النجف كما وصفها السواح الاجانب ..الرحالة نيبور في النجف سنة 1765

النجف كما وصفها السواح الاجانب ..الرحالة نيبور في النجف سنة 1765

جعفر الخياط
كانت النجف ولم تزل، منذ أن قبرت في ترابها الزكي رفات الإمام أبي الحسن الطاهرة، من المراكز الدينية المقدسة التي ترنو اليها أبصار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ويقصدها الزوار من كلّ حدب وصوب. ولم يكن زوارها في كثير من الأحيان من المسلمين والشرقيين فقط، وإنما كان يزورها بين حين وآخر اُناس من غير المسلمين ممن كانت تدفعهم إلى شد الرحال في البلاد والتطويح في الآفاق عوامل شتى منها:

السياحة وحب الاستطلاع، أو الدراسة والتتبع، أو المجازفة والتمرس بالأخطار، أو التجارة والمصالح المادية.

على ان هذه المصالح والغايات كان لابد من أن تتطور بمرور الزمن فتصبح باحتلال الانكليز للبلاد في أعقاب الحرب العالمية الاُولى مصالح وأغراضاً سياسية واقتصادية، لأن السلطات المحتلة التي كانت تريد تثبيت أقدامها في العراق وجعله مرتبطاً بعجلة الامبراطورية البريطانية المترامية الأطراف سرعان ما ارتطمت سفينتها بصخرة النجف الشماء للدور القيادي الذي ظلت تلعبه في العراق والعالم الإسلامي في مختلف العصور والأدوار. ويعزى هذا الدور الذي تضطلع به النجف بطبيعة الحال إلى وجود العلماء الأعلام فيها وحرصهم الشديد على رعاية المسلمين وخيرهم، وإلى الوعي المتوثب الذي لم تنطفىء جذوته أو يخمد أواره ما بين سكان هذه العتبة المقدسة في كلّ عصر أو زمن، وفي شتى الظروف والأحوال.
على أن أهم ما يرد ذكر النجف فيه من كتابات الغربيين خلال تلك السنين ما كتبه الرحالة الألماني الشهير كارستن نيبور في رحلته التي كتبها على أثر تجواله في البلاد العربية وسائر أنحاء الامبراطورية العثمانية آنذاك. فقد جاء إلى العراق عن طريق الخليج سنة 1765، بمناسبة اشتراكه في بعثة استكشافية علمية جهزها فردريك ملك الدانمارك وبعث بها إلى هذه الجهات. وقد وصل البصرة في خريف تلك السنة، وتوجه منها إلى الحلة في احدى السفن الصغيرة بالطريق النهرية. غير انه ما وصل (لملوم)، التي كان يقيم فيها شيخ الخزاعل حتى ارتأى أن يترك السفينة ويسلك الطريق التي تذهب من لملوم إلى النجف الأشرف مارة (بالرماحية) وبعد مسيرة سبع ساعات ونصف على ظهور الخيل وصل (نيبور) وجماعته إلى (الرماحية) التي يقول عنها أنها بلدة تحتل رقعة كبيرة من الأرض، وتضم في داخل أسوارها العالية المبنية باللبن ما يقرب من أربعمائة بيت. وقد شاهد فيها جامعاً يؤمه الناس للصلاة، وحماماً عاماً بحالة جيدة جداً، وللبرهنة على ازدهار الحالة الاقتصادية فيها يشير إلى ان شيخ الخزاعل كان يتقاضى رسوماً كمركية طفيفة على البضائع التي كانت ترد اليها.
وقد توجه من الرماحية إلى النجف، التي يطلق اسم "مشهد عليّ" عليها لا غيره في يوم 22 كانون الأول فوصل اليه مع خادمه وأحد (الملالي) بعد مسيرة سبع ساعات على ظهور الخيل، خلال حقول ومزارع معمورة. ويذكر في رحلته أنه صادف في طريقه ما بين الرماحية والنجف أربع جنائز تنقل للدفن في وادي السلام، وهو يورد بالمناسبة احصاء عن عدد الجنائز التي كانت تصل اليها من مختلف الأنحاء، فيقول إنه كان يتجاوز الألفين في السنة أي بمعدل سبع جنائز في اليوم الواحد. ويضيف إلى ذلك قوله ان الذين كانوا يريدون الدفن بالقرب من الروضة المقدسة كان عليهم أن يدفعوا مبالغ كبيرة من المال، وان الذين يدفعون مبالغ معتدلة كان يسمح لهم بالدفن في داخل أسوار البلدة، أما الذين كانوا يدفعون مبالغ زهيدة فقد كانوا يدفنون موتاهم في خارج السور، وهؤلاء كان يتراوح ما يدفعونه عن الجنازة الواحدة بين أربعة وثمانية "ستوفرات". وكانت ستون ستوفر تعادل "تالير" ألماني واحد، والتالير يساوي ثلاثة ماركات.
وبعد أن يأتي (نيبور) على ذكر الروضة والجامع وتعلق الشيعة المنتشرين في البلاد الإسلامية كلها بهذه البقعة المقدسة، يقول أنها تقع في منطقة مجدبة لا يتيسر فيها الماء بسهولة. ثم يشير إلى أن الماء الذي كان الناس يحتاجونه للطبخ والاغتسال كانوا يستقونه من قنوات خاصة تمتد في باطن الأرض، لكن الماء الصالح للشرب كان يؤتى به محملا على ظهور الحمير من مسافة ثلاث ساعات. ومما يذكره عن عمران البلدة ان جهة من جهاتها يكثر فيها الكلس، الذي كان يحرق للحصول على مادة البناء منه، وان الخشب كان يندر وجوده ويرتفع ثمنه فيها. ولذلك كانت البيوت تشيد كلها بالطابوق والجص وتعقد سقوفها على شكل قبب وعقود، فتكون متينة البنيان عادة. ويشير كذلك إلى وجود منطقة منخفضة متسعة الأرجاء في خارج البلدة، يكسوها الملح، كان يسميها الناس "بحر النجف" وهو الاسم الحالي نفسه بطبيعة الحال.
ولم يفت (نيبور)، وهو الرجل العالم المدقق، أن يرسم مخططاً خاصاً لمشهد عليّ كما يسميه يشير فيه إلى معالم البلدة المهمة وشكلها العام فهو يشير قبل كلّ شيء إلى أنها كانت في تلك الأيام محاطة بسور غير عامر يمكن الدخول إلى البلدة من عدة فجوات فيه، وان هذا السور كان فيه بابان كبيران هما "باب المشهد" و "باب النهر" وباب ثالث يسمى "باب الشام" لكنه يقول ان الباب الأخير كانت قد سدت فتحته بجدار خاص من دون أن يذكر السبب في ذلك. ويضيف إلى هذا قوله ان الشكل الخارجي للبلدة يشبه شكل مدينة القدس، وان سعتها تقارب سعة القدس أيضاً.
ويقول كذلك ان النجف كان فيها، عدا الجامع الكبير المشيد حول الضريح المطهّر، ثلاثة جوامع صغيرة اُخرى. وقد عمد (نيبور) إلى تخطيط رسم خارجي عام للجامع الكبير، كما يسميه، وهو يذكر ان سقفه قد صرفت مبالغ طائلة على تزيينه وطليه بالذهب بحيث لا يمكن أن يوجد مبنى آخر في العالم أجمع يضاهيه بكلفة تسقيفه الباهظة. ولا شك انه يقصد بذلك القبة العظمى المذهبة التي يقول ان نادر شاه الطاغية قد أنفق تلك المبالغ عليها ليكفر بها عن الأعمال الشريرة التي ارتكبها في ايران. فقد بلغت كلفة لوحة النحاس المربعة بالذهب مبلغاً يزيد تومان ذهب واحد (عشر تاليرات ألمانية). وهو يشيد كذلك بالمنظر الأخاذ الذي يبين للناظر إلى القبة المذهبة، ولا سيما حينما تسقط أشعة الشمس عليها، أو حينما تبين للرائي من بعد ستة أميال ألمانية على حد قوله. ومما يذكره بالمناسبة ان القبة كان يعلو قمتها "كف عليّ" بدلا من الهلال الذي كان يشاهد فوق القباب الموجودة في الجوامع التركية عادة.
ويستمر في وصف المظاهر الخارجية فيقول ان الجامع الكبير هذا كان محاطاً بساحة واسعة يقام فيها السوق كلّ يوم. وكان هناك بين يدي الباب الكبرى شمعدان كبير جداً يحمل عدداً كبيراً من الأضواء. وقد كانت تطل على هذه الساحة من جميع الجهات بيوت السادة والخدم التابعين للحضرة المطهرة، الذين كان يتجاوز عددهم المئة على ما قيل له.أما بالنسبة لداخلية الحضرة وزينة جدرانها وسقوفها فهو يقول انه لم يستطع التقرب كثيراً من الجامع والدنو منه بحيث يشاهد شيئاً منها بنفسه. لأنه كان يخشى أن يجبر، لو فعل ذلك، على اعتناق الاسلام جرياً على العادة التي كانت متبعة مع غير المسلمين في هذا الشأن، ولم يكن يرغب أن يكلفه حب الاستطلاع مثل هذا الثمن الغالي على حد قوله. على انه يذكر ان (الملاّ) رفيقه في السفر، وعدداً من شيعة النجف، قد أكدوا له ان الحضرة كان فيها أشياء ثمينة جداً ينبهر بها الناظرون. فقد كان هناك عدا القبة المذهبة والآيات القرآنية المطعمة بالميناء وكتابات كثيرة مكتوبة بحروف من ذهب، وعدد غير قليل من (الشمعدانات) الفضية والشمعدانات الذهبية المطعمة بالأحجار الكريمة. ويشير ما خاصة إلى بصورة قيل له عن خنجر من الطراز الهندي كان معلقاً في شباك الضريح المطهر، فإنه كان مرصعاً بأحجار كريمة نادرة لا تقدر بثمن. وقد قيل له ان أحد أسلاف (أورنك زيب) امبراطور المغول في الهند كان قد أهداه على سبيل التبرك قبل بضع مئات من السنين. لكن الملاحظ في التأريخ ان أورنك زيب (وهو شاه جهان) نفسه تولى الحكم في 1659 وتوفي في 1707، وان امبراطورية المغول قد أسسها (بابير شاه) في الهند سنة 1529. ولم يغفل نيبور عن الإشارة في رحلته إلى انه كان من المعتاد في كلّ سنة أن يوفد والي بغداد رجلا من كبار ضباطه الى النجف الأشرف للتحقق من وجود هذه الأعلاق النفيسة والتحف الثمينة التي كان يؤتمن عليها الكليدار، ويسأل عنها الباشا الوالي كذلك.

نيبور في الكوفة
ويظهر من رحلة نيبور انه كان قد قصد الكوفة أيضاً وزار معالمها خلال مدة وجوده في النجف. فانه يشير إلى أهمية الكوفة القديمة في تأريخ الإسلام، ويقول أنها كانت خالية من السكان تقريباً حينما زارها. وقد شاهد في طريقه اليها مجرى كري سعده الجاف، الذي يعتقد انه (اليالاكوباس) الذي حفره سكان العراق الأقدمون. لكن الذي لفت نظره بطبيعة الحال مسجد الكوفة الذي قتل فيه الإمام (عليه السلام). وهو يقول ان هذا الجامع الكبير لم يبق منه شيء يذكر سوى الجدران، وبعض المعالم المشهورة، وقد عمد إلى رسم مخطط خاص له نشره في الرحلة وأشار فيه إلى الأسماء كما استقاها من الدليل النجفي الذي كان بصحبته.
ومن المواقع التي يشير إليها في الجامع باب الفيل، والسفينة، (والسقاخانه) والموقع الذي كان الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) يصليان فيه، والمحراب الذي كان يصلي أزاءه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام). كما يشير إلى الأعمدة الدالة على مقامات الأنبياء عيسى وموسى وإبراهيم الخليل، والموضع الذي من عادة الإمام السجاد (عليه السلام) أن يصلي فيه، والمكان الذي شيد فيه نوح أول بيت له بعد مغادرته السفينة على ما يُعتقد، ومقام الإمام الصادق (عليه السلام)، وضريحي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة. وقد علم نيبور من الكتابة التي كانت منقوشة على البناء المشيد فوق قبري مسلم بن عقيل وهاني ان (محمّداً بن محمود الرازي) و (أبا المحاسن بن أحمد التبريزي) هما اللذان شيداه سنة 681 للهجرة.
ومما يذكره أيضاً ان السيدة عادلة خاتون بنت أحمد باشا الحاج حسن باشا، وزوجة الوالي سليمان باشا أبي ليلة، وكانت قد توفيت قبل وصول (نيبور) ببضع سنوات فقط، هي التي شيدت جدران مسجد الكوفة من ناحية الشمال الغربي، وهي التي أنشأت على حسابها الخاص بناية صغيرة ذات قبة قرب الجامع تخليداً لذكرى النبيّ نوح (عليه السلام). وقد زار (نيبور) جامع السهلة أيضاً; وهو يقول ان الدليل قص عليه قصة تختص بالجامع لم يفهم شيئاً منها.
وقد غادر (نيبور) النجف في يوم 25 كانون الأول 1765 متوجهاً إلى الكفل بعد أن بقي فيها ثلاثة أيام. وآخر ما يذكره في هذا الشأن ان (مشهد عليّ) لم يصل اليه أي أوربي قبله هو. ولا شك انه مخطىء في قوله هذا لأن الرحلات المطبوعة تشير إلى ان عدداً من الرحالين الأوربيين قد زاروا النجف قبله أو مرّوا بها، وأهمهم تكسيرا البرتغالي 6 آب (1604) و (بيترو ديلافالة) الإيطالي (1619) ونافيرنييه الفرنسي (1639). لكنه في الحقيقة كان أحسن من كتب عنها، وان المعلومات التي أوردها كانت أوسع مما كتبه غيره كما يلاحظ مما أوردناه في هذا البحث.

الرحالة تكسيرا في النجف
ومن أشهر الرحالة الذين زاروا النجف في تلك السنين الخوالي الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا الذي كتب رحلته بالبرتغالية في وصف الخليج والبصرة والنجف وكربلا وبغداد وعانة. وقد ترجمت هذه الرحلة إلى الانكليزية وطبعت في لندن سنة 1902. وكان تكسيرا قد وصل إلى البصرة من الخليج في يوم 6 آب 1604، وبعد أن أقام فيها مدة تناهز الشهر غادرها متوجهاً إلى بغداد مع قافلة من القوافل عن طريق البادية. وبعد أن غادر البصرة بسبعة أيام وصل إلى موقع في البادية يسمى "عيون السيد"، وهو يقول أنهم وجدوا في هذا الموقع آثار بلدة قديمة كبيرة مع عدد من النخيل وبعض الشجيرات. وبعد أن تركت قافلته (عيون السيد) وتابعت السير ثلاثة أيام اُخرى بانت لهم من بعيد بحيرة واسعة الأرجاء متكونة من مياه الفرات في وسط البادية، ولا يخفى أنها "بحر النجف" على حد تعبير الناس في يومنا هذا.
وبعد مسيرة يومين مرت في أثنائهما القافلة بأماكن تتوفر فيها المياه الغزيرة وتمتد من حولها حقول الشعير والقمح والقطن والخضروات كما يقول تكسيرا، بانت لهم مدينة النجف من بعيد وكأنها تطل من موقعها العالي على بحر النجف نفسه. ثم وصلت القافلة إلى مكان في رأس البحيرة ونزلت في موقع مناسب يقرب منه، فاستضافها هناك رجل يقال له الشيخ علاوي، وقد أصبح صديقاً حميماً لتكسيرا على ما يظهر لأنه يسميه "صديقي العظيم". وفي هذه المرحلة يصف بحر النجف بقوله انه يستمد ماءه من الفرات، ولذلك يلاحظ ازدياد مقاديره في مواسم الطغيان، وليس لهذه البحيرة شكل معين لكنها تمتد بطولها حتى يبلغ محيطها خمسة وثلاثين إلى أربعين فرسخاً. وهناك فيما يقرب من منتصفها ممر ضحل تستطيع الحيوانات اجتيازه خوضاً في المواسم التي يقل فيها ماء البحر، ويقول كذلك ان هذه البحيرة كانت شديدة الملوحة، ولذلك كان يستخرج منها الملح الذي يباع في بغداد والمناطق المجاورة، ومع ملوحتها هذه كان يكثر فيها السمك بحجومه وأنواعه المختلفة، ولهذا يسميها الناس هناك بحيرة الرهيمة.
وقد وصلت قافلة تكسيرا إلى النجف مساء السبت 18 أيلول (23 ربيع الثاني 1013) فقصدت خاناً من الخانات الكبيرة التي كانت تشبه في شكلها ومنظرها العام الصوامع الموجودة في البلاد الأوربية على حد قوله. وبعد أن يأتي في رحلته على الجوانب التأريخية المعروفة للمكان وكيفية دفن الإمام (عليه السلام).

عن موسوعة العتبات المقدسة ــ قسم النجف 2