اتسطنبول ترسل هيئة للتحقيق..سارة خاتون وعزل والي بغداد ناظم باشا

خيري العمري
قررت حكومة الاتحاديين ارسال هيئة للتحقيق فيما نسب الى ناظم باشا من اتهامات . وقبل تصل الهيئة الى بغداد في تموز عام 1911، اصدرت الحكومة ا بعزل ناظم باشا من ولاية بغداد فوقع الخبر موقع الصاعقة در انصار الباشا ومؤيدو » حزب الحرية والائتلاف » الى ام بمظاهرات صاخبة احتجاجا على ذلك العزل وسارت في وارع وهى تقرع الطبول واتجهت الى دار ناظم باشا جته واركبته في العربة.
وراحت تطوف به فى ازقة بغداد وهى تهتف : ( الله ينصر ناظم باشا والينا) حتى اذا وصلوا به الى السراي واجلسوه في مكتبه الرسمى اتجهوا الى دائرة البرق وتجمهروا فيها وظلوا يبرقون برقيات متوالية تطالب باسم الالاف من الناس ابقاء ناظم باشا في بغداد واليا
وقد أبرق أيضا عدد من الضباط الذين يعملون بامرته في الفيلق السادس الى استانبول يهددون بالاستقالة الاجماعية احتجاجا على عزل الباشا ! مما اثار مخاوف الحكومة وخشيت ان تكون هذه المظاهر بوادر تمرد في بغداد
وقد أعرب وزير الداخلية طلعت فى «مجلس المبعوثان » عن ذلك الشعور قائلا : لقد دققنا فى مجلس الوزراء يوم الخميس الماضى موضوع الشكاوى الواردة حول ناظم باشا واثناء ذلك وصلت عدة شفرات من بغداد تشير الى ان ناظم ارسل منسوبيه بين العرب يقصد عقد اجتماع هام ومن المحتمل أن وبعد يومين ذهب(20000) شخص الى محل البرق وابرقوا مطالبين ابقاء ناظم فى بغداد وكنا نحن على اتصال مستمر مع ناظم وهو يعرف ان قرارا صدر من مجلس الوزراء بعزله وقد أعطيت جوابا لهم بألا تمنعوا الاهالى من ممارسة اعمالها وانتظروا الاجراءات التي تقرها الحكومة ذهبوا الى داره واخذوه فى العربة . وعلى كل حال ليس صحيحا صدور هذا الاجراء على ابقائه .. وقد أبرق بعض الضباط الى رئاسة مجلس المبعوثان انه لا يجوز تبدیل ناظم باشا واذا بدل فسوف نستقيل بالاجماع وبعد ورود هذه البرقية .. على الحالة الغريبة من الضباط اقتنع مجلس الوزراء انه لا يجوز مطلقا ابقاء ناظم فعزله من منصبه ..
على ان الانصاف يقضى علينا ان نقول ان الضجة التي ارتفعت في بغداد اثر عزل ناظم يرجع كثير من اسبابها الى الاصلاحات التي حققها الرجل فى الفترة القصيرة التي تولى فيها ولاية بغداد فهو الذي شيد السدة المعروفة باسمه لحماية بغداد من الفيضان المستنقعات ، وفتح بعض الشوارع العريضة المسفلتة بالقير، وردم وبني مستشفى الغرباء والحديقة المعروفة باسم « ملت بقجة سي» ومنح امتيازا للترام الى » محمود الشابندر » الشابندر » ونظم صيدلية من قبل بلدية تفتح ابوابها ليلا ونهارا واعتنى بالسجن بحيث أدخل بعض الاسس الجديدة المتبعة في ادارة السجون الحديثة في اوربا من تشغيل المحكومين والاستفادة منهم منهم فى بعض الاعمال ، وجلب ماكينة لرش الطرق بالماء أيام الصيف ، وحصل على فتاوى من علماء الدين تقضى بتحريم الغزو الذي تمارسه لعشائر ، وعمل على اصلاح شط دجلة والفرات بحيث جعل لنهرين صالحين للملاحة ، وأدخل تجديدات في نظام الجندرمة ، رفع لائحة قانونية تتضمن برنامجا اصلاحيا لولاية العراق ، لذلك ليس من العجيب أن يحتل ناظم باشا لدى البغداديين مكانة طيبة حتى ان » حمدى بابان » أسماه بـ « مدحت باشا الثاني »
ولاشك أن أغلب الاصلاحات التي قام بها الرجل كانت بدافع من النزعة الاصلاحية التى تشبع بها منذ ان كان في فرنسا أيام دراسته فتأثر بالحضارة الاوربية ومبادىء الثورة الفرنسية التي تأثر بها اغلب ابناء ذلك الجيل من الشباب
ولم ير ناظم بدا بعد ان تطورت الامور الى هذا الحد وأصرت حكومة الاستانة على ابعاده من ان يترك بغداد في مارس عام ١٣٢ هـ وقد خلف وراءه ذكرياته واحلامه
وقد اختار ناظم طريق الهند لعودته ليعرج على « بومبى » ملا فى ان تسنح له فرصة اللقاء سارة التي سبقته الى ه ‏يا الله سلامة إن شاء الله أنا أعطيك خبر إن شاء الله بالسلامة ناك ، فى طريقها الى « لندن » وقد شيعه » جميل الزهاوى « بعد ان غادر العراق بقصيدة شديدة افرغ فيها كل ما كان يضمره له من حقد بسبب عزله من منصبه كمدرس فى (مدرسة الحقوق) بعد ان نشر مقاله في جريدة (المؤيد المصرية) حول حقوق المرأة وما أثاره من ضجة عنيفة .. فقال :
رامَ هَتكاً لما تصون فتاة..
كسبت في أمر العفاف اشتهارا
رام شيئا لبنت بغداد يزري
فعلى الشعب: شعبها أن يغارا
بنت قوم لم يدنس العرض منهم
بقبيح هم من سراة النصارى
أيها المصلح الكبير هذا
ما يسميه بعضهم اعمارا
البدار البدار يا أهل بغداد
الى السؤدد البدار البدارا
ومنها :
ألبسوه ثوب الولاية ، لكن
كان ما ألبسوه ثوبا معارا
فنهوه عن الحكومة لما
عاث فيها واستأثر استثثارا
قد مشاها خطى تعثر فيها
لا اقال الرحمن منه العثارا
يا مهين العراق هل كنت تدرى
ان أهل العراق ليسوا غيارى
سر بعيدا الى سلانيك عنا
ان فيها كواعبا وابكارا
تاج وما كاد ناظم يهبط في بومبى ويضع حقائبه فى فندق « تاج محل » حتى اسرع يفتش عن (سارة) ويسأل عنها مستعينا بمعارفه مسترشدا بأصدقائه ، وكانت الدوائر البريطانية قد علمت بقدومه وما رافقه من اشاعات تفيد انه ربما سيحاول خطف سارة بواسطة بعض رجاله فأسرعت تخبر «سارة» لتغير عنوانها فاختفت عن الانظار احتياطا ، حتى اذا مرت عدة أيام ويئس الباشا من العثور عليها رغم ما بذله في سبيل ذلك من جهد ، خرجت من مخبأها
ولما عادت الى ( البانسيون الذى تسكنه) سلمتها صاحبته ظرفا قالت لها :
ان رجلا كبيرا تبدو عليه علامات الهيئة والوقار جاء سأل عنك غير مرة ، وألح فى السؤال وأسرف في الاستفسار ولما يئس توسل إليَّ أن أسلمك هذا الظرف ولما فتحته وجدت فيه رسالة عاشق متيم . أودع فيها كل ما في صدره من جوى ، وأفرغ فيها كل ما فى جوانحه من هوى ، مع صورة مهداة لها كتبت عليها عبارة عاطفية .. قرأتها في اضطراب وقلق وطوتها بين اوراقها فى حياء وخجل وقد كانت هذه الرسالة آخر ما بينها وبينه من صلة ، فقد سار كل منهما بعد ذلك فى دربه . اما هو فقد ذهب الى استانبول حيث قتل بعد ذلك في كانون الثاني عام 1913، وأما هي فقد سافرت الى باريس حيث تزوجت هناك وعادت بعد الاحتلال الى بغداد وانجبت ولديها » برسى » و « صوفيا » وقد أسمتهما بالاسمين المذكورين اعترافا بالجميل الذي أسداه لها السير برسي كوكس وعمتها صوفيا فى أيام المحنة التي مرت بها ، وعاشت ما كتب لها فى لوح القدر أن تعيش حتى وافاها الأجل قبل سنوات قريبة.
عن كتاب ( حكايات سياسبة من تاريخ العراق الحديث )

اقرأ ايضا

لنتذكر الشاعر جودت التميمي

حسين عبد الكاظمولد الشاعر جودت حسن التميمي عام 1930 في بغداد ، وهناك من يقول …