غاتسبي العظيم.. رهان الامساك بروح النص الروائي

غاتسبي العظيم.. رهان الامساك بروح النص الروائي

فيصل عبد الله
-إنطلقت العروض الشعبية لشريط "غاتسبي العظيم"في الصالات السينمائية الأوربية وبعض الدول العربية. وقبلها أفتتح به، ليلة الخامس عشرة من الشهر الجاري، مهرجان"كان"السينمائي الدولي دورته السادسة والستين، وبطريقة ترتقي الى سمعة هذه التظاهرة العريقة وبهرجتها الباذخة. وبدت، ربما، أقرب الى محاكاة رمزية لليال عارمة أقتبس عوالمها الإسترالي باز لورمان عن رواية الأميركي ف.

سكوت فيتزجيرالد الكلاسيكية، المقاربة في بعض فصولها الى حياة كاتبها الشخصية، في شريطه المصور بالأبعاده الثلاثية.
-منذ صدورها في منتصف عشرينات القرن الماضي،لم ينقطع النقاش حول القيمة الأدبية لهذا العمل الروائي القصير على جانبي الأطلسي. ولم تنقطع، أيضاً، الإقتباسات السينمائية وتقديمها الى الشاشة الفضية وبأكثر من قراءة.كان من بينها عمل جاك كلايتون في العام (1974)،كتب السيناريو فرانسيس كوبولا ومن بطولة روبرت ريدفورد ومايا فارو، وفيلم الأميركي روبرت ماركوفيتز التلفزيوني في العام (2000). ووصلت عدوى إقتباساتها الى السينما العربية، حين قدمها المخرج محمد خان في شريطه"الرغبة"، نهاية سبعينات القرن الفائت، ومن بطولة نور الشريف ومديحة كامل.
-ومع ذلك، ظل سؤال الإمساك بروح هذا النص الميلودرامي وتقديمه سينمائياً هو الرهان؟ فضلاً عن راهنية عوالمها في محاكاة حاضرنا ذو الملامح الأميركية هو ما يدور النقاش حوله اليوم؟. في قراءته، ساعد في كتابة السيناريو بمعية غريغ بيري، أختصر لورمان دراما شريطه بفرجة سينمائية خالصة، وعززها بما تجود به المؤثرات البصرية من قوة إبهار. وأسند للنجم/الممثل ليوناردو دي كابريو مهمة تجسيد شخصية غي غاتسبي النافذة والمحاطة بالألغاز، وللممثلة الإنكليزية كيري موليغان دور عشيقته ديزي، فيما يؤدي قريبها نيك، الممثل توبي ماغواير، دور الراوي.
-ولكي لا يشطح كثيراً في خيالاته، فقد طعم لورمان شريطه ببعض فقرات الرواية المهمة والأثيرة على لسان نيك وهو يسطرها على الآلة الكاتبة. إذ يخضع الأخير، بفعل أزمتي كآبته وإدمانه على تناول المشروبات الكحولية، الى جلسات مع معالج نفساني يقترح عليه كتابة سيرة جاره غاتسبي وما عرف عن حفلاته الباذخة."في سني عمري الأكثر طواعية منحني أبي نصحاً"، كما صاغها الكاتب الراحل نجيب المانع في ترجمته البارعة للعمل، يبدأ نيك بإسترجاع عوالم غاتسبي الخرافية. وفيها، أيضاً، يستعيد أيامه،كمضارب في سوق السندات المالية خلال سنوات ما عرف بـ"حظر بيع الكحول"، حيث أستأجر منـزلاً صغيراً بالقرب من قصر غاتسبي المنيف، حيث تدور حول حفلاته الأسبوعية وعمله وثروته وتاريخه الأحاديث والنميمة والشكوك.
-فهو الجاسوس الألماني، وخريج جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، والمتوج بنياشين إنتصارات الحرب العالمية الأولى، والقاتل بدم بارد، والمخترع لشخصيته والمتماهي معها حد الإنغمار، والمرتبط بعصابات التهريب، وصاحب الثروة الطائلة، والماضي المبهم، والشبح في آن. ومع ذلك، يواظب حشد من أصحاب الأعمال والمصرفيين والقضاة ورجال الشرطة والموسيقيين والمشاهير، ومن الجنسين، حضور حفلاته من دون غضاضة. مشاركة،كما يقول الشريط، وقبله الرواية، غايتها العيش في"فانتازيا"وعود"الحلم الأميركي"المفتوحة الآفاق.
-يَطلع نيك على هذا العالم تدريجياً، إذ ما ان تصل إليه دعوة لحضور حفلة جاره نهاية الأسبوع، حتى يتكشف له عالم براق ويحيله الى متفرج وراوٍ أمين. من هو"غاتسبي"؟ ومن يقدمني له؟ كان سؤال نيك وشاغله وهو يطأ عالماً من دون ان تشفع له الدعوة الخاصة أو الإجابة على أسئلته. ما يحصده نيك في تلك اللليلة هو عدم المبالاة والتحفظ والعزلة، الى حين يظهر"غاتسبي"، ببدلته الزهرية الأنيقة وعلى بنصره خاتمه المميز. ظهور محاط بالألغاز وعلى وقع إطلاق الألعاب النارية وصخب الموسيقى وزجاجات الكحول المسفوحة.
-كان ما يدور في ذهن غاتسبي واضحا، وينحصر بتكليف نيك على أمل ترتيب لقاء سري يجمعه مع قريبته ديزي الساكنة قبالة قصره المطل على خليج"لونغ آيلاند"الخلاب. مقابل وعد بتقديمه لاحقاً الى رجل الأعمال وولفشايم (النجم الهندي ذائع الصيت أميتاب باشاشان) والتربح منه. وبالفعل يجدد نيك علاقته بديزي وزوجها الثري توم بوكانين (جول أدغرتن)، إلا انه يكتشف علاقة الأخير العاطفية بصديقة العائلة ميرتل وويلسون (أيلا فيشر). يكتشف، أيضاً، تفاهة ديزي عند الحديث عن حياتها الأسرية وما تقوله عن طفلتها؛"أتمنى ان تكون حمقاء....ذلك هو أفضل ما يمكن للفتاة ان تكونه في هذا العالم، جميلة وحمقاء قليلاً".
-وعلى خلفية صورة مزوقة لعشرينات القرن الفائت، يبني لورمان سرديته السينمائية وعلى مدى 144 دقيقة. إذ يختلط عالم الثراء والمال والسلطة والكذب والنفاق والملل والخيانات والتفاهات وموسيقى الجاز وحفلات الرقص الماجنة ولقطات تاريخية قديمة ملونة لمدينة نيويورك، ومنطقة هامتون حيث تدور أحداث الرواية/ الفيلم في آن، وخليج"آشي"ومشاهد لشوراع إفتراضية يجول فيها غاتسبي بسيارته الرياضية.
-ما شيده غاتسبي من عالم"خيالي"، جعل حياته تتمركز حوله هو ما يمر أمامنا على الشاشة. ولكن التحقق من فكرة"الحب"الخالدة كان ما ينقصه. إذ جعلها حلمه وتعويذته اليومية، والمعادل لقوانين الطبيعة وأحكام القدر. أوكما يقوله نيك حين يستعيد شريط تلك الأحدث"عاش طويلاً مع حلم وحيد. ما يجعله موضع إحترام. وفي الوقت نفسه كان واهماً وغير حكيم". ورغم ان رواية غاتسبي لا تدور حول فكرة الحب لوحدها، إلا ان فصولها الأخرى تدور حول ممكنات إطلاق عنان الخيال الى أوسع مدياتها. فما شيده غاتسبي من عالم"فنتازي"، هو في نهاية الشريط مقتله بطريقة تافهة.
-ولعل مقطع لقاء غاتسبي مع محبوبته ديزي، في بيت قريبها، كانت غايته سماع جملة واحدة فقط"أنا أحبك"، إلا ان ديزي كانت، هي الأخرى، ساهمة في عالمها فتسأله"هل كل هذا من صنيعة خيالك"؟. سؤال كبير موجه الى غاتسبي، لكنه، في الوقت ذاته، موجه لنا كمشاهدين ونحن نتابع فصولاً من"فانتازيا"من أبتلى بحلم الوعود الوردية. هدوء غاتسبي يدفع بديزي الى القول"تبدو هادئاً مثل صور أشخاص الإعلانات"، لكنها تنسى واقعها وهي المتورطة في شباك حلم الثراء والقبول بشروط اللعبة الى نهاية الشوط.
-"عصر الجاز"و"صخب العشرينات"، مصطلحات أشتقها فيتزجيرالد نفسه، و"منع بيع المشروبات الكحولية"، والتي كان معادلها البصري الإسراف في تعاطيها حد الإنهيار، وتضييع فرص الإستفادة من أداء الممثلين وسط صخب وبهرجة الحفلات هي خلاصات معالجة لورمان السينمائية لهذا العمل الروائي المهم. بعد مقتله على يد صاحب ورشة تصليح سيارات ومحطة بترول، وقرار ديزي السفر مع أبنتها وزوجها، وخلو بيت غاتسبي من زواره المعتادين، تتوقف الكاميرا عند صرخة نيك "إنهم شلة فاسدة. ولكنك كنت الأفضل منهم"لتكون خاتمة الشريط والرواية. هل كان صاحب"مولان روج"و"روميو وجولييت"و"إستراليا"أميناً بنقل عوالم رواية فيتزجيرالد، خصوصاً النثرية منها، الى السينما؟ سؤال تبدو الإجابة عليه بالنفي.