والت ويتمان..  صانع معجزة الشعر الأميركي الحُر

والت ويتمان.. صانع معجزة الشعر الأميركي الحُر

أحمد العلي
له طريقٌ كان يجوبه ليرى حيوان الشّعر الخائف مختبئاً خلف الأشجار أو يشرب ماءً من البحيرة، ليراه في غفلة النائم أو سكون السّارح.. طريقٌ يشبه طريق نحل فيروز، ترابه ليس على الأرض، نجومه ليست في السماء.

ما الذي كان يسمعه والت ويتمان مخفوراً بالفراشات في عزلة التّلال خلف بيت طفولته؟ ما الذي كان يراه؟ هل عرف مُحبّوه أيّ صخرةٍ عناها في قصيدةٍ ما وأيّ طائر اندسّ في ريشه، كما فعل مجانينُ دالي؟ حسناً.. بين يديّ خارطةٌ للطريق التي كان يسلكها إذا أحبّ أن يكتب شعراً، وقائمة بالطيور التي تعيش في غابة أشجارها والتي كان من الممكن أن يسمع تغريدها. مُحبّوه طيّبون، اقتفوه حتى كادوا يرسمون شكل الشمس في وقته وأرادوا إحكام البَكرة التي ترفع بوّابة الريح ليكتمل الطقسُ وتعود الأيّام.

لا أعرف الترجمة الصحيحة لكلمة Town، لكنها المكان الذي إذا هبط الليل فيه، لا يضيء شوارعه سوى خضرة أشجاره، تسمع الليل كالشيخ الذي يتنفس.. مكانٌ هو من الهدوء والقرب حيث تشعر أن في كل غرفة اثنان يمارسان الحُب. هنا مساحاتٌ واسعة مهملة خلف البيوت، تلمسُ بساطة الأحياء لمس اليد؛ خزّان ماء يرتفع في الوسط وطريق رئيس واحد يشق المكان نصفين، ملاعب البيسبول مسّدها الله قبل البشر، وتبدو السيّارات خطأ مطبعيّاً بحتاً، ويبدو خطّ القطار طويلاً كسطرٍ أبديٍّ لكلام غامض عن المسافات والبُعد والحنين.
أتوغّلُ في هذا الريف الأميركي لأصل المنزل الذي وُلد فيه ويتمان، لأرى سرير أمه والعناكب النبويّة في زوايا غرفته.. في هذا الريف يفاجئك الله بهندسته، هذه هي إذاً أوراق عشبه، متدرّجة اللون كأنها البحر للناظر من الشاطئ، هنا موطن لقبائل أشجارٍ لم ترحل بعد كما غادر أسلافها منهاتن، أصَرّوا على الفأس حتى حمل ثيابه ومشى.. جذوع رشيقة ومتطاولة ومتجاورة، غابات الساحرات ببيوت خشبيّةٍ مختبئة ومفاجِئة، تخرج من مداخنها أصواتٌ رائعة، لا أعرف كيف تم بناؤها إذ تتكالبُ عليها الأشجار مشكّلة قُبّةً خضراء بفتحةٍ صغيرةٍ في المنتصف كأنها بئرٌ للضوء.. أخاف أن أقترب من شجرة فتفتح عينيها وتعطيني تفاحة، أن أستيقظ صباحاً فلا أعرف أين أنا لاكتشف أنني تحوّلتُ إلى ضفدع، أو أنني موثقٌ في قِدرٍ كبيرٍ تحوم حولي قطع الطماطم والتوابل.. هربتُ من خوفي ودخلتُ بيت ويتمان.. دفعتُ الباب ببطء كأنني أستأذن أشباحه وانتظرت أن يأتيني أحدٌ بعد أن دوّى جرسُ الدخول في المكان. تسمّرتُ ونزّ العرقُ من جبيني؛ تقدّمت إليّ الساحرة.
عليّ الآن أن أصير جثّة.. لا شيء أملكه لكي أشعر بما حولي في هذا البيت الذي تعودُ أخشابه إلى أكثر من مئتي عام؛ ليس للغة مكانٌ هنا، وحده الجسد يستطيع التخاطر.. عليّ الآن أن أصير جثّة تعرُجُ و"تسقُطُ عيناها للدّاخل"لأرى روح المكان. أنت الساحرة إذاً، تبدين طيّبة نوعاً ما، صافحتُك واستطعتُ الحركة بعدها.. أخرجتني من مبنى استقبال الضيوف إلى ساحة بيت ويتمان، أشرتِ بإصبعك إلى هناك فنبت من الأرض تمثالٌ لويتمان يمد يده وعلى إصبعه فراشةٌ كانت ترفرف لولا أنك خزرتها.
في وسط الحديقة مربعٌ حجريٌ مكوّنٌ من طوبٍ قرميدي، يُنحت على كل قرميدة إسم فائزٍ بجائزة ويتمان السنوية للشعر، أو إسم من دُعي للإقامة والكتابة في البيت، أو يستطيع أحدهم شراء طوبةً ليحفر عليها إسم حبيبته كما فعل الله بك.. عندما وقفت عند طوبتك وضربتها بقدمك، كانت ضربةً شابّة، كانت حياتك المتبقية كلها تتسلسل في تلك القدم حتى اخضرّت.
تؤجلين الدخول لبيته.. تؤجلين كأنك تستعذبين تعبي في قطع مسافة ثلاث ساعات بالقطار للوصول إلى هنا ولم يبق سوى ساعة على إغلاق المركز.. ذهبنا للكوخ الحميم المخصص للقاءات مجموعة الشعراء الشابّة المنتمية للمركز، عندما دخلت، كانت حقاً صغيرة بحجم غرفة نوم.. تهامست النوافذ (من هذا الغريب؟)، بدأ الضوء ينفذ منها بشكل عجول وعشوائي ليرى وجهي، سمعتُ خبطَ يديه على خشب الجدران من الخارج ورأيته اختبأ خلف النافذة مُطلّاً بعينٍ واحدة..
لا أذكر رائحة المكان لكني أذكر الهدوء، هدوء لا ينتمي لصخب الثدييّات، هدوء من وُلدوا في زهور شجرة، تُغلق عليهم أوراقها في الليل وترفعهم للأعلى، حتى اذا جاء الصباح، أثقل الندى الأغصان واقتربت من الأرض، فيستيقظون ويجرُون نحو البئر الذي أسيرُ إليها الآن.
قُلتُ أختبرُ أحلام يوسف، سأنزل هناك لأدرك معنى أن تُلقَى في بئر حجرية كهذا، هل يقفُ المُلقى على الماء؟ ماذا يفعل؟ يغنّي؟ لديه من الماء ما يكفيه ليعيش أياماً طويلة دون أكل.. لم تحفل الساحرة بخيالي هذا وهوّمت بيديها فجاء الدلو من زاوية المزرعة ودارت البكرة التي ترفعه عدة مرّات واستيقظ الحبل، رأيت كيف كان ويتمان يجلب الماء من العالم السفلي ويدخل به البيت (شكَكتُ حقاً في الساحرة، هل هي أم ويتمان؟ ما هذا الحنين في عينيها للتفاصيل؟ لماذا أنقادُ خلفها هكذا، وإذا لم أستأذنها في التقاط الصور، تخرج في شاشة الكاميرا محروقة؟).
بنى الأب ويتمان المنزل الخشبي بيديه العاريتين.. صمّمه وأخفى فيه غرفاً كي لا يأخذ منه جابي الدولة ضرائب أكثر، إذ كانت حتى خزانات الملابس والأواني تُعتبر من الثراء لأنها لا بُد وأن تحمل شيئاً له قيمة، فتزيد الضريبة (تُبنى خزانات الملابس فوق المواقد لتدفئها النار.(
هكذا قالت الساحرة. هل تعرف لماذا يبدو مدخل البيت واسعاً بعض الشيء ويبدو الدرج مدفوعاً إلى الوراء في آخره؟ لكي يستطيع أطفال الأب ويتمان (ومنهم والت) اللعب فيه، أنظر، عُلّق على باب البيت أجراسٌ توضع في أعناق البقر والماعز نهاراً، لكنها تُعلّقُ هنا في الليل لكي لا يستطيع أطفال الأب ويتمان الهرب دون أن يستيقظوا. توضعُ بجانب الباب دِلاءٌ مليئةٌ بالماء دوماً لإطفاء أيّ حريقٍ محتمل. نوافذ البيت واسعةٌ جداً، ليس حُباً في الضوء، وإنما لتقليل كميّات خشب البناء ومساميره. الغُرفُ مفتوحةٌ كلها على بعضها، ولا غرفة خلاء في البيت (ولم أسأل ماذا يحدث عادة!)، غرفة الجلوس وغرفة ماما ويتمان السفلية على الجانب الأيسر من مدخل البيت، وينفردُ المطبخ بالجانب الأيمن.
عندما دخلنا المطبخ، لم تتحدث بشيء، إذ مدَدتُ يدي بعفويّةٍ ولمستُ خشب طاولةٍ كانت لويتمان وهو يعمل مدرّساً في الجوار، مشيتُ أتحسّسُ في المطبخ كل شيء؛ طاولة الطعام، المدخنة المعتقة، مستطيل شواء اللحم الحديدي وأدوات تحريك الحطب، الشموع والأواني والطناجر وما لا أعرف. قالت الساحرة في قلبها إنني لو أعرف قيمة ما ألمسه لما لمسته، لو أنني أعرفُ مثلاً أن ذاك الصندوق يضم أدوات صنع الشمع، كهرباء الوقت في زمنهم، له أرديَةٌ خاصة وطقوس تشبه الصلاة.. الشمع نفسه يُستخدم في كيّ الثياب إذ لا توضعُ حديدة الكيّ فوق القماش مباشرة دون طبقة شمع بينهما، الشمع يوضع أيضاً وسط قنديل بيت ويتمان، قنديلٌ حديديٌّ يُرفَعُ باليد ومشغولٌ بعلاماتٍ وأشكالٍ تخُصُّ بيت ويتمان وحده، و لكلّ بيتٍ في الجوار علاماته الخاصة، وهذه العلامات يعرفها الجميع، حتى إذا خرجوا في الليل ورأوا قنديلاً يبعث ضوءه في الجوار، عرفوا مَن صاحب القنديل، وإذا بدا شكل الضوء غير مألوفٍ، دسّوا البارود في بنادقهم وانتظروا وجه الغريب.
لماذا صارت هذه المرأةُ دافئةً هكذا، تغيّر صوتها وشعرتُ أنني أريدُ أن أنام على فخذها منذ دخلنا غرفة ماما ويتمان التي وَلدت فيها أربعة أبناءٍ منهم والت. رفعَت الفراش بثقة الداخل للجنة وقالت لم يكن في ذلك الوقت ما يُسندُ أكوام القطن والريش والأعشاب اللّينة سوى حبالٍ نقاطعها كشبكة الصيّاد أو كخيوط ربط الأحذية أسفل الفراش.. نشدها جيّداً ثم تستلقي ماما ويتمان لتلد هنا. هذه طنجرة لإحماء الماء، وهذا كرسيُّ القابلة وعليه سلّة فيها أدواتٌ لغزل الصوف والانتظار، وهنا مَهدُ الطفل وألعابه..
ثم خرجَت بسرعة وصعدت الدرج للطابق الثاني فلحقتها، نظرتُ للأعلى وأنا في أوّل الدرج وهي قد وصلت لآخره، تنظر إليّ كما ينظر صقرٌ لفريسةٍ بيضاء تتحركُ في أرضٍ محروقة.. حاذَرتُ أن يصطدم رأسي بسقف الدرج وأنا أصعد ثم أوقفتني بجانبها وقالت: هذه أوّل درجةٍ في الدرج كله، لماذا يبدو ارتفاعها بسيطاً جداً مقارنةً بباقي الدرجات؟ (لا أدري!).. لأن الأب ويتمان لا يريد لماما ويتمان أن تسقط في الليل وهي نازلة للأسفل، فتتحسّسُ بقدمها بداية الدرج هذه فتعرف أن عليها أن تهبط الآن بحذر. هذه غرفة الجد والجدة، ملمومة وبسيطة وفي الزاوية، فيها نافذتان تقف بينهما آلة يدويّة لصنع خيوط الصوف.. وهنا غرفة الأبوين، بسيطة أيضاً، وهنا غرفة الأولاد. تبدو غرفة الأولاد بيتاً للشياطين.. سقفها كأنه رأس هَرَمٍ من الداخل، للأخشاب ألقها دون أصباغٍ أو ديكور.. فراشٌ واحدٌ كبيرٌ في الوسط وأدوات الزراعة واللعب وبرميل الاستحمام وأوانيه، وكَرَاسٍ و صناديقَ مغلقة.. كلها هنا، وللغرفة هذه درجٌ خاصٌ بجانب باب الدخول في الأسفل.
رأيت الساحرة تتحسّسُ بداية الدرج قبل أن تنزل، فكتمتُ هلعي. وقبل خروجنا من البيت، أرتني لعبةً يلعبها طفلان. اللعبة تتكون من قطعتين، الأولى على شكل دبدوب خشبي مبتسم يمُدُ يديه إلى جانبيه، والثانيه قطعة خشبية مستطيلة توضع على رأسه، و يُلفُّ حبلٌ يجمع القطعتين ببعضهما حيث يُمسك الطفل الأول الخشبة ويرفعها عالياً فينزل الدبدوب للأسفل، فيمسك الطفل الثاني طرفي الحبل من الأسفل فيشدهما ويرتفع الدبدوب، وتستمر اللعبة بهذا التكرار (هكذا كانوا يعلمون الأطفال كيف يحلبون البقر).
قلت لنفسي حتى لو لم تمكن تلك المرأة أم ويتمان، فقد ولدته في قلبي. خرجتُ من البيت فرحاً.. أطيرُ بثيابٍ واسعةٍ كأنّي من رجال التّبت، قلتُ ألتفتُ لأُحيّي البيت للمرّة الأخيرة، لكنني لم أجده.
كان ويتمان الفلاح مفتوناً في شعره بالغُربة وثيمة الغريب.. الفلاح الذي خرج من قريةٍ يعرف سُكّانها بيتاً بيتاً، إلى مانهاتن التي يعبُر فيها كل يومٍ بجانب أناسٍ لا يعرفهم وقد لا يراهم مرّةً أخرى في حياته كلها، البارونات وقائدو مركبات الخيول وبائعو الخضرة والممثلات الشقراوات.. يعبُرُ التايم سكوير بقلبٍ معصورٍ على هذه الأكتاف التي تتلامس دون تبادل كلمةٍ واحدة، يقف في الميناء الذي يلدُ مئات المهاجرين يومياً دون لغةٍ مشتركة بين عيونهم.. هذا هو الرعب الذي اتسع في قلب ويتمان. وأصدقك القول.. كتبت هذا كله ولم أقرأ لويتمان قصيدة واحدة.. أردت أن أحبه من رجفة أيدي محبيه وهم يتحدثون عنه..
من طقوسه وصمته الرهيب لأكثر من 25 عاماً بعد الحرب الأهلية الأميركية، إذ كان يقطن المستشفيات ليلاً خلالها ويلحق بعمله في مطبعةٍ نهاراً، طرده النوم من وسائده ورأى الموت يتمشّى أنيقاً على الأرض، فذُهلَ وحيداً في بيته، ليس سوى عوائد ديوانه (أوراق العشب) تبتاع له اللقمة وشُعلة الدفء والبراغي التي تثبّتُ الكرسي الذي مات عليه..

عن صحيفة العرب