كل شيء براس الجابي

كل شيء براس الجابي

منو ما عنده بطاقة؟
متى نرفه عنه.. أنه إنسان أيضاً.. سهرة مع الجباة
عندك أربعة فلوس؟ يقول لك هذا إذا أعطيته درهماً أو عشرين فلساً.
منو ما عنده بطاقة؟.. يصيح هذا ليتأكد من أن كل الركاب قد ركبوا بأجرة.
أصعد من يم الباب سيد.. يقول هذا حرصاً على حياتك قبل أن تذهب ضحية عجلات الباص الضخمة.

سيد ما كو مكان... انه يتوسل أليك حتى لا يزدحم الباص بالراكبين فيتعذر عليه السير فيه والانتقال ما بين الركاب للحصول على الأجرة.
أنه إنسان يعمل بإخلاص وصدق وإيمان.. لا تهمه العقبات التي تواجهه. ولا يلتفت إلى سخرية بعض المواطنين منه.. ولا يلتفت إلى شراسة بعض الركاب الذين يتصورون أنفسهم قد اشتروا الباص ومن فيه من السائق والجابي إلى بقية الركاب بأربعة عشر فلساً.
أضنك عرفت هذا الشخص
أنك عرفته حتماً.. لأنك تشاهده كل يوم. ولأنك تتعامل معه كل يوم.. أنه:
الجابي ..
هذا الإنسان هو الذي ارتضى لنفسه القيام بأعباء مصلحة نقل الركاب كلها.. هذا الإنسان هو همزة الوصل بين الجمهور والمصلحة.
سكير يصعد إلى الباص ليعتدي على الجابي .
امرأة طويلة اللسان جاهلة غير مثقفة لا تجد لها مكاناً لقدم.. فاذا بها تتجه الى أقرب ((حايط نصيص)) .. وهو الجابي لتفرغ ما في نفسها من غيظ على رأس الجابي المسكين...
رجل من الريف يصعد الباص رقم ((30)) من الباب الشرقي فيعتقد ان كل الباصات تؤدي الى باب المعظم .. ثم يستدير الباص عند جسر الملك فيصل فاذا به يصيح .. ((أوجب خالي أوجب وين ماخذني؟)) وهنا لا يمكن ان يقف الباص .. ولا يمكن ان يفتح بابه الا عند الموقف الخاص ... فينزل الرجل بأقذع السباب والشتائم، لاعناً الجابي بكل ما في جعبته وقاموس الشتائم من كلمات مقذعة يأباها الذوق..
وهو ... هذا الجابي .. هذا الانسان .. هذه الكتلة من العواطف والاحساسات .. هو بشر ايضاً يثور ويغضب لكرامته .. ولكننا نؤاخذه اذا ثار ... ولا نغفر له اذا غضب.. لانه جابي.
ووسط هذه الدوامة من المزعجات والاعتداءات والمشاكسات يعمل هذا الرجل هادئاً وهو يثبت للناس ان صبر أيوب لا يعد شيئاً بالنسبة لما يختزنه في نفسه من صبر...
واجبنا ..
ان واجبنا تجاه الجابي ان نرد له بعض ما له علينا من حقوق وواجبات.. انه مواطن مثلنا.. ولكننا كجمهور يستعمل الباص في تنقلاته لم نحاول ان نفعل له شيئاً. اننا مقصرون بحقه..
ترى هل أدت له دائرته ومديريته بعض حقوقه؟
هل فكرت مديرية مصلحة نقل الركاب بتهيئة الرسائل التي تكفل له راحته؟
هل أعدت له ما يلزمه من ترفيه وتسرية نفسه؟ تعال اذن نذهب الى نادي المصلحة..
اليوم هو الخميس .. والنادي يقدم في مثل هذا اليوم حفلة ساهرة ترفيهية يشترك فيها كل المنتسبين للمصلحة.. منهم المشاهد ومنهم الفنان ومنهم الموسيقي.. ومنهم تنبثق كل الفعاليات الفنية التي تقدم على مسرح النادي..
هذا النادي يضم ثمانمائة وخمسة وعشرين من الجباة ومائة وسبعة وثمانين من المفتشين وستمائة عامل ما بين فني وغير فني ومائتي كاتب وموظف ومستخدم.
انه ناد فخم كبير كثير المرافق.. أنيق جميل لا يقل جمالاً من حيث الاناقة عن باص مصلحة نقل الركاب.. وهو ذو تصميم جميل روعي في بنائه النظر الى المستقبل من حيث الاتساع...
نادي المصلحة يمتاز على كل النوادي الاخرى بانه كامل من جميع الوجوه، وقد روعي قبل بنائه تحقيق هدف واحد.. هو الترفيه والفائدة بالنسبة لمنتسبي المصلحة..
فالترفيه له وسائل عديدة.. هناك قاعة كبيرة فيها عدة مناضد للعب ((البلياردو)) ومناضد ((للبنج بونج)) .. وهناك ايضاً فرق رياضية تحقق استمرارية العمل الرياضي بالنسبة لبعض الرياضيين الذين حرمهم الانغمار في العمل من اجل تيسير سبل المعيشة لعوائلهم من ممارسة ألعابهم الرياضية .. ولكن فكرة تشكيل فريق رياضي للمصلحة سد هذا الفراغ.. وفي النادي اليوم فريق كامل لكرة القدم.. ومن وسائل الترفيه ايضاً .. هذا المسرح الكبير الذي تعمل عليه فرقة التمثيل في النادي مع بعض الفرق الموسيقية المؤلفة من الجباة والمفتشين وكل منتسب للمصلحة يملك القابلية الفنية.
ان بين الجباة اليوم ممثلين ومطربين وموسيقيين.. وقد ساهم الفنان اكرم رؤوف في تدريس عدد من المنتسبين الضرب على آلة العود والآلات الموسيقية الاخرى..
كيف تأسس؟
كان فكرة الجأ تاليها الحاجة.. الحاجة الى وجود مكان يرتاده المنتسبون للمصلحة.. مكان يقارب بين المنتسبين ويوطد بينهم دعائم الألفة والصداقة والتفاهم.. هذه هي الفكرة.. وهناك دوافع اخرى يستطيع وجود مطعم النادي الفخم ان يسلط بعض الضوء على هدف وجوده..
فهذا الجابي الذي يعمل عدة ساعات في اليوم بحاجة الى راحة وبحاجة ماسة الى تناول الطعام، وليس من المعقول أبداً أن يترك هكذا يتناول طعامه ((سفري)) في الشارع.. وهو بحاجة الى الاغتسال.. وبحاجة الى الترفيه.. ولهذا أوجد المطعم الذي يقدم أحسن وأطيب ألوان الطعام على اختلافها وفي أي ساعة كانت للجابي والسائق والمفتش... وأوجد الحمام الذي يبقى مفتوحاً طيلة النهار والى ساعة متأخرة من الليل لكي يستقبل العشرات من المنتسبين الذين هم بأمس الحاجة الى الاغتسال والنظافة أكمالاً لحسن الهندام والمظهر حتى ينسجم مع اناقة الباص..
ان النادي بالاضافة الى ذلك يمنح بعض منتسبيه بعض الاعانات من الصندوق الموجود فيه والذي أنشئ لهذا الغرض.. فهو مثلاً يمنح المنتسب مبلغ خمسة دنانير فيما اذا حدثت في بيته ولادة ولادة.. وهو ايضا يمنح المنتسب في حالات ((الدفن)) راتباً واحداً أو ثلاثة رواتب..
ان جباة مصلحة نقل الركاب لم يعودوا مبعثرين على رصيف الشارع في باب المعظم كما كان الامر في السابق.. لان المصلحة أوجدت لهم النادي الذي يرتادونه متى شاءوا.
مجلة الشعب 1952