هيغل وكانت

هيغل وكانت

يوسف السعدي
كان هيغل واحداً من الفلاسفة ما بعد كانت مثله مثل شلينغ وفيخته وهذا يعني أن فلسفتهم قد انطلقت من تعاليم كانت ولكن في الواقع نجد تناقضا في تقارب فلسفة هيغل وكانت. إن فلسفة كانت النقدية تحل مشكلة المعرفة حلا نسبيا ولكن فلسفة هيغل او فلاسفة ما بعد كانت طوروا فلسفتهم في طور ميتافيزيقي من اجرأ ما ظهرت في تاريخ الفلسفة ولكنها بعيدة عن وصفها بالفلسفة الرجعية أي فلسفتهم تتجاوز كانت وتلتزم بها بالوقت نفسه، فمثلا كانت يُميـَِّز في الوعي في ثلاثة أمور:


1- الحساسية التي تتلقى عبر المكان والزمان الأحاسيس التي تحدثها فينا حقائق مستقلة عن ذهننا - الشيء في ذاته- والذي يستحيل معرفته وفق كانت
2-الفاهمة التي تنتج من مواد الحدس الحسي عبر المقولات مثل (مقولة السبب) المرتبطة بمبدأ الفاهمة المحضة (مبدأ السببية).
3-العقل وسيلة التفكير العليا التي تعتمد على مبادئ الفاهمة وتبني افكاراً ترسندالية (المتجاوزة لإطار التجربة مثل الله).
وهنا هيغل يحتفظ بهذا التمييز بين الفاهمة والعقل ولكنه بذات الوقت يعطيه معنى مختلفاً! لأن هيغل يعتبر المعارف التي تنتج من الفاهمة هو شكل أدنى من اشكال المعرفة (على عكس كانت الذي يعتبرها مقتصرة على علم الظواهر) , كما ان العقل وفق هيغل هو اداة المعرفة العليا (وفق كانت فان العقل يفشل عن بلوغ ذلك لأنه يستخدم المقولات والمبادئ لنطاقات تخرج عن التجربة وتتوه في أخطاء منطقية) ولكن هيغل يعتمد ان سبب الاخطاء المنطقية التي بيـَّنها كانت ليست نتيجة لعجز العقل، بل انها وسيلة لإثبات مغالطات الميتافيزيقيين فقط وكذلك قد استقل هيغل عن كانت في قضية المتناقضات , فالمتناقضات وفق كانت كانت توجد في المواضيع الكوسمولوجية فقط، اما وفق هيغل فهي توجد في كل شيء وهي تشكل الديالكتيك في الفكر المنطقي ودمج المنطق بالانطولوجيا ولكن الفكر وفق الفاهمة يعزل الأوجه المتنازعة للاشياء اما وفق العقل فان الفكر يدرك الاشياء في شموليتها وفي اختلافها الذي تعجز عنها الفاهمة اي ان ما يفرِّقه الفاهمة يوحده العقل في ادراكه الذي يختلف عن ادراك الفاهمة في فصل الاختلافات والنوازع في الاشياء.
لا شك ان مضمون الدين هو مضمون الفلسفة ايضا انه الله او المطلق او اللامتناهي.. ولكن هيغل عارض فلسفة ميتافيزيقياء الفاهمة (لكانت) او فلسفة العاطفة (جاكوبي مثلا) في فصل النهائي عن اللامتناهي فاللامتناهي هو في النهائي والعكس ايضا فالتصور العاطفي قد يحوي مضموناً ذا قيمة ولكن مَن يثبت حقيقته فالمشاعر تصور ذاتي وليست تصورا موضوعيا والجانب الديني في الجانب الموضوعي هو تصور لا يخرج عن الإطار الحسي. إن الله وفق هيغل هو حركة صوب اللانهائي والحركة التي تحمل في طياتها ابطال للنهائي ولكن النهائي هو صورة لحظية من اللانهائي ايضا ومع ذلك فان هيغل ليس من اصحاب فكرة وحدة الوجود وعلى الرغم من تأثره بسبينوزا إلا انه بيـّن ان علاقة النفي عند سبينوزا، اما عند هيغل فهي نفي النفي كما ان الكل في حركة وفي صيرورة واحدة , ففلسفة هيغل هي رفض لكل متعالٍ او خارج عن اطار الكل اي ان فلسفته ترفض إلهاً شخصيا او عالما آخر أي ان فلسفته فلسفة طبيعية فوحده العالم هو الحاضر ولكنه يخضع داخليا لفكر لا واعٍ أي للفكرة الشاملة التي تتبدى بصورة ديالكتيكية في صيرورة الكائنات وبواسطة هذه الصيرورة.
كما ان الاخلاق وفق هيغل تعتبر استنتاجا لا حكما، فالاخلاق ليست بما يجب، بل بما هو واقعي عن طريق فهمه ديالكتيكيا ومعرفة عقلانيتها , ان الاخلاق وفق هيغل تختلف عن الاخلاق الكانتية فالاخلاق وفق كانت هي ذاتية تخضع لمعيار صوري أي العلاقة مع مبدأ الفعل او مطابقة القانون الاخلاقي , أما وفق هيغل فان الاخلاق هي الموضوعية المكتسبة من المجمتع ولكنه يلتقي مع كانت بوصول الانسان الى"الاستقلال الذاتي"فعندما يعيش هذا الانسان القانون ولا يدل تلقيه من الخارج فانه يصل الى التحرر الذاتي ويسيطر على أهوائه وبالتالي الى استقلاله الذاتي.