قولٌ في إداء حسن خيوكه

قولٌ في إداء حسن خيوكه

خالد جواد شبيل
منذ بداية اندلاع الحرب العالمية الاولى، سارع الإنكليز لاحتلال العراق، لما يتمتع به من خيرات وموقع استراتيجي،،، وقد دُهش العراقيون لما جلبه المحتلون الإنكليزمن عُدد وآلات منها ما يمخر عباب الماء، وما يدب على الأرض وما يحلِّق في الهواء،

وكذلك ما أشاعوه من أدوات وآلات ستلعب أدوارا هامة في الحياة الإجتماعية والثقافية العراقية بعد ركود عثماني طويل! ومن بين هذه الآلات جهاز ترفيهي كان قد اقتناه بعضُ أعيان بغداد وموسريها في أواخر الحكم العثماني وكانتِ العامة تسمع -من دون أن ترى- عن جهاز عجيب تنبعث منه أغانٍ وموسيقى بعد أن توضَع فيه اسطواناتٌ مطلية بالشمع، مسجل عليها هذه الأغاني..(راجع أوراق كامل الجادرجي)، لعب "الحاكي" وهي ترجمة غير موفقة لجهاز الأسطوانات هذا ل"غراموفون gramophone أوphonograph الذي شاع وانتشر مع الاحتلال، فقد لعب دورا هاما في الحياة الإجتماعية والثقافية لاسيما في المدن الكبرى كبغداد والبصرة والموصل، حيث يصدح منه الغناء المنبعث من المقاهي والبيوت الموسرة، ما عرّف العراقيين بألوان من الغناء العربي وخاصة المصري والشامي بما لا عهدَ لهم بها من قبلُ من موواويلَ وأدوار وطقاطيقَ وقصائدَ ملحنةٍ ومدائحَ وتراتيلَ للصفطي والشيخ أبي العلا وعبدة الحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش،،، وكذلك لمقرئين عراقيين كالملا عثمان الموصلي وأحمد زيدان ونجم الشيخلي والقندرجي ولاحقا القبانجي ولمطربات عراقيات ووافدات للعراق من دول الجوار!
لقد حرّك الغراموفون الحياة الثقافية والإجتماعية ووسّع الذائقة الغنائية العراقية للرجال وللنساء بعد أن اقتُنِيَ من قبل العوائل –حتى المحافظة منها-، فقد اطلع العراقيون على غناء وموسيقى الشعوب الإخرى وعلى مدارس تجويد القرآن المختلفة، كما أنه دفع بالموسيقى البغدادية لا سيما البستات والمقام العراقي ليُسمَعَ لا في العراق وحسب بل وفي الدول المجاورة، كما أتاح للبغداديين أن يستمعوا لغناء الريف ولغناء البادية، وأن يتعرفوا على أساليبِ غناء المقام العراقي في البصرة والموصل وكركوك..وكذلك التعرف على الأساليب المختلفة في غناء المقام لمختلف القراء الكبار كالأسلوب الزيداني (نسبة الى أحمد زيدان ت1912) والقندرجي (نسبة لرشيد القندرجي ت1945) والقبانجي (نسبة لمحمد القبانجي ت1988) ما سمح بتبادل الخبرات وتعميقها ونقلها من جيل الى جيل آخر وتوسيع دائرة التراث العراقي الغنائي والموسيقي بمختلف أطيافة وتفاعله مع بعضه والمحافظة علية لدى العرب والكُرد والتركمان واليهود والمسيحيين والصابئة...الخ. على أن الإستماع للأسطوانات لايخلو من نواقص أو منغصات أيضا، فهي لا تسمح بتغطية المقامات الطويلة أو التامة لكونها محدودة المساحة، فمن الصعب تغطية الرست أو الحجاز ديوان، أو البيات بشكل كامل مما قد يضطر على الإقتصار على المقامات القصيرة كالاوشار والجمال و الأورفة والراشدي والمحمودي والدشت واللامي والحكيمي...والتي تتوزع على وجهي القرص مما يُضطر للتوقف لقلب الأسطوانة "القرص" لمواصلة الإستماع الى الوجه الثاني من القرص، كما أن مواصلة شحن لولب الجهاز يدويا أمر ممل تلافيا لفتور سرعة دوران القرص! ومع هذا ساهم هذا الجهاز في تخريج مطربين ومطربات لشتى ألوان الغناء العراقي الثر، وحافظ على توثيق الكثير من المقامات العراقية التي لولاه لأصبحت في طي النسيان...
ان عوامل الإندثار والإختلاط تهدد تراثنا هذا وخاصة أن بعض المقامات قد أصبحت نسيا منسيا مثل: الخلوتي والتفليس والحجاز شيطاني والبختيار والمثنوي والباجلان والحديدي والبشيري والأرواح والمسجين... لقد غُنِّيت كثير من البستات والأغاني العراقية من مطربين عرب ومن دول جوار دون الإشار الى أصولها بل أن كثيرا من أغانيننا قد شوهت لحنا وكلمات مما يخشى عليها من الضياع، كما أن غياب قانون تسجيل عائدية الإبداع جعل بعض المطربين الجدد يسطو ويشوِّه أغاني من سبقهم من المطربين الكبار! وللتدليل على أهمية ما أقول، أذكر شيئا من التراث الضائع والمنحول للفنان والمقريء العراقي العظيم ملا عثمان الموصلي (ت1923)، الذي تنقل من بلدته الموصل فبغداد، مابين حاضرة الدولة العثمانية اسطنبول حيث تألق نجمه و بين الشام ومصر خلل أعوام 1895 وعام 1909 حيث تتلمذ على يديه أعلام مصر الكبار من عبدة الحامولي الى سيد درويش وأخذوا منه ألحانا اعتُبِرت مصرية بعد أن غُيِّرت كلماتها أحيانا مثل: دزني واعرف مرامي، وفوق النخل، وزوروني كل سنة مرة، ويا أم العيون السود، ويا أم العباية، وعمي يبياع الورد، وقدك المياس، و، و، و...( موسوعة الدكتور عمر الطالب:أعلام الموصل/ملا عثمان الموصلي، الموسوعة الميسرة 1965: ملا عثمان الموصلي، موسوعة الأعلام لخير الدين الزركلي 1980: ملا عثمان الموصلي).
إن التدوين والتوثيق للموسيقى والغناء العراقي وخاصة، المقام العراقي وأشهر من غناه لا يُعد عملا ثانويا مرتجلا بل يتطلب تكوين لجان من خبراء ومن هم على دراية بالأساليب الحديثة العلمية في التوثيق والتصنيف والدراسة النظرية وكذلك الميدانية، كما يتطلب الأمر من وزارة الثقافة وبالتعاون مع جامعات العراق لتكون لجان فنية وأكاديمية كما يمكن الإستفادة من خبرة البلدان الشقيقة والصديقة في هذا المجال، فالمعروف عن مصر أنها دونت ووثقت كل تراثها الفولكلوري منذ ستينات القرن الماضي، وساهم فيه كبار فناني وأساتذة مصر مثل زكريا حجاوي وسعد الدين وهبة ،،، فهل نحن فاعلون؟
لقد قدم الموسيقار روحي الخماش والخبير الأستاذ شعوبي إبراهيم وغيرهما إسهامات جادة في تدوين المقام العراقي موسيقيا (المقام العراقي/ثامر العامري، دليل الأنغام لطلاب المقام لشعوبي ابراهيم)، وقد صدر كتاب عن المقام للمطرب الكبير الأستاذ حامد السعدي وكذلك سلسلة المؤلفات التي أصدرها المطرب الدكتورحسين الأعظمي منذ عام 2000 المقام الى أين؟ ثم ثلاثة كتب عن أساليب الغناء المتميزة للطريقة القبانجية ، والقندرجية والزيدانية وكتاب المقام العراقي بأصوات النساء 2005 والتي يأمل ونأمل معه في أن يجعلها موسوعة في مجلد أو أكثر، وصدر كتاب في العام الفائت هو: موسوعة المقام العراقي للدكتور عبد الله المشهداني) ...
ورغم أهمية هذه المؤلفات التي تشكل إضافة في دراسة المقام العراقي، إلا أنها من ناحية أخرى امتداد للدراسات الجادة التي قام بها اساتذة رواد في هذا المجال كالأستاذ المرجع والخبير هاشم محمد الرجب وعبد الكريم العلاف والشيخ جلال الحنفي والأستاذ شعوبي ابراهيم والأستاذ الخبيرحسقيل قوجمان...ومن يتمعن هذه المؤلفات سيجد اختلافا في المناهج وفي النتائج التي توصل إليها المؤلفون خاصة الجدد منهم وطالما تتعلق بنشأة المقام العراقي من ناحية التأريخ ونسبة المقامات وأصولها ومساهمة الشعوب غير العربية المجاورة فيها، إضافة الى التسميات والمصطلحات من ناحية الأصول والدلالات! وكذلك في ما يتعلق بمدارس المقام وبالأسلوب والخصائص الإدائية لكل مدرسة، ناهيك عن دراسات تطبيقية للمسارات الصوتية والإدائية لممثلي كل مدرسة الخ ..
وإذ نحن ما نزال نتنسم أجواء بغداد عاصمة للثقافة 2013، نقول: إن وجود هذا الكم من المؤلفات التي تتناول الموسيقى العراقية والمقام العراقي لا تُعفي وزارة الثقافة العراقية من إيجاد موسوعة معتمدة للمقام العراقي يمكن أن تكون مرجعا موثوقا به يقوم بتأليفه لجنة من الخبراء والمختصين، يجمع بين الناحيتين النظرية والتطبيقية مع مراجعة المصطلحات وتعريبها وفق أسس علمية والتخلص من الجمل والمتكآت اللحنية الغريبة التي تتخلل المقاطع والجمل الموسيقية باللغتين التركية والفارسية، كما إن إدخال درس المقام العراقي في المناهج الدراسية ضمن الموسيقى والإنشاد سيعزز هذا الفن ويجعله محترما باعتباره مفخرة من مفاخر التراث الغنائي لبلاد الرافدين وسيعزز اللحمة الوطنية فهو قاسم مشترك لجميع ألوان الطيف العراقي، ناهيك عن كونه ظاهرة حضارية يعتد بها، كما سيفتح آفاقا رحبة للتفاعل مع موسيقى الشعوب الأخرى والإنفتاح عليها مثل الموسيقى الكلاسيكية والعالمية...
ولا يقل أهمية عن كل ما ذكرنا تأسيس فرقة وطنية للمقام العراقي (على غرار فرقة الإنشاد العراقية)، تتولى وزارة الثقافة العراقية تشكيلها ويتم اختيار العازفين والمنشدين وفق معايير الكفاءة الإدائية، وتتولى عزف المقام بالطرق الحديثة بعيدا عن العزف المرتجل وغياب النوطات!! مع فرقة كورال لقراءة المقام جماعيا بأصوات رجالية ونسائية بعيدا عن النشازات الصوتية فلطالما نسمع العازفين هم الذين يتولون الإنشاد بأصوات يختلط فيها الغليظ بالناعم الرقيق، وتسمع ألحانا ثقيلة تبعث على الملل والتثاؤب، وكلمات لبستات عفى عليها الزمن!!! فهل نحن فاعلون؟
الشعر كما الموسيقى هما انعكاس للوسط الطبيعي والبشري الذي نشأا فيه، ويشكلان الجزء الأهم من النشاط الإنساني الجميل، وإن كانت الموسيقى هي الأكثر تجريدا من بين الفنون الجميلة. فمثلما اتسم الشعر الجاهلي ببساطة الأفكار ووصف الطبيعة، ورتابة الإيقاع...التي هي انعكاس لبساطة العيش في صحراء الجزيرة العربية وجِمالها، كذلك كانت الموسيقى العربية، فقد اتسمت موسيقى الجزيرة العربية بالبساطة والمد الصوتي وقلة الترجيع، وتكرار رتيب للتيمات الموسيقية، كما اتسمت الموسيقى ببساطة آلاتها كالرباب، والقصبة، والرق،،، وكان العزف مطابقا للغناء تماما وتكرارا له بما ينسجم مع الصحراء المنبسطة وسير سفنها الرتيب! وقد تمثل ذلك بالحداء والركباني –من السيكاه / الخزام- الذي ورثناه بالإسم نفسه من العصر الجاهلي وقد كان الخليفة الثاني ممن يجيد غناء هذا اللون.
مع انتشار الإسلام وامتداده في أسيا وأفريقيا حصل اختلاط للعرب بالأعاجم، بلغ أوجه في العصر العباسي مما سمح بإغناء الموسيقى العربية بموسيقى الشعوب الأخرى وبإدخال آلات موسيقية لا عهد للعرب بها قبل ذلك، وكان أكثر هذا التأثير يتأتى من الفرس والترك اللذين احتلا بغداد في العصرين البويهي والسلجوقي، وبعد سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م (656ه)، وتكون دويلات جديدة في العراق كتعاقب دولتي الخروف الأسود والأبيض(1375-1508م) حيث دخلت مؤثرات جديدة للتركمان والأذريين. مع استمرار تناوب التاثيرين العثماني والصفوي، وهذا ما عبرت عنه الأغنية البغدادية الذائعة: "بين العجم والروم بلوه ابتلينه" والمقصود بالروم هو الترك. وكان من نتائج هذه الحقبِ المتلاحقة بعد السقوط والتي انصهرت بها الأنغام العربية بالأعجمية وأعطت أكلها لونا من الغناء هوالمقام العراقي والبستة البغدادية... وهي حقب شهدت حروبا دامية، سيق بها العراقيون بالإكراه لحروب الدولة العثمانية ضد أعدائها التقليديين من الفرس والروس...ولا أظن أن "السفر بر لك" بغريب على أسماع العراقيين.
هذه العوامل والظروف هي التي طبعت المقام العراقي باللون الحزين الذي ظل محافظا عليه والذي أثر بمجمل الغناء العراقي وطبعه بطابعه المتميز وهو الحزن الجميل الصادق.. ففي أنغام المقام العراقي يتلمس المرؤ أنات الأسرى وتوقهم للعودة، ويلمس الحنين، والتوجع والتشكي، ورشاقة الأداء في القرارات والجوابات، كما يلمس بسهولة ويسر التأثيرات الأجنبية كالترجيعات العالية التي هي نتاج الطبيعة الجبلية كما في مقامات العجم والدشت والنهاوند والأوشار والكرد والحجازكار والاورفة... على خلاف الامتدادات الصوتية التي هي نتاج الطبيعة المنبسطة والممتدة مع الأفق كما في بعض قطع الحجاز والصبا والسيكاه والبيات، كالحويزاوي والقطر، واللامي والحكيمي والجمال اضافة الى الركباني، والعتابة والسويحلي...ومن ينصت الى المقام العراقي سيستمع الى العبارات غير العربية والتي تحمل جملا نغمية معينة كمتكآت تعين مؤدي المقام على استذكار القطع وتعتبر مع التحرير والميانات كعلامة فارقة للمقام.
لم يكن إداء المقام بالأمر السهل، بل يتطلب دراية نظرية واسعة بالأنغام الشرقية والسلالم الموسيقة، وخبرة في تمييز القطع والأوصال، ومن الناحية العملية يتطلب مواهب فردية من صوت متكامل في المنخضات الصوتية والطبقات العالية وليونة أو مرونة في الصوت تستوعب المسارات اللحنية لكل مقام، وجمال الصوت يعني قدرة تأثيره في السامع مع مساحة واسعة تتيح لصاحبه التحكم بالصوت في المديات المنخفضة والعالية من قرارات وجوابات مع نفس طويل يمكن صاحبه من إشباع القفلات الموسيقية ( راجع مقالة: مطرب غنى بصوته في عدة مواقع وصحف عراقية، نشرت في أحد ملاحق المدى: يوسف عمر بين التقليد والتجديد لكاتب هذه السطور).
كثيرون هم الذين أدوا المقامات العراقية، ومن هذا الكثير نجد قليلا من استطاع أن يتميز بأسلوبه كقاريء مبدع غير مقلد، من أمثال:أحمد زيدان واضع الأسس الحديثة للمقام بعد أن تميز عن استاذه الكبير رحمة الله شلتاغ، وكذلك نجم الشيخلي وخبير المقام المقرئ رشيد القندرجي الذي اشتهر بطريقة الزير في الترجيع وبأسلوبه التقليدي المحافظ، والأستاذ المجدد محمد القبانجي الذي جدد وابتدع مقامات مثل القطر وطورالحويزاوي بعد أن كان نغما محدودا يؤدى في منطقة عربستان وما جاورها من العمارة في جنوب العراق، وأدخل آلات حديثة لمصاحبة التخت الشرقي في أداء المقام بعد أن كانت الآلات مقتصرة على الجوزة والسنطور والنقارة والطبلة وهي المعروفة بالجالغي البغدادي. لقدتأثر وتتلمذ على الأستاذ القبانجي جيل من كبار القراء المتميزين مثل حسن خيوكة وعبد الرحمن خضر ويوسف عمر وشعوبي ابراهيم وناظم الغزالي وحمزة السعداوي...ومن الأصوات المميزة بجمال النبرة وحسن اختيار النصوص حتى سمي بمطرب الوقار هو المطرب الكبير حسن خيوكة الذي رحل مبكرا عام 1962 مخلفا وراءه أجمل المقامات في الرست والدشت الذي أدخل فيه الإنشاد متأثرا بسابقه القارئ الكبير يوسف الكربلائي.
أما المطرب الكبير ناظم الغزالي فقد كان صوتا جميلا لم يكن من السهل تقبل اسلوبه من قبل المحافظين من المستمعين فقد كان يترنم بالطبقات العالية من صوته فلم يمتلك قرارا يحاكي حلاوة الطبقات العالية، لذا استطاع أن يسحر المستمعين العراقيين والعرب بالجزء الأخاذ من صوته مركزا على المقامات القصيرة كالجمال والأوشار والحكيمي والمدمي والخلوتي والدشت... والتي طالما يتبعها ببستات برع في إدائها أيما براعة! متمكنا من تلافي بعض النواقص الإدائية وعدم طول النفس برشاقة وللتدليل على قولي يمكن مقارنة إدائه مقام اللامي (أقول وقد ناحت بقربي حمامة) بإداء المطرب الكبير يوسف عمر وبنفس الكلمات! تميز المطرب الكبير ناظم الغزالي بالإضافة لحلاوة الصوت وحسن توظيف المقام لأبعاده الصوتية، تميز أيضا بحضور متميز أمام الجمهور وحسن التفاعل معه ، ومرونة الحركة على المسرح مستفيدا من دراسته للتمثيل، مع حسن هندام ملفت، حتى أن المطرب الكبير صباح أشار في أكثر من لقاء معه باسلوب ناظم الغزالي في إدائه ووقفة أمام الجمهور معترفا بأنه قدتأثر به الى حد بعيد..
لم يبرزمن الجيل الحالي من المطربين الحاليين الا عدد قليل مثل المطربين الكبار، الأستاذ عامر توفيق، والأستاذحامد السعدي والأستاذ حسين الأعظمي، بيد أنهم لم يخرجوا عن عقال التقليد إلا لماما بهذه الدرجة أو تلك... كان التميز بينهم بالصوت رئيسا دون الإداء المتقارب..فالتفرد والتميز أصبح ضروريا جدا كما أن الإجتهاد والتطوير وحسن ملاءمة الصوت للحن والكلمات مسألة ضرورية أدلل عليها بما يأتي. كنت منشّدا ذات ليلة وأنا أقطع مسافة طويلة من النرويج الى السويد الى البرنامج الثاني لراديو الموسيقى الكلاسيكية -والذي يُعنى أيضا بموسيقى الشعوب- حين قدمت عريفة الحفل المقامَ العراقي لجمهور متمرس بايجاز مع إشادة بهذا اللون الغنائي العريق، وكنت متلهفا حقا وقلقا ترى ماهو المقام؟ ومن يؤديه؟ وبدأ العزف وإذا المقام هو المخالف، وهو أكثر المقامات العراقية حزنا ويحتاج الى قرار هامس للتحرير وصوت عال رخيم شجيّ الميانة، ولو تجاوزنا العزف وضربات الطبلة العالية الى المطرب، وإذا بصوت غليظ صادح صادع يخلو من الهمس والشجى، أما الكلمات فهي: "نغم المخالف كبل لنغام اشجاني...". لم تمض على هذه الحفلة سوى أسابيع حين بث الراديو نفسه مقام راشدي وبايقاعه وهو الجورجينا لفرقة سنغالية من ثلاثة عازفين أبدعت أيما إبداع ونالت إعجاب الجمهور، وتقدم رئيس الفرقم معرفا بالغناء على أنه غناء صوفي يغنى بالمناسبات الدينية ...فشتان!
قليل جدا من المطربات من أدى المقام وأبدع به سوى أسماء لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وذلك لصعوبة المواءمة والإداء، فقد أبدعت الكبيرة صديقة الملاية ذات الصوت الرخيم بمقامات قليلة كالحكيمي، والبهيرزاوي، والإبراهيمي...أما سليمة مراد فقد أجادت البنجكاه، وكان صوت المطربة الكبيرة زهور حسين الساحر بترجيعاته وبحته المميزة قد أبدع بالدشت والأوشار والحجاز. أما لميعة توفيق ذات الطبقة العالية المرتجفة فلم أسمع لها غير الجمال! وإذا ذكرت الأصوات النسائية التي أدت المقام فتبرز مائدة نزهت ذات الصوت الدافىء المميز والمشحون بالعواطف الصادقة فقد أبدعت في مقامات شرقي رست والجمال والحكيمي واللامي ومقامات أخرى ..فهي أستاذة قديرة في المقام العراقي، ولم يُدانِها صوت نسائي آخر! .
كتابات لاتتحمل أية مسؤولية عن المواد المنشورة .. ويتحمل الكتاب كامل المسؤولية عن كتاباتهم التي تخالف القوانين أو تنتهك حقوق الملكية أو حقوق الآخرين أو أي طرف آخر