مفتي فلسطين يروي دروس من تجاربة

مفتي فلسطين يروي دروس من تجاربة

ليس هذا حديثا مع مفتي فلسطين الاكبر!
انما هو قصة خمسة دروس علمتها له تجاربه في الحياة!
وجاءت الفكرة اصيل احد ايام هذا الاسبوع.
كنا – سماحة المفتي وانا – جالسين في الشرفة المطلة على الحديقة من غرفة مكتبه وكان الليل قد بدا يجري بريشة الظلام على صفحة السماء بخط ظلال لوحة الغروب الهادئة العميقة.. العبقرية!


وكانت هذه الظلال تنسكب على اشجار الحديقة المترامية امامنا جمالا وسلاما وكان صاحب السماحة مستطرداً في حديث من ذكرياته.
وعبرت الفكرة بخيال، واخذت تشغل خواطري عن متابعة الذكريات المتدفقة، ولمح المفتي ان شيئا يلح على تفكيري فنظر الي متسائلا: اهناك شيء.!.. قلت:
- نعم"ومع انه بعيد عما كنت تقوله"الا انه مرتبط به كل الارتباط.. هل انا واضح؟.. وابتسم سماحته قائلاً:
- استمر.. سوف تزداد وضوحا على اي حال!.. قلت:
- لقد قابلت – في مكان من الشرق – انصارا لك يحيونك الى حد الهوس، ولكنني قابلت – في كل مكان من الشرق ايضا – اعداء لك يكرهونك الى حد الموت.
ومضت عينا صاحب السماحة، واستطردت اقول:
- ولكن الفريقين، اللذين يحبانك الى حد الهوس، والذين يكرهونك الى حد الموت، يتفقون في شيء واحد هو انك رجل عاش في العالم الواسع وامتدت تجاربه الى الآفاق البعيدة.. لقد انطلقت بين الشرق والغرب تتبعك ازمات واحداث وتنقلت بين عواصم الدول ومراكز لخطر تجر وراءك عبرا وتجارب.
ثم لماذا تحتفظ بهذا كله في صدرك وحدك.. لماذا لا تودع بعضه في صدور الناس!.. وسكت.. وساد الصمت.
وخلع المفتي عمامته الشهيرة العالية، ومشى براحة يده على رأسه وهو يرفع رأسه في السماء، وتعلق بصره بنجم بعيد، وطال تعلقه بالنجم البعيد..
ومضت لحظات.. وعاد المفتي بفكره عبر المسافة الشاسعة بين النجم البعيد والشرفة المطلة على الحديقة.. وبدأ يتكلم.
وبدأت قصة خمسة دروس تعلمها مفتي فلسطين الاكبر من تجاربه في الحياة!!

محمد حسنين هيكل
* ان حاضرنا امتداد لماضينا، ومستقبلنا امتداد لحاضرنا، انها جميعا تطور واحد، ليس فيه فواصل او حدود!
مرضت ذات مرة، ايام كنت اقيم في ألمانيا، ودعي لعيادتي واحد من اشهر اطباء برلين ودخل الطبيب علي، وتهيأت له اسأله: ما هو الوضع الذي يريدني عليه ليبدأ كشفه عن حالتي؟
وقال الطبيب في هدوء:
- اجلس حيث انت، ولنتكلم معاً بعض الوقت!
ودهشت لهذا الطبيب الغريب، فقد كنت افهم ان يجلس ليتحدث معي عقب ان ينتهي من الكشف علي، ومن استطلاعه لحالة مرضى بوسائله الطبية العادية، اما ان يجلس ليتحدث معي قبل ان يطمئنني على حالتي، فهذا ما لم اتصوره من طبيب عالمي مثله ولقد كتمت خواطري، وطمأنت قلقي، ونظرت إليه، فقال في هدوء:
- هل لك ان تحدثني عن حالة والدك الصحية؟
ورددت عليه وانا اصطنع الهدوء:
- لقد مات والدي من زمن طويل، ثم انني انا المريض يا سيدي، وليس والدي!
وابتسم الرجل ابتسامة صابرة وقال:
- لم تفتني هذه الحقيقة، ومع ذلك فانا مصمم على السؤال: هل لك ان تخبرني عن حالته الصحية، وعن السن التي توفي فيها وهل كان ذلك نتيجة مرض، وما هو هذا المرض!!
ومضى الطبيب في كلامه:
- سوف اسالك ايضا عن هذه المعلومات نفسها في ما يتعلق بوالدتك.
واستطرد الطبيب قبل ان اتكلم:
- وبعدها، هل لك ان تحدثني عن تاريخك الطبي حسبما تعيه ذاكرتك، ما هي الامراض التي اصابتك طوال حياتك وكيف كان مرضك بها، ومتى شفيت؟
ونظرت الى الطبيب اسأله:
ألهذا كله لزوم؟
وعادت الابتسامة الصابرة تظلل ملامح الطبيب وهو يقول:
- من انت يا سيدي؟ وما هي حالتك اليوم؟
اما من انت، فانك اين والدك ووالدتك ووجودك، الى حد ما، استمرار لوجودهما اما ما هي حالتك اليوم، فانها نتيجة طبيعية لحالتك بالامس!
وتفرست في وجه الطبيب وكانت فكرته تدور برأسي. لقد عبر عنها ببراعة، وبساطة، وصدق، وهو محق ما في ذلك شك.
اننا اليوم امتداد لما كنا عليه بالامس، امتداد في كل شيء، ليس في الصحة فقط، وانما في الاحداث ايضا، هذه هي الحقيقة، ولا مفر منها، ونحن جميعا اسرى لها افرادا وشعوبا!
ومرت على تلك الحادثة سنوات.. واني افكر الآن – على ضوئها – في ما مر بنا عن تجارب ومحن!
لقد بت اعتقد ان فشلنا نحن العرب – في معالجة مشكلة فلسطين يرجع الى اغفالنا لهذه الحقيقة.
ان شعوب العرب نسيت ان تستعرض تاريخ المشكلة في الماضي، قبل ان تبدأ كفاحها لحلها في الحاضر.
وحكومات العرب وقعت في نفس الخطأ، وهي تقرر التدخل المسلح لانقاذ فلسطين.لقد هبت حكومات العرب الى فلسطين – وداء اليهود ينهش صدرها – واندفعت تحاول ان تصف للمريض العزيز عليها دواء!
كانت حكومات العرب اشبه بجماعة من الاطباء، دعوا الى عيادة مريض عزيز على اهله، فاسرعوا – تحدوهم اللهفة – يصفون للمريض مئات الادوية ومئات العقاقير، وفاتهم – في حمى السرعة – ان يكشفوا عن تاريخ حياته وتاريخ امراضه.
وصف له بعضهم الاسبرين لتخفيف حرارة الحمى.
واشار آخرون"بكمادات"الثلج لتهدئة الحرارة.
اهتموا بمظاهر المرض الخارجية، ليطمئنوا اهل المريض الجزعين، وغاب عنهم – رعى الله من كان اتية حسنة منهم وغفر للباقين! – ان يبحثوا في اعماق المريض عن اسباب العلة، وفي تاريخه عن تطورات المرض!
* ها هو تاريخ السياسة البريطانية، منذ اصبحت لبريطانيا سياسة وساسة!
لقد اصبحت اعتقد ان ساسة الانجليز – من اصبح للانجليز ساسة وسياسة – اخذوا عن معاوية بن ابي سفيان قوله المشهور:
ولو كان بينهم وبين احد خلاف شعرة واحدة ما انقطعت ابدا، كانوا اذا ارخوها شددتها، واذا شدوها ارخيتها"
لقد حفظ الانجليز الدرس ووعوه جيدا وطبقوه دائما والامثلة بيننا في كل مكان من شرفنا العربي، اكثر من ان تعد انهم لا يقطعون في امر برأي ولو كان بينهم وبين احد خلال لحرصوا – قبل كل شيء – على ان يطل في صدره دائما قبس من نور الامل في تسوية ما بينه وبينهم بالحسنى والمعروف.
من اكبر ميزاتهم لانفسهم – واكبر اخطارهم على غيرهم – انهم يجنبون خصومهم دائما مرارة اليأس الكامل منهم.
قد يقوى نور الامل فيهم احيانا الى سراج وهاج.
وقد يخفت النور الى ان يصبح ذبانة مرتعشة ولكنهم يحرصون دائما على ان لا يسود الظلام. لقد درست تاريخ الامبراطورية العثمانية، واطلت التأمل فيه، لقد كان المعول الذي عدم صروحها هو نفس حكمة معاوية:
"لو كان ما بين وبين الناس شعرة واحدة ما انقطعت ابدا"كانوا اذا ارخوها شددتها، واذا شدوها ارخيتها"
اما اليد التي كانت تمسك بالمعول الهادم.. فهي يد السياسة البريطانية!.
* نحن في زمان يجوز فيه كل شيء، وان ابعد الفروض عن الاحتمال هي اقربها الى الوقوع!
كل شيء جائز في هذه الايام لقد تعلمت ان لا انكر شيئاً – مهما بدا من غرابته اول الامر – الا بعد تحقيق وتمحيص!
هذا زمان اصبح اقرب الاحداث فيه الى الوقوع، ابعدها عن لظن، وفي ذاكرتي مثال واضح لهذا!
لقد ترامى الى يوما ان اليهود مطامع في المدينة المنورة!
ومع اني خيرت اليهود وبلوت شرهم فقد هالني ان اصدق هذا الذي ترامى الي!
لماذا المدينة المنورة بالذات، وفيها من مقدسات الاسلام ما فيها؟
هل يمكن ان يدور هذا حقا بخلدهم مهما جن جنونهم؟!
وظلت الرواية في ذاكرتي مجرد رواية!
ثم اذا بي اعرف يوما – واعرف من اكبر المصادر واكثرها احتراما – ان اليهود طالبوا باراض في مناطق"خيبر"و"بني قريظة"و"بني النفير"و"وادي القرى"وكلها حول المدينة المنورة وعلى مرمى البصر من قبر الرسول! وبلغ بهم الجنون الى حد انهم وسطوا الرئيس فرانكلين روزفلت – الرئيس السابق لجمهورية الولايات المتحدة – لدى الملك عبد العزيز آل سعود، ليسمح لهم بانشاء بعض المستعمرات في هذه المناطق.
وانتهز الرئيس روزفلت فرصة لقائه بصاحب الجلالة السعودية في مؤتمر الفيوم، ففاتحه في الامر وقال لجلالته: ان اليهود على استعداد لان يدفعوا عشرين مليونا من الجنيهات الذهبية نظير سماح جلالته لهم بما طلبوه.
ولولا ان تنبهت حكمة الملك عبد العزيز، لكان لليهود اليوم مستعمرات – قرب ابعد مكان يظن ان لهم فيه مطامع – على مرمى البصر من قبر الرسول!

* اذا اردنا ان نتعامل مع الناس فلنفكر بمصالحنا، اما عواطفنا فان خير مكان لها ان تستقر داخل قلوبنا!
لطالما تصرفنا بشهامة الفرسن، وبرحمة الملائكة، وبتسامح القديسين وقال بنا العد قبل ان ندرك ان شهامة الفرسان لا تجدي امام قطاع الطرق ورحمة الملائكة، لا تنفع مع القراصنة، وتسامح القديسين لايؤثر في اللصوص كثيرا ما سألني عدد من مراسل الصحف الامريكية والانجليزية:
- هل كنت مع هتلر ضدنا؟
وكنت اقول لهم دائما:
- لم اكن مع هتلر، هذا خطأ، وانما كنت ضدكم هذا صحيح!
وكان كثيرون منهم لايفهمون ما اعني، وكنت اقول للواحد منهم:
- لكي تفهم ما اقول، عليك ان تتجرد من مشاعرك الخاصة كانجليزي او امريكي وعليك ان تحاول التفكير بظروفنا ومشاعرنا.
ان تاريخكم معنا كله صفحات سوداء واذا اصحينا كل المصائب التي نزلت بنا، لكانت احصاء – مباشرا – لمواقفكم منا.
لم تكونوا معنا ابدا، وانما كنتم علينا دائما ولم تنصرونا في موقف واحد، وانما لقينا الخذلان منكم في كل المواقف. ولم تتركونا نغمر بلادنا التي منحنا الله اياها بل انطلقتم – بكل همة وكفاية تزرعون احراب في كل شبر منها!
فلماذا – بعد هذا كله – تطلبون منا ان نكون معكم، وان نحارب عدوكم، ونحمي مصالحكم؟
لقد استعنا بالشيطان عليكم، كما استعنتم بالشيطان على عدوكم!
وكان الشيطان الذي استعنا به عليكم يسمى: هتلر.
كما كان الشيطان الذي استعنتم به على هتلر يسمى: ستالين!
وخذوا آخر مواقفكم معنا: في فلسطين.
لقد بذلتم لليهود كل عون واقمتم العراقيل في طريقنا واعطيتم لليهود كل شيء وسلبتم منا ما كان في ايدينا ونثرتم فوق رؤوسهم الذهب، وزرعتم تحت اقدامنا الخراب والدسائس والمصائب ثم تجيئون بعدها لتقولوا لنا: قفوا معنا في صراعنا القادم!
لا.. لن نقف معكم، ولن نقف مع غيركم، وانما سنقف مع انفسنا ومع مصالحنا.. فقط!
وقال لي واحد من هؤلاء المراسلين مرة:
- هب اننا ندمنا على ما حدث، واننا الان نريد – مخلصين – ان ننشد صداقتكم.. فماذا نصنع.. لا تقل لي ان الرجاء انقطع!
وقلت له: - بل ان الرجاء قائم: والطريق سهل ميسور.
- اننا لن نطالبكم بان تمحقوا اسرائيل من الوجود، وانما نطالبكم بشيء واحد هو: ان تقفوا على الحياد بيننا وبينها وحملق الصحفي في وجهي وتساءل:
- الحياد؟
وقلت:
- نعم الحياد، اذا لم تقفوا في هذا الصراع على الحياد، فاننا سنقف في الصراع العالمي الاكبر على الحياد. وعدت اكرر له:
- هل تريدها اكثر وضوحا: الزموا الحياد على الاقل، والا فاننا – نحن – سوف نلزم الحياد.. على الاقل ايضا!
* ان الحوادث لا تفاجئنا، وانما نحن نغمض اعيننا ونسد آذاننا فلا نرى ولا نسمع.
ان الاعاصير لا تهب مفاجأة، وانما تسبقها مقدمات ودلائل ونذر وعلينا ان نلمح هذه المقدمات، والدلائل، والنذر، وندرس مظاهرها ومصادرها لنستعد، حين يبدأ عصف الرياح!
اني المح ان عيون اليهود تتجه اليوم الى سينا، وان هناك اعصارا يتجمع في الافق، يحتاج هذه القطعة المباركة الطاهرة من ارض مصر اما المقدمات والدلائل والنذر فهذا بعضها الخصة بسرعة.
- ان سينا حسن لمصر وسور ضد الغزون فهي بامتدادها الطويل تمنح القوات المصرية في الجو والبر فرصة لمناواة العدو الهاجم على الوطن المصري ورده على اعقابه.
- ان سينا – طبقا لآخر التقارير العلمية – كنز مليء بالخيرات الطبيعية سواء في موارد الماء المختون تحت الرمال والذي يستطيع ان يحيلها الى مروج خضرن ام في مناجم المعادن الكامنة التي نستطيع ان نجعل منها منطقة صناعية هائلة.
- ان سينا بهذه الميزات كلها مطمع قارتين فهي الجسر الذي يربط اسيا بافريقيا وهي اقرب نقطة تصلهما معا بالبحر الى اوربا.
- ان شيئا بهذه المميزات كلها مطمع للطامعين.
- اهتمت الحكومة البريطانية بسينا فارسلت بعثة من كبار العلماء سنة 1906 لدراسة شبه الجزيرة من جميع النواحي وظلت هذه البعثة تباشر عملها خمس سنوات متوالية وكتبت تقريرا افاضت فيه باهمية سينا ومصادر القوة الكامنة فيها.
- جاء في اكثر من تصريح رسمي – كما جاء ايضا في مذكرات حاييم وايزمان – ان الانجليز عرضوا سينا على اليهود قبل ان يعرضوا عليهم فلسطين، لتكون وطنهم القومي!
- ارسلت الجامعة العبرية – اليهودية – بعثة لدراسة احوال سينا، ظلت تجوب انحاءها مدة ثلاث سنوات.
- قرات وانا في اوربا كتابا اسمه"ماسادا"– على اسم آخر حصن خرج اليهود منه في سينا – ومؤلف الكتاب يشرح فيه اماني اليهود الروحية في سينا فيقول:
ان الوحي على موسى نزل في سينا والتوراة نزلت في سينا والكلمات العشر نزلت في سينا والالواح نزلت في سينا وتابوت العهد كان في سينا وتيه الاربعية سنة كان في سينا!!
- قيل لي انه حدث اثناء معارك فلسطين الاخيرة، ان تسللت بعض دبابات اليهود الى سينا، ولما وصلت الى حدود شبه الجزيرة كان اول ما فعله جنودها ان اوقفوا دباباتهم، وركعوا يقبلون الارض الطاهرة.. ارض سينا ويفركون بين اصابعهم الرمال المباركة.. رمال سينا.
- رأيت خريطة طبعتها هيئة الامم المتحدة، ونشرت في عدد من الصحف، وبينها صحف تصدر في مصر، وقد ظهرت سينا فيها داخلة ضمن حدود اسرائيل!
- لاحظت اخيرا ان الطابور الخامس قد نشط ليبث الكراهية والفرقة بين شعب مصر وبين سكان قطاع غزة الباقي من فلسطين اخذ الطابور الخامس يصور سكان القطاع بانهم جواسيس على جيش مصر وهذا كذب!
ويدعى ان هذا القطاع يكلف مصر سبعة ملايين من الجنيهات وهذا كذب!
ويزعم ان مصر تتحمل عبئا لا مبرر له بسبب ما تقوم به من تبعات في قطاع غزة وهذا كذب!
هذا كله سياسة مرسومة مدبرة!
واني لاخشى ان تكون تلك مقدمة الاعصار لا لابتلاع قطاع غزة، فان هذا القطاع لقمة صغيرة، وهدف ميسور، وانما تحفزاً للوثوب منه الى سينا المباركة.
***
اني استعرض هذا كله واسأل نفسي:
- هل نفشل مرة اخرى في استقراء منطق الحوادث وفي تفهم دلالتها ونذرها؟ هل نفشل او سنفهم ونستعد.
واتوجه إلى الله قائلا:
- ساعدنا يارب.. لكي نفهم!


آخر ساعة/
تشرين الاول- 1951

ذات صلة