الرصافي كما يصفه رفائيل بطي عام 1923

كتب رفائيل بطي:
ألمع جوهرةٍ في تاج الأدب العصري، مُحيي الشعر الحزين بقريضه الممتاز، لو درس من العلوم الحديثة بقدر ما أوتي من الشاعرية، لما رأينا الشعر العربي على ما هو عليه الآن، وإن رجع إليه الفضل في إيصال شعرنا العصري إلى مرتبته الرفيعة الحاضرة.
وعندي أن أفضل ما يُنعت به الأستاذ الرصافي “الشاعر”، لولا أنَّ هذه الكلمة قد ابتذلتها الألسنة والأقلام، فألصقتها بكل من جمع اللفظة إلى أختها وربطها بوزنٍ وقافية، فلنُسمِّه “الشاعر العبقري”، ولا إخال أن في السويداء رجلًا ينازعه هذا اللقب بحق، وإن نازعه إياه كثير منهم بالباطل.
عرفت هذا النابغة بشعره قبل أن عرفته بشخصه، فكنتُ أتخيله فتًى نحيفًا خفيف الحركة كثير الكلام، حتى أسعدني الحظ بلقياه ومرافقته زمنًا، فرأيتُ فيه البطل في هيكله ومهابته، كما عهدته خنذيذًا بين الشعراء.
يُحب الصراحة في الفكر والقول، والحرية في العمل، أبيٌّ مِقدام لا يعرف التساهل في مواقف الإباء، ولا يستخذي لضيم أو يستنيم لحادثة، ثابت في مبدئه، ترى الانقباض باديًا على محياه شارة شممه وعزة نفسه.
هو أوَّل شاعرٍ جاء قومه العرب بما يُحبون، وصارحهم بما لا يُحبون، لم يعرف للتقليد أو الخضوع للبيئة معنًى، لا في صناعته ولا أفكاره، كان من شعره صيحاتٌ عملتْ على تقويض معالم الاستبداد الحميدي، كما أنَّه ما لبث بعد تحية الدستور العثماني واستبشاره به أن رجع يُنعِي على القوم تخاذلهم لما شام فيهم الرجعية.
أُقدس فيه صفة لو اتَّصف بها شعراء الشرق كلهم لما عجزوا عن أن يُرجعوا إلى مطلع الشمس روعته وإشراقه، وهو أنه يُحس ويشعر فيقول الشعر؛ لذلك تجيء أبياته وقصائده موجعة نظرًا إلى الحقيقة التي فيها.
هذا وإن ما طُبع ونُشِر مِن نَظم الأستاذ الرصافي لا يدل على منزلته الفكرية، بل إنَّ له قصائدَ ومقطوعاتٍ لم تُطبع وتُذَع بعد، سيكون نصيبها الخلود في أدب الضاد لما حوته من المصارحة بالحقائق الاجتماعية المُرَّة، مما لم يتعوده الشعر العربي قبله.
وقد رأيته في مواقف عديدة يترجم عن شعور أمته، ويَنظم لها في وصف حالتها شعرًا تتخاطفه الأسماع والخواطر، وتتناقله الألسنة فتتحدث به المجالس وتصفق لتلاوته، مع أنَّ ما فيه يُدمي القلوب ويستنزف العَبَرات.
يَنظم الأبيات في خلوته، ثم لا تلبثُ أن تراها ذائعة في البلد بعد يومٍ أو يومين، وهو الشاعر العربي الوحيد الذي يتناقل قومُه منظوماتِه ويتناسخونها قبل الطبع.
وإذا رأينا بعض الوزانين يتكلفون القول تكلفًا، لم نرَ كمعروف يترجم بشعره عما طُبع عليه من شيم، ولا سالت نفس شاعرٍ بما سالت به نفس الرصافي الرقيقة الحساسة، على أسَلات الألسنة التي تنشد أبياته.
امتاز الأستاذ الرصافي بثلاث خصالٍ رفعته إلى هذا المقام:
أولاها: “شعره الحزين”؛ فهو الذي أحيا “التراجيديا” في أدبنا الحديث بهذا الشكل الرائع، وقد ساعده على الإبداع في المسلك حنانه المتناهي، ورقة عاطفته، تلك العاطفة المجسمة التي لا تعرف لها مستقرًّا غير أبيات هذا الشاعر العبقري.
والخصلة الثانية: “نظمه الاجتماعي”؛ فقد عرفناه مفكرًا نشيطًا يدرس حياة المجتمع فيُدرك نقائصه، ويَحبس نبضه، فيُشير إلى مواطن النقص والوهن في مُجتمعه، مشنِّعًا بالسيئات ما شاء تفننه، واصفًا للداء أنجع دواء؛ فهو الشاعر المُصلح الذي يعمل بقصائده عمل الفيلسوف الاجتماعي في مقالاته وكتبه، ولقد أجمعت الصحافة العربية يوم اطَّلعت على ديوانه الأول على أنَّ “ابن الرصافة” مبتكر طريقة النظم الاجتماعي، وفارس الميدان فيه.
أما الخصلة الثالثة التي تفضل قريضه كله فهي: “شعره القصصي أو الروائي”؛ فقد سبق شاعرنا في هذا الباب صاغة القوافي من مُعاصريه كلهم، وانفرد بينهم بهذا الأسلوب الفتان، وما حواه من الوصف الدقيق، والتعبير الرَّقيق، وبراعة الدِّيباجة، واستفزاز الشعور، وتحريك العواطف، إلى غيرها من صفات الأدب السامي، ولا يدرك معنى هذا القول إلا من قرأ “أم اليتيم” و”اليتيم في العيد” و”المطلقة”، وأمثالها من بدائعه.
وُلد معروف الرصافي في بغداد سنة ١٢٩٢ هجرية، في أسرة مُتوسطة الحال، أمَّا أبوه فمن عشيرة كردية تقطن في نواحي كركوك تُسمَّى الجبارة، وتدَّعي هذه العشيرة أنها علوية النسب، ويُسلم لها جميع أهالي كردستان بذلك، فإن صح ادعاؤها فهي عربية الأصل، وأمَّا أمه فمن عشيرة القراغول، وهم بطن من شمر القاطنين في سهول العراق.
درس المترجم مبادئ العلوم الابتدائية في كتاتيب بغداد ثم دخل المدرسة الرشدية العسكرية، وكانت هذه المدرسة الوحيدة يومذاك في مدينة السلام، فمكث فيها ثلاث سنوات ارتقى إلى الصف الثالث، وفي السنة الرابعة لم ينجح في امتحان الصف الرابع، فحمله ذلك على ترك المدرسة المذكورة، وأخذ بعد ذلك يختلف إلى المدارس العلمية في بغداد طلبًا للعلم؛ فدرس العلوم العربية وغيرها من سائر العلوم الإسلامية عند العلامة محمود شكري الآلوسي الشهير،١ وغيره من علماء بغداد، غير أنَّ تردده إلى الأستاذ المشار إليه كان أكثر؛ فقد لازم الدرس عنده زهاء اثنتي عشرة سنة، صار في أثنائها مُعلمًا في بعض المدارس الابتدائية الرسمية في مدينة المنصور، ليستعين في حياته المادية — بما يتقاضى من الرَّاتب الزهيد فيها — على مواصلة طلب العلم، ثم فرغت وظيفة التدريس في قضاء مندلي من أعمال بغداد، فوضعتها الحكومة في المسابقة بالامتحان، وكان طالبو هذه الوظيفة أحد عشر رجلًا، بينهم الأستاذ الرصافي، الذي كان الفوز عليهم نصيبَه في الامتحان، فعُين مدرسًا للقضاء المذكور، غير أنه قبل استلامه زمام وظيفته رغَّب إليه مدير المعارف في بغداد بإيعازٍ من واليها نامق باشا أن يتنازل عن التدريس في القضاء المذكور على أن يعتاض عنه بتدريس آداب اللغة العربية في المدرسة الإعدادية الرسمية في بغداد براتب لا يقل عن راتب التدريس في القضاء المذكور، فقَبِلَ ذلك وظل في عاصمة العراق يُدرِّس العربية في المدرسة المذكورة إلى إعلان الدستور العثماني.
وقد أخذ الأستاذ الشاعر من أوَّل نشأته يحفظ الشعر ويعالج النظم، وهو مَطبوع عليه، حتى أحرزت قصائده استحسانًا عظيمًا في أندية الأدب هنا وهناك، وتفاءل قُراء شعره بنبوغه في الفن، وأمَّلوا له مُستقبلًا كبيرًا في هذا الميدان، وكان ينظم القصائد الحماسية والاجتماعية، ويكشف بها سوءات الحكم، وسيف الاستبداد الحميدي مُصْلَت فوق الرِّقاب، وهو يبعثُ بقصائده هذه إلى مصر، وتُطبع هناك، وتعمل تأثيرها بانتشارها في الصحف والمجلات، وبالخاصة في مجلة المقتبس وجريدة المؤيد؛ مما أكسب صاحبها ذكرًا نابهًا في العالم العربي كله.
وقد قام يتغنَّى بالحرية جهارًا بعد أن كان تَغنِّيه بها في الخفاء عُقيب أن أفاض الدستور على بلاد السلطنة العثمانية أنواره، وشرع يُنشد قصائده الأبكار في الحفلات الكبرى، ويُلقي الخطب الحسان في نهضة الأمة، وحثها على التقدُّم والفلاح.
وفي هذه الأثناء طلب صاحب جريدة “إقدام” التركية الشهيرة إلى المترجم السفر إلى فروق للتحرير في جريدة عربية راقية باسم “الإقدام” تكون بجانب “إقدام” التركية، لكن المشار إليه عدل عن فكرة إصدار الجريدة العربية بعد أن وصل الأستاذ الرصافي القسطنطينية؛ فبقي هناك بضعة أشهر شهد في خلالها واقعة “٣١ مارت” الشهيرة، وذهب في هذه الأثناء إلى سلانيك للنزهة، وبقي فيها شهرًا، ثم قفل راجعًا إلى إستانبول، وعاد منها إلى محطة بغداد، وفي رجوعه أحوجته الدراهم لنفقات السفر وهو في بيروت؛ فابتاع محمد جمال صاحب المكتبة الأهلية فيها مجموعة قصائده، التي جمعها العالم الفاضل المرحوم محيي الدين الخياط في ديوان أصدرته المكتبة المذكورة باسم “ديوان الرصافي”، كان له حجة كبرى في عالم الأدب، وكتبت عنه الصحف والمجلات وكبار الأدباء الفصول الضافية، نخص منها بالذِّكر مقالة بديعة في “الشعر العربي والرصافي”، للأديب الكبير الأستاذ عبد القادر المغربي، ومقالة ثانية ممتعة كتبها البحاثة المفضال الأب لويس شيخو اليسوعي، في مجلة “المشرق” البيروتية، إلى غيرهما مما أثبت في الجزء الثاني من ديوانه.
وبعد أن عاد الأستاذ الشاعر إلى بغداد بشهر، وردته برقية من أصحابه في الآستانة، تنبئُ بتعيينه مُدرسًا للغة العربية في المدرسة الملكية العالية، والتحرير في جريدة عربية باسم “سبيل الرشاد”، تَصدر هناك لمديرها المسئول عبيد الله مبعوث آيدين، فوصل إلى دار الخلافة، واستلم وظيفته وظل يُحرِّر في تلك الجريدة نحو سنة، وكان يُدرِّس كذلك الآداب العربية في مدرسة الواعظين التابعة لوزارة الأوقاف، وقد طُبعت مُحاضرات المترجم التي ألقاها في هذه المدرسة عن الخطابة عند العرب في كتابٍ صدر في فروق بعنوان: “نفح الطيب في الخطابة والخطيب”، كما أنَّ مجلة “المنتدى الأدبي” نشرت شيئًا من محاضراته في الأدب والشعر.
وانتُخب أخيرًا مبعوثًا عن المنتفق في المجلس النيابي العثماني، حتى جاءت الحرب العُظمى، وقد تزوَّج في الآستانة، ولم يعِشْ له ولد، وأتقن مدة إقامته في العاصمة العُثمانية اللغة التركية التي تعلم مبادئها في مسقط رأسه، ورجع الأستاذ الرصافي بعد الهدنة إلى الشام، في عهد حكومتها العربية، فلم تُسنِد إليه منصبًا يليق بمقامه العلمي والأدبي، لِما عُرف به من الإباء والترفُّع عن التذلل لمن بأيديهم الحَل والعَقد، وبعد أن قَضَى هذا الأديب الكبير في دمشق مُدَّةً عَانى فيها ألم الحاجة، في حين كانت السلطة هناك تفرق على أعوانها الذهب الإبريز من غير حساب، استُدعي من القدس الشريف لتعليم الآداب العربية في دار المعلمين فيها، بإشارة أحد أصحابه الفُضلاء هناك؛ فغادر الشام إلى أورشليم، وعاش في منصبه الجديد عيشة رضية.
وقد أقامت له الكلية الإنكليزية حفلة تكريمية شائقة اشترك فيها كبار أدباء فلسطين كلهم، وأطنبت الجرائد في وصفها إطنابًا دلَّ على تقدير القوم لنابغنا، وبعد أن تألفت الحكومة الوطنية المؤقتة في العراق سنة ١٩٢١، طُلب إلى الأستاذ الرصافي أن يقدم إلى موطنه العراق لحاجة البلاد إلى رجالها المفكرين؛ فغادر القدس مشيَّعًا بتكريم واحترام، وقد عُين بعد قدومه إلى العراق نائبًا لرئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف، وهو المنصب الذي يشغله حتى كتابة هذه السطور.
•••
عن كتاب (الادب العصري في العراق العربي) الصادر في القاهرة سنة 1923 ــ الجزء الاول.

اقرأ ايضا

نص نادر..من صور بغداد في 1933

احمد حسن الزياتكان ألذ ما أتذوقه من جمال بغداد وقفة في حديقة النادي العسكري كل …