رشيد وحتي
انطفأت روح الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا (1936 ـــــ 2025)، مخلِّفاً عدداً كبيراً من النصوص السرديَّة والنقدية، تخلَّلتها تقلُّبات سياسية من الانتساب إلى اليسار التَّحرُّري وصولاً إلى تبنِّي خطاب نيوليبرالي يميني يكاد يكون فاشياً.
كان من أبرز الحاصلين على جائزة “نوبل للآداب” عام 2010، لـ “رسمه خرائطَ هياكل السُّلطة وصوره المحتدَّة عن المقاومة الفردية والثورة والفشل”، وفقاً للبيان الصحافي لإعلان الأكاديمية السويدية ساعتئذ.
مثل عدد من المؤلفين الهيسبانو ــ أميركيين، شارك يوسا في السياسة، مع مواقف تحولت تدريجاً من الشيوعية إلى النيوليبرالية، بدعمه مرشحي اليمين المتطرف في تشيلي والبرازيل، مثلما كان مرشحاً في الانتخابات الرئاسية البيروفية عام 1990 بدعم من ائتلاف “الجبهة الديموقراطية” (يمين وسط ليبرالي)، لكنه هُزم في الجولة الثانية على يد الشَّعبوي اليميني ألبرتو فوجيموري.
بعد هذه الهزيمة، غادر البيرو ليستقر في مدريد. يعترف يوسا، الذي تقدم بطلب للحصول على الجنسية الإسبانية وحصل عليها عام 1993 من حكومة فيليبي غونزاليس، بأنه يشعر بأنه إسباني بقدر ما يشعر بأنه بيروفي.
وقد أثار هذا الحصول على جنسية ثانية، بعد ثلاث سنوات فقط من ترشحه للانتخابات الرئاسية في بلاده، ردود أفعال سلبية في البيرو. في مسار تكوينه، درس ياسو الأدب والقانون في “جامعة القديس ماركوس”، واشتغل بالتوازي مصحِّحاً أدبياً، ثم متعاوناً في قسم السينما في مجلة Literatura وصحيفة El Comercio (بين عامَي 1957 و 1958).
أثناء دراسته، اكتشف أعمال سارتر والماركسية، التي تركت تأثيراً كبيراً. كما كافح ضد الدكتاتورية العسكرية للجنرال مانويل أودريا.
ولمدة وجيزة، انخرط في الفرع الطلابي للحزب الشيوعي البيروفي، الذي تركه احتجاجاً على الخط الستاليني للتنظيم في الفن والأدب. وبفضل منحة دراسية، واصل دراسته الجامعية في الجامعة المركزية في مدريد، حيث دافع في عام 1958 عن أطروحته للدكتوراه حول روبين داريو.
ثراء فني وأيديولوجي
إلى جانب كورتاثار، فوينتس، ورولفو، وماركيز وأونيتي، اعتُبِر يوسا من أهمِّ الأسماء في طفرة الأدب اللاتيني الأميركي في ستينيات القرن الماضي؛ عندما نأَوْا بدرجات متفاوتة عن السرد التقليدي بتأثير من الحركات الأدبية الأوروبية والأميركية الشمالية الحداثية وما بعد الحداثية التي استعاروا منها تقنيات مبتكَرة في تأزيم الرموز الخيالية، وتعدد وجهات النظر السردية، والتعدد الصوتي للساردين، وخلخلة التسلسل الزمني، والاستناد إلى المونولوج الداخلي أو حتى تدفق الوعي على غرار جيمس جويس وويليام فوكنر. فقد كشف أسلوبه الرؤيوي، مع زملائه الروائيين، عن ثراء فني وأيديولوجي وَسَمَ القارة الأميركية الجنوبية.
بنشر يوسا لروايته الأولى “المدينة والكلاب” (1963)، ذاع صيته، مؤرِّخاً وناقداً لما صار يسمى ثيمة أو رواية الديكتاتور في أميركا اللاتينية، مبتعداً بذلك عن تقليعة الواقعية السحرية السائدة.
سيعود مع رواية “حفلة التيس” (2000) إلى الموضوعة نفسها باستحضاره الأيام الأخيرة للديكتاتور الدومينيكي تروخيُّو، ولكن بِعُدَّة كتابية أكثر نضجاً استثمر فيها البوليفونيا، والأهجية السياسية الملحمية، والتصوير الرومانسي للسلطة عبر روحها الأيبيرية ــ الأميركية الصّرفة.
في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، انتُخب في الجولة الأولى ليشغل المقعد 18 في أكاديمية اللغة الفرنسية، الذي أصبح شاغراً بوفاة ميشال سيريس. وكان هذا الانتخاب مفاجئاً، إذ كان الكاتب يبلغ 85 عاماً، أي أكبر بعشر سنوات من الحد الأقصى للسن المحدَّدة للانضمام إلى المؤسسة (75 عاماً).
وبذلك أصبح أول أكاديمي لم ينشر باللغة الفرنسية، رغم أنه يجيدها بطلاقة. لم يلقَ تعيينه هذا إجماعاً، فقد نُشر مقال بقلم باحثين وأكاديميين في صحيفة “ليبيراسيون” (8 ديسمبر 2021)، ينتقدونه لارتباطاته باليمين المتطرف في البيرو.
منذئذٍ، قسَّم يوسا إقامته بين أوروبا وأميركا الجنوبية، مواصلاً دعم سياسات التقشف التي تنتهجها الحكومات الغربية المحافظة، ولا سيما حكومة أثنار في إسبانيا، وبرلسكوني في إيطاليا.
وتبنَّى مواقف المحافظين الجدد بشأن القضايا الدولية، مبرراً غزو العراق في عام 2003 والانقلاب العسكري في 2009 ضد حكومة مانويل زيلايا اليسارية في هندوراس.
وفي عام 2021، تسارعت وتيرة تحوله نحو اليمين واليمين المتطرف عبر دعم مرشح يميني شعبوي في بيرو، ثم عبر دعم خوسيه أنطونيو كاست، كمرشح يميني متطرف في تشيلي يدَّعي أنه وريث دكتاتورية بينوشيه. وفي عام 2022، أعلن تفضيله للمرشح البرازيلي اليميني المتطرف بولسونارو على لولا.
في نيسان (أبريل) 2016، ظهر اسمه، إلى جانب اسم زوجته، ضمن ما صار يسمَّى في الصحافة الدولية “وثائق بَنَمَا”، كمستفيدٍ من التهرُّب الضريبي. كما ظهر اسمه ثانيةً في وثائق باندورا في عام 2021 كمستفيد من شركة مسجلة في عام 2015 في جزر فيرجن البريطانية، التي كانت تهدف إلى إدارة حقوق الطبع والنشر الخاصة به، إضافة إلى عائدات مبيعات العقارات التي يمتلكها في مدريد ولندن.
في نهاية المطاف، نحن أمام كاتب أساسي تبنّى مواقف تقدمية وتحررية قبل أن يغرق في أوحال اليمين النيوليبرالي المتطرف ودعم الحركات الفاشية، ناهيك بالتنعُّم الفاسد بموارد “الفراديس” الضريبية؛ في مفارقةٍ صارخة مع كلِّ المُثُلِ التي نادت بها رواياته ومقالاته.
· عن صحيفة الاخبار اللبنانية
اقرأ ايضا
يوسا في بغداد: “هذا ليس حسناً يا سيدي! “
ندى حطيطكتب الروائي الراحل ماريو فارغاس يوسا (1936-2025) وحائز نوبل للآداب 2010 بغزارة لافتة عبر …