ياسين النصير
قد أعيد في هذه المقالة القصيرة عن الشاعر القتيل محمود البريكان شيئا من البصرة، فمثل هذا لا يحدث دائما، أن يستدعي الشاعر مدينته أو أن تستدعي المدينة مثقفيها: فاقتران شاعر العزلة والصمت الخلاق، بمدينة الميناء واللغة والتراث هو اقتران الجغرافيا الخلاقة بالمبدعين. وحيث الغربة التي تلغي فيك: بيتك، ومدينتك، وناسك، و مرابع صباك. تضيف إليك وجعا آخرا لم نكن نعرفه نحن العراقيين، ألا وهو الحنين المشبع بمأساوية حين تعيد صورة مدينة مطمورة في الزمن، فكيف وأنت تفقد صديقا مبدعا وخلاقا مثل البريكان الذي لم تلتق به إلا بضع مرات بين البصرة وبغداد، داخل الدرس وخارجه، في مقهى وفي شارع!.وكانت كافيه لمعرفة ما يجول في فكر هذا الشاعر المبدع. فقد تكون الكتابة عن موضوع كهذا هي نوع من استرجاع الذاكرة لما يذهب منها . هكذا نحن نفقد بفقدان الأصدقاء الكبار أجزاء من وجودنا وهويتنا. أي تاريخنا الشخصي.
لا يذكر السياب والبريكان وسعدي يوسف ومحمود عبد الوهاب ومحمد خضير ومهدي عيسى الصقر ومحمد سعيد الصكار وغيرهم إلا ذكرت البصرة. هذا الكيان السماوي الذي حط على الأرض العراقية ثم ولّد مدنا وبلدانا بلغة عربية، وبعمارة عربية، وبعادات وتقاليد عربية، المدينة التي جمعت بين نخيل مثمر، ومياه مرتحلة، بين مد يسقي وجزر يسحب أوساخ المدينة، مدينة على ضفاف نهر كبير هو جمع بين دجلة والفرات. يجاورها بحر كبير ، هو الآخر جمع بحار. فالنخل فيها جوار السدر، والشناشيل جوار بئر النفط. وأهوار مانحة جوار شجرة آدم. هي البصرة، أقدامها مياه، وسماؤها مياه، وعثوق نخيلها ثمار. وأنت تتلو آيات العطاء ما بين ثمر ومطر، نخيل وسباخ القرامطة والزنج تجدها مدينة لم تخلق إلا لتبقى.
البريكان حصيلة هذه الثمار كلها ، شاعر ولدّ لغته من صمت نخيلها وصبره، من لغة الفراهيدي وعتبة بن غزوان والجاحظ ، ومن كل ما يمكن أن يبقى شاخصا للغد.ولكن البصرة كغيرها من مدن العراق انتزع عنها ثوبها القديم الحديث وبقت عارية من أبنائها وتاريخها. لذا ليس مستغربا أن يقتل شاعر أو أديب فيها، فالقتل سمة أصبحت مع الأسف الشديد حالة مرادفة لكل من يقول لا لعهود الظلم والتعسف والموت. والبريكان بصمته وعدم انخراطه في جوقة المادحين، قال لا. اللصوص هذه الثيمة المبهمة ، يصبحون قتلة وهم بالتأكيد قتلة، لكنهم وهم المبهمون وغير المعروفين يختفون عن الأنظار، ولم يلق القبض عليهم رغم أنهم يمشون على أطوال قاماتهم وأمام أعين الرقباء. بيان صحفي صدر في بغداد عن أن قتلة الشاعر محمود البريكان هم لصوص سُرّاق . وهذا بالنسبة لهم يكفي لإبعاد التهمة، ورغم أننا لا نقول غير ما يقولون، وقد يكون صحيحا ما لم يثبت عكس ذلك. فلماذا يقتل شاعر هو أفقر من حصاة في برية العراق؟. وهل أن ثروته المادية كانت مغرية للصوص وكلها موسيقى دأب على جمعها منذ كان في دمشق وبيروت والكويت في خمسينات القرن الماضي واستمر يجمعها حتى أخر نفس من حياته عندما كان يأتي بغداد ليتسوق الموسيقى الأجنبية من أورزدي باك. الموسيقى هي كل ما يملك من ثروة في هذا العالم، وهل أن هذه الثروة الفنية نافعة للص في مرحلة القحط الثقافي؟ لا أعتقد أن لصا معنيا بالموسيقى يكون معنيا بالقتل أيضاً؟
مرة أخرى لا نقول غير ما تقول إعلانات الصحافة الرسمية، عن موت ومقتل متنبي العراق الحديث وصاحب القصيدة المبكرة في تثبيت جوهر الحداثة.الشاعر محمود البريكان .ولكنه كما يبدو القدر الذي دفع بلص إلى قتل شاعر الصمت وشاعر الرفض والموقف، الذي مثل موقفه الرافض شرفا لكل الأدباء في الداخل وفي الخارج. فقد رفض قبل سنتين أن يلتقي طاغية العراق، لتكريمه فكان رفضه هزة لأجهزة الثقافة لم ينفع معها قبول الآخرين الذين أجبروا على توقيع ورقة يعترفون بها بفضل حاكم العراق على الثقافة والمثقفين. إن ما جعل البريكان يوغل في عزلته هو هذا التهاون لدى المثقفين في لعب أدوار ليست أدوارهم، وليتحولوا إلى جوقة مشروخة الصوت في مسيرة الحروب الدموية.
في الثقافة العربية يعرف البريكان بأنه صاحب القصيدة المتماسكة والغنية بالصور الحديثة، فالحداثة لدية ليست لعبة فنية أو شكلية بل هي موقف وجودي من الحياة. وموقف نقدي من الحداثة غير المنهجية أيضا. فهو يعيد ثورة الحداثة في الشعر إلى طابعها العربي المعاصر عندما يربطها نقديا وينائيا بحركة الشعر الرومانسي العربي. وليس كما يفعل نقدنا عندما يعيد تكوينها إلى تلك القصائد القليلة التي ترجمت من الشعر الإنكليزي أو الأوربي . ففي جوهر الحداثة عند السياب وغيره تقرأ شعراء مدرسة الديوان وأبوللو والمهجر والموروث العربي القديم .
الشعر الحديث كما يفهمه البريكان هو ” نفاذ لأعماق إنسان العصر، يتجاوز مظهر العاطفة، ولابد أن يصدر عن ألذات الحقيقية للإنسان، لاعن شخصيته المصنوعة المطبوعة بطابع البيئة والتقاليد. ويتسم الشعر الحديث بطابع الحرية والتوتر، فهو ابن عصره، وهو يعتمد الإيحاء لا العرض،واقتناص اللمحات لا تجميع التفاصيل، وأود أن أضيف إن تراكم الصور وهو ما يظنه كثير من الشعراء آية حداثة – ليس إلا طريقة متخلفة- فليس أمام الشعر الحديث إلا أن يتجه إلى التركيز، واستقطاب اقل عدد من الصور حول بؤرة ما.والواقع – يقول البريكان- لم يتمثل فعليا هذه الحقيقة إلا في حالات قليلة، وذلك مع مرور كل هذه السنوات على الحركة الشعرية الجديدة.ويهمني أن أؤكد أن الحداثة يقول البريكان ليست سمات مظهرية. بل هي التحسس العميق لوضع الإنسان الحديث متبلورا في صيغة فنية مناسبة.فالأصالة إذن تأتي أولاً، وخارج نطاقها تصبح غير ذات موضوع.
في اللقاء المهم الذي أجراه معه الشاعر حسين عبد اللطيف وهو من طلابه أيضا والذي نشر عام 1969، ونشرته جريدة ثقافة 11 في عددها السادس عام 1998 التي تصدر في هولندا يكشف البريكان فيه عن حس شمولي لمفهوم الحداثة لم نجده عند أي شاعر حديث في زمنه. فهو ينطلق بالحداثة من موقف فلسفي عميق لمفهوم متأصل في تكوين الإنسان المسئول نفسه، وليس الإنسان العادي. فالشعر عنده مسؤولية كونية. وقائله يرتقي إلى مصاف الخلاق الكبار. فيقول عن ذلك” أن الشعر فن لا يقبل التسخير، ولا يحيا مع الحذلقة، ليس الشعر وسيلة لتحقيق إي غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة ومن ثم فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي. وقلما يعكس رغبات الشاعر اليومية. لأن منطقته ، منطقة ألذات العميقة، فالشعر هو أبن النزوع الإنساني، وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها. وهو تمثل خاص لواقع التغيّر في الزمن، وقلق المصير والتأرجح بين الراهن والمنشود. إن شاعرا يفهم الحداثة مثل هذا الفهم العميق لا يمكنه أن يكون شائعا بين أقرانه ولا في مجتمعه، شاعر مادته الحداثة لا يمكنه إلا يرافق العزلة ولعله الموقف الذي دفع به لأن يرفض أن يكون في جوقة المداحين للأنظمة، مما جلب عليه غضب الساسة والمريدين.
ومن خلال تشخيصه لحركة الشعر العالمية نجد البريكان ينخرط في إطارها العالمي ليس من خلال ما يقرأه من شعر لشعراء عالميين مثل طاغور، الذي يقول عنه أنه شاعر حقيقي أو ازرا باوند وريلكه وأليوت ونيرودا وناظم حكمت وخيمنت وباسترناك وغيرهم بل من خلال ميله الشخصي والحداثوي إلى الشعراء الذين يكون نتاجهم نوعا من عظمة الروح الإنسانية.فهو لا يبهره التأنق والاصطناع، فعلى الشاعر أن يتبع طريقه الخاص ، واستعارة لهجة الآخرين هي طريقة سيئة في الاعجاب.
اقرأ ايضا
الشعر الحر ليس أسهل من الشعر العمودي ، وهو يحتاج إلى حس موسيقي خاص والى درجة عالية من التركيز ..
محمود البريكان يتحدث عن تجربته مع الشعر الحر أعد المقابلة : عبد الرزاق سعود المانعالستاذ …