسحر اللغة، باستعاراتها وبلاغتها وأوهامها وشيفراتها وأسحارها وطلاسمها.
لعبة المحرر الثقافي جزء من لعبة التعويض، خرج من إيهامية المقروء إلى وثيقة المكتوب ليكون فيها سليم بركات أكثر تمثلا لوجوده، ولرهاب ما يفقده من الوجود، أو ما يستعيده عبر اللغة.

الشاعر والأسئلة
كتابه الشعري الأخير «سوريا» الصادر عن دار المدى 2015 أعادنا إلى لحظة وعيه الشعري الجامح، إذ بدت الأمكنة الوجودية أمام لحظة فقد مريعة، وأنّ الشاعر لا يمكن أن يكتفي بوظيفة الشاهد، تلك اللعبة الباردة والمحايدة، بل أن يجدَ نفسه قريبا من الجحيم، ذلك الذي يتلمسّه عبر حرائق اللغة، وعبر ما يمكن أن تؤديه الوظيفة التعبيرية، لكنه بدا في هذا الكتاب قريبا من صانع الشيفرات، تدفعه شعرية الخبرة، لكي يتأمل العالم عبر خرائبه وعبر مراثيه، فـ»سوريا» الحرب ليست هي سوريا البحر، مثلما هي ليست موسسيانا الكردية، بل أن الكثير من الأوديسات الموحشة أخذته، أو أعادته إلى أسفار بعيدة، شاهت معها الأمكنة، وظلت (بينلوب) هي كائنه الأثير المشغول بالانتظار..
قصيدة «سوريا» الطويلة تكشف لنا السحر المفارق ما بين المقروء والمكتوب، فالأول قد يذهب بالشفاهة حدّ أن يكون الشاعر فيها هو الرائي، هو المحتشد ببلاغات تصويرية، وبنسق لغوي لها ضامره، وله سرائره، مقابل المكتوب الذي يحيل إلى الوثيقة، تلك التي ظل الشاعر يرهنها لوعيه الظاهراتي، حيث يقصد الغائب والممحو، وحيث يضج وعيه أيضا بصورٍ لم يشأ أن يُغيّبها، رغم قسوة الاستبداد والحرب والموت المجاني.
سليم بركات شاعر مسكون بهاجس التحوّل، وهاجس الكائن الذي يطارد العالم عبر لغةٍ تساكنه، ورغم هروبه اللاواعي منها، لكنه تظل عالقةً وصاخبة وجامحة، فهي حصانه الطروادي الذي يتلصص من خلاله على عالم لا يطمئن إليه، وعلى أمكنةٍ لا وقوف لها سوى أن تتركه مأخوذا ومفجوعا، لكنها بالمقابل- أيضا- تُبيح له أن يمارسَ سؤاله الوجودي والهوياتي بنوعٍ من العلن السافر والثأري.