المسار الفكري لغادامير

المسار الفكري لغادامير

محمد الخشين
وُلِد هانز جورج غادامير في براسلو(ألمانيا) في الحادي عشر من فبراير/شباط عام 1900،في العام نفسه الذي توفي فيه نيتشه، وألف فيه فرويد كتابه"تأويل الأحلام". يجسد أبوه يوهان، الذي كان صيدليا،العلمي البارع. درس غادمير في شبابه الأدب الألماني، فقرأ ثيودور لسنج، سورين كيركيجارد،

ودخل في اتصال مع أول نص فلسفي اطلع عليه:"نقد العقل الخالص"لإيمانويل كنط. ما أثار استياء أبيه الذي كان أستاذا بجامعة براسلو، هو اهتمام هانز جورج بالدراسات الكلاسيكية، الانسانية،في مجال الفيلولوجيا. وقد تابع دراسته للفلسفة بجامعة ماربورغ، بالقرب من المعلمين الكبيرين نيكولاي هارتمان وبول ناتورب الذي أشرف على أطروحته. في سنة 1922 تعرف على ماكس شيلر الذي وجهه إلى الفينومينولوجيا، وهي الفرع الذي سيدرسه،فيما بعد، بفرايبورغ على يد إدموند هوسرل ومارتن هيدغر.ومع ذلك لم يتوقف غادامير، الذي كان متخصصا في الفكر الأفلاطوني،عن الاهتمام بالأدب وتاريخ الفن،مكونا نفسه بالمدرسة الكنطية الجديدة المارغبورية.وضمن هذه الروح النيوكنطية تجدر موضعة تحريره لأطروحته المعنونة ب:"ماهية اللذة في المحاورات الأفلاطونية".[1]
لكن، ما بين عامي 1922-1923قرأ غادامير"البحوث المنطقية"لإدموند هوسرل وولج جامعة فرايبورغ،حيث تابع محاضرات هيدغر،الذي كان تدريسه يثير حساسية.كان فكر هيدغر،الذي فكك تاريخ الميتافيزيقا،يمنح بسرعة لغادامير توضيحا حول قوة التجربة الهرمينوطيقية،أي تلك التي ترتكز على استعادة وتأويل الأسئلة الكبرى للتقليد الفلسفي.غير أن الارتباط بهيدغر لن يكون بدون انعكاسات على المسار الفكري لغادامير.ففي رسالة صارمة،في عام 1925،بعث إليه هيدغر هذه الكلمات:"إذا لم تكونوا قساة على أنفسكم،لن يكون منكم أي شيء".ولأن هيدغر كان جد متطلب حيال تلميذه،وجه غادامير دراساته نحو الفيلولوجيا(دراسة النصوص الكلاسيكية)مع بول فريدلياندر.هذا التعلم سيكون حاسما في مسار غادامير الذي قدم أطروحته للتأهيل تحت إشراف هيدغر،حول"الاتيقا الديالكتيكية عند أفلاطون"سنة 1938.وقد نشر غادامير، عام 1934،نصا لمحاضرة بعنوان"أفلاطون والشعراء"،الذي يعد واحدا من منشوراته النادرة ما بين 1931 و1945.[2]
قبيل الحرب العالمية الثانية كان غادامير مدعوا إلى وضع كتبه بجامعة لابزيغ لكي يصبح استاذا.ولم يشارك،خلال الحقبة النازية الصعبة،في أي نشاط رسمي وتجنب المشكلات السياسية.وبجامعة لايبزيغ،خلال المرحلة الكبرى لإعادة بناء الجامعات الألمانية،بموافقة القوات السوفييتية،شغل الوظيفة الادارية لرئيس الجامعة.ودرس بعد ذلك بفرانكفورت عام 1947و1948،لكن أيضا بجامعة هيدلبرغ سنة 1949،لتعويض كارل ياسبيرز.[3]
تحت ضغط طلبته،أخرج،عام 1960غادامير ملخصا لمحاضراته.هذا الكتاب الذي سيشكل حقيقة مجموعا فلسفيا،ظهر ثلاثين سنة بعد"الوجود والزمان"لمعلمه مارتن هيدغر.وإذا كان غادامير في البداية فكر في عنونة مؤلفه ب"الفهم والحدث"وفاء لذكرى بولتمان،فقد غير رأيه تحت ضغوط ناشره. وسوف يختار في نهاية الأمر، انطلاقا من مرجعية كتاب لغوته(الشعر والحقيقة)،له كعنوان:"الحقيقة والمنهج"،وفي هذا المؤلف الأخير وضع،طبقا لعبارته،"الخطوط العريضة لهيرمينوطيقا فلسفية"،درس خلاله الفن،التاريخ واللغة،لإظهار أن حقيقة الفلسفة (إذا لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لكل تجربة إنسانية)تذهب دائما إلى ما وراء الوعي المنهجي العزيز على حداثتنا.[4]
فضلا عن كونه أحد الفلاسفة الألمان الذين يعدون مميزين للقرن العشرين،اعتبر غادامير الممثل الأكثر أهمية للهرمينوطيقا الفلسفية، هذا الفرع من الفلسفة الذي يسعى إلى تدقيق الشروط غير القابلة للتجاوز لفهمنا للعالم.في السنوات الأخيرة من حياته،استمر غادامير في اتخاذ موقفه من المسائل الكبرى للعالم،بإلقاء محاضرات أو باستقبال زوار بمنزله بهيدلبرغ.وقد وافته المنية في 14 مارس 2002 بهيدلبرغ بالغا من العمر 102 سنة.[5]
تحليق سريع حول تاريخ الهيرمنوطيقا:
يعتبر غادامير كأب للهيرمنوطيقا الفلسفية.لنقف هنا لحظة للقيام برحلة في تاريخ الهيرمنوطيقا،بغاية فهم اللحظات الكبرى لهذا الفرع.وستمكننا هذه الجولة من موضعة التجديد الذي أتى به غادامير ومعرفة التقليد الفلسفي الذي ينخرط فيه فكره الفلسفي.
لقد تحددت الهيرمنوطيقا تقليديا باعتبارها فن الفهم،أي كمعرفة تسمح بقراءة المعنى أو تأويل نص ما.على هذا النحو تعود أصول الهيرمنوطيقا إلى بداية الفلسفة.ويستعمل أفلاطون بالفعل فعل هيرمنيان لتأهيل العمل التأويلي للشعراء والحكواتيين،في محاورة إيون الموجزة مثلا،الذين يترجمون رسائل الآلهة إلى كلمات أو يفسرونها.وسيجعل أفضل تلامذته،أرسطو،من الهيرمنيا اللغة التي يجب أن تحول أفكار الناس إلى كلمات.سيكتب أرسطو الذي يأخذ حذره من معنى الكلمات مؤلفا بعنوان"هيرمنيا الخرافات"[6].وهو يتعلق جوهريا برسالة حول السيمانطيقا والمنطق تتمحور حول القضية.بعد أفلاطون وأرسطو،سيفكر الرواقيون بأن أول البشر كانوا يتوفرون على لوغوس خالص،وعلى ولوج مباشر وحقيق إلى الأشياء.,بعد ذلك،لكي نمضي قدما،إذن من نهاية العصر القديم إلى غاية العصر الوسيط وبداية الحداثة،ستبقى الهيرمنوطيقا مرتبطة أو محددة بتفسير (تأويل) الكتابات.هنا يعتبر أهم الكتاب هم:فيلون الاسكندري،أوريجين، أغوسطين ولوثر، المصلح الشهير.
في الحقبة الرومانسية،سيحدث شليماخر(1768-1834) انقلابا في معنى الهيرمنوطيقا. فعن طريق سعيه إلى تفسير (بالتحديد عن طريق اللسانيات وعلم النفس)المسافة التي تفصلنا دائما عن النصوص،غير شليماخر جذريا طريقة النظر إلى الهيرمنوطيقا:يجب علينا،حسبه،أن نسلم بعدم الفهم بهدف تحصيل أفضل فهم لروح المؤلف،وإذن بما اراد المؤلف قوله.هكذا،وبواسطة العمل الذي يقوم به الهرمنوطيقي في الخلف،يفكر شليماخر،يمكن أن نفهم بشكل أفضل مؤلفا معينا كما يفهم هو نفسه ذاته.بعده،أراد دلطاي(1833-1911) أن يرى في المعرفة الهيرمنوطيقية،التي تعــد دوما تاريخية،قاعدة مشتركة لعلوم الروح أو العلوم الانسانية.وبلغة أخرى،تستند العلوم الانسانية دائما إلى فهم للعالم وهذا الفهم تاريخي وثقافي.لكن مع هيدغر ستعرف الهرمنوطيقا ثورة جديدة:الفهم،ليس بمنحصر في النصوص،بل شأن كل وجود إنساني.ليس الفهم أداة يتوفر عليها الانسان،بل إنه بنية الانسان نفسها.[7]

الهيرمنوطيقا في كتاب"الحقيقة والمنهج"(1960)
سيظهر غادامير نفسه أقل راديكالية من هيدغر.وحسب هيرمنوطيقا غدمير المبلورة في"الحقيقة والمنهج"،فإن الفهم هو الموقف العام الذي يختص به الوجود الانساني،لكن هذا الموقف يجب أن يؤسس على التاريخ واللغة.في حين إذا كان كل فهم يستند إلى استعمالنا للغة،في استطاعة غادامير إذن أن يمنح للهرمنوطيقا أساسا انطولوجيا،أي قاعدة مشتركة في مجال ما هو كائن،ما هو موجود،لأن لغتنا هي التي تسمي الأشياء.
في كتاب:"الحقيقة والمنهج"،يبين غادامير في مستهل اللعبة كيف يمكن للعمل الفني أن يصبح من جديد تجربة للحقيقة خارج العلم.وهو ما سمح له أن يعتبر عمل الفن كتجربة أنطولوجية حيث ينكشف معنى ما،لأن الحوار يوجد دائما بين العمل الفني والمتفرج،المستمع أو القارئ.فالعمل الفني يحدثنا دائما،ما دام أن معناه ينتقل إلى تجربة للمعاصرة.أي بإمكاننا أن نستعيد ونؤول المعنى الماضي داخل تجربة حاضرة،راهنة.ففكرة معاصرة المعنى تشرح بالتحديد لماذا تفهم الأعمال الفنية من طرف الأجيال اللاحقة،لماذا يشق عمل فني ما طريقه في التاريخ.
بعد أن أبرز كيف أن الإستطيقا تجربة للحقيقة وبأن الحقيقة لا تنفصل عن تجربة معينة للمعنى،أعاد غادامير تسطير اللحظات الكبرى لعلوم الروح من أجل تفسير كيف أن حقيقة العلوم الانسانية لا يمكن خلطها مع تلك التي تخص العلوم المحضة أو علوم الطبيعة.إن الحقيقة،يشرح غادامير،لا يمكن أن تقاس عن طريق اتخاذ المسافة المنهجية التي يطبقها العلم،مادام أن العلم يدمر قبليا وعلى الدوام رابطة الانتماء،فحوار الانسان في العالم،وحده يضمن إمكان الحقيقة.[8]

عن صحيفة/ أنباء المغرب