شميران مروكل
ان مجموع ما كتب عن الشيخ الماشطة في حقبة طويلة من تاريخ العراق المعاصر هو فقط عدد من الدراسات والمقالات قد لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة والسبب يعود الى خطابه النابع من صميم الواقع الذي ناجى به وجدان الانسان وحرض على تحرير طاقاته الكامنة وفي ذلك تماس واضح مع الاشياء المنسية والمهدورة التي مثلت اختراقا للمألوف. تعارضت مواقفه وآراؤه مع الحكومات والسائد من الفكر بشكل وآخر، ولم يأل جهدا في مواجهة اعراف التسلط والاستبداد والاستعباد وظل الى جانب الناس مما جعله مصنفا ضمن الممنوعات حتى بعد وفاته.
استوعب الشيخ الماشطة حيثيات حالة التخلف التي تسود مجتمعه ومظاهر القبلية والعشائرية والبدوية وأدرك مبكرا ان تقدم المجتمع لا يمكن ان يتم بمعزل عن ضرورات التقدم العالمي وعليه واجه اشكالية القديم والجديد وهذه الاشكالية معركة دائمة التجدد في المجتمع الانساني وبحاجة الى وعي بالتراث والمعاصرة . وقد حسم الشيخ الماشطة بصفته رجل ديني تحديد مساره مبكرا في الاتجاه التحرري والتجديدي ولم تأت افكاره وتصوراته طيلة حياته من مواقع مستقلة عن المسلمات الدينية، بل خاض غمار هذه الطريق الوعر الملأى بالمطبات ماسكا بها وبمنهجه الاجتهاد حول الجزئيات. ان مسيرته العملية التي قاربت نصف قرن حافلة بالمواقف الوطنية والمآثر والنشاطات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي سعى من خلالها الى مواجهة التحديات بتوعية الجماهير واستنهاضها في مقارعة معوقات التقدم للتخلص من موروثات القرون الاستبدادية : الفقر والمرض والجهل والتخلف وتحقيق طموحاتها في الاستقلال والحرية والتقدم والازدهار.
كان للشيخ اجتهاده الشخصي بقضية التعليم الحديث في المدارس الرسمية وضرورة العمل على نشره، فلم يتهيب من مخالفة فتاوى التحريم يومئذ حتى وان كانت صادرة من مرجعيات يجلها ويحترمها وسبق ان وقف بجانبها مدافعا عن مواقفها الوطنية فنراه واضحا في منهجه المرتكز على بديهيات التنوير ومنطق كون المعرفة وسيلة للتحرر. فالتعليم بنظره من مقومات نهضة المجتمع. مدركا ضرورته في التقدم الاجتماعي. انتصر بكل جرأة لقضية تعليم المرأة وعبر عن ضرورة تمكينها من ابراز طاقاتها واداء دورها في بناء المجتمع وقد جسد قناعاته بتلك الافكار والرؤى واقعا ملموسا على حياته الشخصية حين دخل ابناؤه الى المدارس الرسمية منذ بداية تأسيسها في وقت كان لتلك الفتاوى سطوة كبيرة على المجتمع العراقي.
عززت الازمة الاقتصادية التي حاقت بالنظام الرأسمالي العالمي (1929ـ 1933) من افكار الشيخ الماشطة الوطنية بما خلفته من انعكاسات على الاقتصاد العراقي ووضحت معطيات هذه الازمة ما كان خافيا من ارتباط وثيق بين الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي وكان لمجرباتها تأثيرات اسهمت في تعميق مواقف الشيخ الماشطة الوطنية وآرائه ومبادئه المناهضة لسياسة الحكومات المتعاقبة المرتبطة مع الاستعمار البريطاني. ولم يكن بعيدا عن مشاورات واجواء تأسيس حزب الشعب في بغداد وقد حفلت الاجواء في منتصف الاربعينيات بنوع من الانفتاح على القوى والاحزاب السياسية وتحقق اثر ذلك هامش من الحريات كانت متنفسا للعمل السياسي وقد اجيزت خمسة احزاب ارتبط الشيخ الماشطة بعلاقات ودية مع قادة وعناصر هذه الاحزاب في الحلة مسهما بدور مميز خلال انتعاش الحياة السياسية في تلك الفترة من خلال الانشطة والفعاليات وتقريب وجهات النظر وتطويق الاختلافات فيما بين الاحزاب والقوى والشخصيات الوطنية على مختلف توجهاتها وتلك العلاقة كانت ممتدة ايضا مع الاحزاب السرية غير المجازة كحزب التحرر الوطني والحزب الشيوعي. توجت العناصر الوطنية والتقدمية بالحلة نشاطاتها في تلك الفترة بنجاح اول اضراب عمالي منظم للمطالبة بتحديد ساعات العمل والتعطيل يوم الجمعة وفيما بعد بدأت الاوضاع السياسية بالتدهور وقد مثلت تلك الفترة القصيرة فسحة للقوى والاحزاب والشخصيات السياسية الوطنية وحراكا شعبيا بلور الموقف الوطني لابناء الشعب العراقي فيما بعد بوثبة كانون 1948 وتصديهم لتوجهات السلطة الرامية الى توقيع معاهدة برتسموث وكان لمجلس الشيخ الماشطة في احداث الوثبة وافكاره الداعمة موقف مشهود ودور فاعل في مساندة انشطة الوطنيين والتقدميين، اعقب احداث الوثبة اعتقالات واسعة في مدينة الحلة بين صفوف الشباب من الوطنيين والتقدميين واعتقل في مطلع الخمسينيات الاستاذ محمد علي وهو احد ابناء الشيخ الماشطة وابن شقيقه الاستاذ عبدالله بن الحاج عبد الوهاب وكانا من ضمن الذين احيلوا الى المحاكم العرفية ومكثا ثلاث سنوات في سجن نقرة السلمان. واستجابة لضرورات العمل الوطني وبناء قاعدة حركة انصار السلم سعى الشيخ الماشطة الى اصدار جريدة صوت الفرات بالحلة مطلع سنة 1953 كما خاض الانتخابات النيابية سنة 1954 متحالفا مع تكوينات الجبهة الوطنية التي تم توقيع ميثاقها في 12ايار 1954 وكانت مطالبها تتضمن اطلاق الحريات والغاء معاهدة 1930 وكل امتيازات الشركات الاجنبية ورفض المساعدات الامريكية العسكرية. لم يفز الشيخ الماشطة في الانتخابات الا ان الاجهزة الامنية شددت الرقابة عليه وبقيت مهتمة بتتبع نشاطاته وقد اوكلت مهمة ملازمته الى احد رجال الامن حيث كان يجلس على عتبة خان امام بيته لا يبرحها راصدا حركة الشيخ والداخلين اليه وللشيخ مع هذا الرجل طرائف ونوادر كثيرة تعكس تعامله الانساني وسعة قلبه الرحيم ولعلها جعلت من رقيبه في النهاية مأسورا اليه لا يتوانى عن تقديم الاحترام والطاعة وحتى المساعدة باداء بعض المتطلبات.
في غمار الكفاح الوطني
تأججت الروح الوطنية عند الحليين لمناصرة الشعب المصري وتجلى ذلك بتأييد قرار تأميم قناة السويس والتنديد بالعدوان الثلاثي على مصر 1956 حيث خرجت للتظاهر بعض المجاميع من الطلبة والوطنيين بمدينة الحلة على الرغم من اجراءات الاجهزة الامنية التي اتبعتها للحليولة دون خروجها وما صاحبها من اساليب القمع والتنكيل والاعتقالات ولم يكن الشيخ عبد الكريم الماشطة بعيدا عن تلك الاجواء ولا عن نوايا الحكومة ومحاولاتها الرامية الى عقد حلف بغداد لكي يحل محل المعاهدة مع بريطانيا التي عقدت سنة 1930 وقاربت على الانتهاء بعدما ان افشل الشعب العراقي اعادة الحياة لها في انتفاضته بوثبة كانون 1948 بل كان في غمرة احداثها التي بلورت ضرورات قيام جبهة الاتحاد الوطني مطلع شباط 1957 التي اسهمت بتكوين الارضية الاجتماعية والسياسية الممهدة لقيام ثورة 14 تموز 1958 حيث ساند تشكيل فرعها بمدينة الحلة منتدبا الى عضوية لجنتها الرئيسة اخلص المقربين اليه الشخصية الحلية الوطنية المعروفة وعضو المؤتمر التأسيسي لحركة انصار السلم الحاج عبد اللطيف الحاج محمد مطلب ممثلا عن المستقلين ، وجرى توزيع بيان جبهة الاتحاد الوطني الاول الذي صدر في 9 اذار 1957 واعقب ذلك وصول ممثل اللجنة العليا الدكتور صفاء الحافظ ليشرف على تكوين فرع الجبهة في لواء الحلة. وبعد قيام ثورة 14 تموز 1958 وقف الشيخ الماشطة بثقل مكانته الاجتماعية وثرائه الفكري وانشطته السياسية مدافعا عن ثورة الفقراء التي انجزت اكثر مما اعلنت وفعلت اكثر مما قالت في ظل اجواء مليئة بالتناقضات والتعقيدات مسهما بنشاطات حركة انصار السلم اذ كان من ضمن تشكيلة المجلس الوطني لأنصار السلم في العراق ونشر مقالاته في بعض الصحف البغدادية مثل صوت الاحرار واتحاد الشعب هادفا الى صيانة الجمهورية الفتية ومعبرا عن افكاره ورؤاه وما يحلم به من امال وتطلعات ومخاوف مشروعة ستلاحق هذا الحلم الحقيقة، ناظرا في الافق بوادر المخاطر التي تحف بالثورة من كل الاركان وما ينسج في الخفاء لخنقها. فسعى مع بعض علماء الدين الى تشكيل جملعة علماء الدين الاحرار وكانت استجابة وطنية لضرورات المرحلة تناخى لها عدد من علماء ورجال الدين للوقوف بالضد من المخططات الخارجية التي استطاعت استغلال الاختلافات الداخلية لصالحها موظفة قوى الداخل لمصلحتها فوقفوا بجانب الشعب وقواه الوطنية والتقدمية من اجل الحفاظ على مكتسبات ثورة الفقراء والكادحين وتحملوا لاجل ذلك الكثير من الهجمات سواء على صفحات الجرائد او في المحافل العامة.
لقد شدد الشيخ الماشطة في كتاباته على الحريات المدنية ومبادئ الديمقراطية وحقوق المواطنة والعدل والمساواة ونادى باعلاء شأن العقل وهذه الموضوعة تقوم في المقام الاول على اسبقية العقل وتقديمه على النص فهي بداهة تنتهي الى العلمانية وخاض شيخنا غمار مهمة التعليم النبيلة ولكنه ليس على الطريقة التقليدية السائدة، بل اهتم بتدريس الفلسفة بوصفها ام العلوم الاجتماعية ذلك لأنها محرضة على انفتاح العقل والتفكير النقدي ومحفزة على الابداع والابتكار. وكان نقد الاستبداد موضوعة رئيسة في كتابات الشيخ الماشطة هذا بالاضافة الى النظر في شؤون السياسة احداثا وشخصيات كما تناول احوال الناس وشجونهم فوقف ضد الاستغلال والظلم الاجتماعي وقام بنقد الاداء الوظيفي وادارات مؤسسات الدولة لا سيما المؤسسات التربوية والتعليمية والصحية. وايضا تبدت النزعة التقدمية في فكر الشيخ من خلال استيعاب حيثيات حالة التخلف التي كانت تسود مجتمعه وقد ادرك مبكرا ان تقدم المجتمع لا يمكن ان يتم بمعزل عن مجريات التقدم العالمي وعليه واجه اشكالية القديم والجديد او التراث والمعاصرة.
عاش الشيخ الماشطة حياته مغامرا في رحلة مضنية سار فيها على جمر التحديات لا احد يذكر دوره في تعزيز دائرة العقلانية والتنوير في محيطه الاجتماعي وقد كان مدركا لأهوال المعاناة ومستعدا للتضحية في سبيل موقفه التقدمي ولكنه في الاخير مضى وبقي اسمه مثلما بقي عداء الرجعيين له مستعرا وربما حتى الآن
اقرأ ايضا
الشيخ الماشطة .. اضواء على مسيرته الفكرية والسياسية
حامد كعيد الجبوريصدر عن الدار العربية للطباعة والنشر كتاب ( الشيخ عبد الكريم الماشطة أحد …