بين مقهى الزهاوي والفيشاوي خيط ذكريات لن يرحل

أحمد فاضل
كانت المقاهي ولا تزال تشكل اقامة شبه جبرية للأدباء والشعراء والفنانين، وجمهرة كبيرة من متذوقي الغناء والموسيقى، ففي دراسة ليورغن هابرماس الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر ‹› التحولات البنيوية في الفضاء العام ‹› الصادرة عام 1962 محاولة لتذكير المجتمعات المعاصرة بإرثها الثقافي الذي أدى إلى تطوراتها لاحقاً. في جوهر ذلك الإرث تقع رؤية ثورية تخيلت الأمكنة العامة فضاءات تستوعب تجمعات لمواطنين وأفراد يمارسون النقد والحوار ضد كل أشكال السلطة والمؤسسات، وقد خلق هذا النوع من الالتقاء تحولا في قواعد وآليات التجمع والاتصال بين الأفراد، وهو فعل ثقافي يؤدي إلى تغيرات في الحساسية الثقافية والإبداعية وفي خصائص التعبير عن الذات والجماعة، والمقهى عند هابرماس هو الذي شكل الرمز الذي عبر عن تلك التحولات وهو المكان الذي كان فضاء لإنجازها وممارستها، وإذا كان المؤرخ الثقافي الألماني وولفغانغ شيفلبوس يرد الأثر الثقافي والتحولات الاجتماعية إلى مشروب القهوة، فإن هابرماس يرى أن ذلك يعود إلى خصائص المكان الذي أنتجته القهوة وهو المقهى، أي التطورات، فالمقهى المكان، لا القهوة المادة، هو العنصر الذي لعب دوراً حاسماً في إنتاج الثقافة الحديثة.. وقد عرفت بغداد كما سائر المدن العربية اسماءا لامعة لمقاهي خلدها الزمان اشهرها مقهى ” الزهاوي ” التي تطل على ساحة مهمة من ساحات بغداد هي الميدان، اكتسب هذا المقهى شهرته من الشاعر والفيلسوف العراقي المعروف جميل صدقي الزهاوي (1863 – 1936)، وقبل ان نرجع بذاكرتنا الى عقد العشرينات وثلاثينيات القرن المنصرم لنجلس مع شاعرنا الزهاوي الكبير في علمه وأدبه وشعره، البسيط في مأكله ومشربه وهندامه، المتواضع بين الناس، الراكب دابته الشهيرة لتوصله يوميا الى داره، نعرج الى ما تحدث به فنان الزبانية الراحل فخري الزبيدي في كتابه ” بغداد أيام زمان ” يقول: الى أن جغالة زادة سنان باشا أمر بفتح أول مقهى في بغداد سنة 1586، ومن أولى مقاهي بغداد العريقة بعد الإحتلال البريطاني للعراق عام 1917 مقهى الخفافين، و مقهى الشط، و قهوة القلعة، و قهوة البلابل، حتى قامت بعد ذلك مقاهي استقرت في الباب الشرقي، وفي شارع الرشيد بداية من ساحة الميدان وحتى نهايته.
كنت متخوفا من الدخول الى مقهى الزهاوي في سبعينيات القرن المنصرم لسببين أولهما ان عمري لايسمح بمخالطة من هم اكبر عمرا وتجربة مني، وثانيهما أنني لايمكن أن أفهم أو أجاري تللك النقاشات التي كانت تدور بين مختلف المثقفين، وآخرون على دراية كبيرة بهذه السجالات وانتظرت حتى إذا ما غزا شعري بياض الثلج واستنار عقلي بتلكم الثقافات التي كنت متخوفا يوما منها، خطوت اليها لأرى من بقي من ذلك التاريخ وكم صدمت حينما لم أجد أحدا يناقش كاتبا أو شاعرا أو فنانا، ووجدتني وحيدا إلا من بعض المتقاعدين الذين راحوا يتقاذفون بالقوانين أيها أنسب لهم وهل هناك زيادة كما وعدت الحكومة بذلك؟ ورأيت وجوها غير التي رأيتها قبل عقود من السنين، وجوه متعبة، حائرة، تنفث سم دخان السيكارة والأركيلة فتتوه في عالم آخر غير الذي تعيشه، تبحث عن شيئ ربما عن أمل يزيح الهموم عن صدورها، بينما أنا أبحث عن الزهاوي والرصافي وطاغور والكبنجي والسياب والجواهري وأحمد الصافي النجفي فلم أجدهم إلا على جدار المقهى الذي احتفظ بصورهم وكأنهم ينظرون اليّ بعيون دامعة متحسرين على تلك الأيام التي مضت ولايمكن لها ان تعود.
هذه الصور ذكرتني بما كتبه الروائي المصري الكبير يوسف القعيد قبل أيام عن مقهى آخر يشبه الى حد ما مقهى الزهاوي هو مقهى الفيشاوي وكأن هناك حبل سري يربط بينهما، إلا أنهما يختلفان من حيث الزمان والمكان، لكنهما يجتمعان تحت سقف واحد هو هذا الحب الكبير للثقافة التي مكانها الوسط الجماهيري الشعبي، القعيد كان ولا يزال يعتبر نفسه انه خرج من معطف محفوظ فهو قد لازمه سنوات طويلة، فلا عجب ان يكون لهذا المقهى حكايات ترتبط بصاحب نوبل، مع انه يقول عن مقاهي القاهرة أن بعضها لم يعد له وجود، لم يبق منه سوى ذكراه، لكن البعض منها ما زال موجودا حتى الآن، وقد كانت قصة الانتقال من مقهى الى مقهى ” حدوتة ” لا أحب أن تأخذني مما أريد كتابته الآن بحسب قوله.
مقهى الفيشاوي مازال قائما.. وهو المقهى الذي كان يجلس عليه نجيب محفوظ في الفترة التي عمل فيها موظفا في وزارة الأوقاف، ثم موظفا في مؤسسة القرض الحسن بنفس الوزارة، كان يتسلل من مكتبه خلال أوقات العمل ويجلس على الفيشاوي.. يدخن الشيشة ويلمع حذاءه ويقرأ.. كان يعرف الفيشاوي معرفة شخصية، كان المقهى عبارة عن صالونات مغلقة للعائلات وصالون كبير في المدخل وطرقة طويلة بين هذه الصالونات، وكانت الصالونات مخصصة للعائلات، وكانت تفصلها عن بعضها بعضا ستائر من الكريستال، لم ينقطع نجيب محفوظ عن الفيشاوي بعد ذلك، وظل يتردد عليه بمفرده، ومن المؤكد أنه وجد في من يجلسون على المقهى قصصا وحكايات كتبها، بل إن المقهى يظهر في بعض أعماله بنفس اسمه. توقف اللقاء بعد أن اشتدت أزمة التاكسي في القاهرة وأصبح العثور على التاكسي مثل المعجزات، واخترع المصريون بخفة ظلهم المعروفة حيلة للعثور على تاكسي أن يحمل المواطن منهم غترة خليجية يضعها في جيبه وما أن يأتي تاكسي حتى يضعها فوق رأسه فيتوقف له التاكسي ولا أعرف إن كان يخلعها بعد أن يستقل التاكسي أو أن يستمر في تمثيل دور الضيف الخليجي حتى يتوقف له التاكسي، التاكسي تسببت في عدم حضور نجيب محفوظ من العجوزة إلى سيدنا الحسين، فالرجل لم يكن يمتلك سيارة وظل هكذا حتى آخر يوم في حياته.
وأذكر بعد الخامس من يونيو سنة 1967 أن كتب نزار قباني قصيدتين مهمتين في نقد الوضع العربي الراهن وفي المقدمة منه مصر. وأن القصيدتين صودرتا في مصر. وقد أحضرهما أمل دنقل وقرأهما بصوت عالٍ واستمعنا إليهما وكان جزءًا كبيرًا من المناقشات التي تدور في هذه الجلسات في ذلك الوقت مما يمكن أن يضايق الحكم فأغلق المقهى أبوابه يوم الجمعة ولا أعتقد أن السبب في ذلك هو أزمة العمال، كلمات القعيد ذكرتني بفترة عصيبة مرت على مقهى الزهاوي حينما أراد ورثته بيعه فثارت ثائرة الناس من كتاب وشعراء ومحبين لهذا الصرح التراثي البغدادي حتى اضطرت أمانة بغداد من شرائه وقامت على تجديده بالصورة التي هو عليها الآن، ترى ماذا يمنع أن تعود اليه تلك السجالات والمطارحات الأدبية مع انه قريب من شارع المتنبي وسوقه الذي يشهد كل يوم جمعة تظاهرات ثقافية ترعاها مؤسسة المدى للثقافة والفنون على قاعتها وبيت الشعر الذي يبعد خطوات عنها، هذا الشارع الذي لم تتعرض للنسيان وجوه ألفناها لأدباء وشعراء وفنانون ومتذوقون لكل تلك الثقافات.
عن موقع (معكم)

اقرأ ايضا

نص نادر..من صور بغداد في 1933

احمد حسن الزياتكان ألذ ما أتذوقه من جمال بغداد وقفة في حديقة النادي العسكري كل …