أنور محمد
تَتميَّز النصوص الأدبية التي ترجمها الكاتب السوري أسامة منزلجي (1948- 2025) من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية بأنَّها جاءت نتيجة جهد عقلي، فهو غير مُحايد ولو كان هادئ الأعصاب، فنرى اللغةَ/ الكلماتَ تَرُجُّ القارئ رجَّاتٍ عنيفة فيوقظُ إحساساتنا كقرَّاء مع موضوع الرواية فنُحقِّق، أو لنُحقِّق ترابطًا بين التخييل والواقع.
أسامة منزلجي يُترجمُ لكي يحفرَ أخاديدَ يُفرِّغُ فيها ورَعَهُ بالإنسانية، فكلُّ الأدباء الذين ترجمَ لهم مثل جيمس جويس، هنري ميللر، نيكوس كازانتزاكي، جان جينيه، هرمان هسه، تنيسي وليامز، سكوت فيتزجيرالد، ويليام فوكنر، غراهام غرين، ج. م. كويتزي، بول أوستر، تيري إيغلتون، كاميليا انتخابي، شيروود أندرسون، فيليب روث، غور فيدال… وغيرهم، كانوا يعيشون مثله حُمَّى فكرية وفلسفية، وعذاباتٍ روحية حول المصير الذي آلَ إليه الإنسانُ مِنْ قَبلِ، وما بَيْنَ، وما بَعْدَ الحربين العالميتين كحطبٍ لقوى الشر التي تستبدُّ بالحياة. أسامة منزلجي يُترجم الروايات لأنَّ الرواية تُجابه؛ وصراعاتها كامنة وقاسية، ولنوالفَ بين العقل النظري والعقل العملي، بما يؤسِّس لوعيٍ يقطع مع الجهل بالآخر: كيف يُفكِّر؟ كيف يفعل ما يفعل؟ ولنقيم علاقة مع الحقيقة، فنميِّز بين روايتين؛ بين ثقافتين: ثقافة السلطة المُستبدَّة وهيمنتها وتسلطها، وبين ثقافة الحرية التي كان الروائيون الذين ترجمَ لهم يحاولون بإبداعاتهم إنقاذنا حتى لا نعيش حالة القمع والإذلال والإخضاع. وعلى سبيل التجربة فإن ما عشناه في سورية على مدى أكثر من خمسين سنة، يثبت أن مؤلَّفات وترجمات وشِعارات ومَسيرات وجنرالات كانت تَحطُّ من وعينا وقَدْرِنا، وتحولنا إلى فرائس.
الترجمة فعلٌ نهضوي تحرري عند المثقَّف العضوي؛ أكان سوريًا أو سودانيًا أو لبنانيًا أو مصريًا او جزائريًا أو مغربيًا أو فلسطينيًا أو…، وهي كذلك عند أسامة منزلجي لأنَّها فعل مبارزة بين حَدَّيْن نَدَّيْن: جهلٌ وعلم. فمعظم اختياراته من الروايات هي كذلك مثل “الإغواء الأخير للمسيح” لـ نيكوس كازانتزاكي التي صوَّر فيها الصراع النفسي الذي عاشه يسوع المسيح، والشكوك والإغواءات التي واجهها خلال حياته، وبكثيرٍ من العمق والتأملات الفلسفية، أو ثلاثية هنري ميللر (سيكوس، نيكسوس، بليكوس)، وكذلك روايتيه (مدار الجدي ومدار السرطان)، أو “العودة إلى متوشالح – معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة” للكاتب المسرحي والروائي الأيرلندي جورج برنارد شو، أو “العقل والإيمان والثورة: تأملات في مناظرة حول الله” لتيري إيغلتون، أو “ذئب البراري” لهرمان هيسه، أو “الربيع الروماني للسيدة ستون” لتنيسي ويليامز، أو “امرأة على الضفة المقابلة” لميتسويو كاكوتا، أو “الطاووس الأبيض” لديفيد هربرت لورانس، أو “الخوف من الموت” لإريغا يونغ.
سنرى أنَّها اختيارات لأعمالٌ واقعية تُمثِّلُ انتقامًا- رَدَّ فعل خيبات أملنا العنيفة مّمَّنْ أجبرونا على أن نسكن في حجراتٍ/ منازلَ إنَّما هي توابيت لنشر الرعب والإخضاع والاستخذاء، فنتعرَّف على شخصياتٍ روائية كانت عند هنري ميللر أو نيكوس كازانتاكي أو الآخرين؛ شخصيات أيضًا تُحب بحواسها، كون الحب نزاعًا ساميًا يهزُّ المشاعر هزًَّا عنيفًا، حتى لو كانت شخصياتٍ تفتري على الله في لحظات ضعفها وخَوْرِها وهي أكثرُ ما تكون في حاجةٍ إليه.
أسمة منزلجي مُترجمٌ- نتذَكَّرُ معه في رحيله المفاجئ هذا جورج طرابيشي ورفعت عطفة اللذين كانا مثله منحازين لترجمات تنفض عن عقلنا الخمول والكسل الفكري، فنستعيد وعينا النقدي، فنقرأ لنتحرَّرَ ولنبعثَ قيمَ العقل والتنوير. منزلجي المترجمُ المثقَّفُ الذي كان لا يُغادر منزله/ بيته في اللاذقية إلاَّ لضرورة، فتحَ ما بين بيته وبيننا معابر من الحكايات لبشرٍ؛ وعن بشرٍ في الروايات التي ترجمها تزيدُ من وعينا وهي تُذيبُ جبال الفكر الجليدية في رؤوسنا، وإذ يرحلُ فهو أكثرنا تألُّمًا لأنَّه أكثرُ معرفةً. فالأرضُ كانت سوريةً أو فلسطينيةً والتي كانت ترتوي بالمياه، صارت في هذا الجحيم العربي المتخاذل الانحطاطي من كثرة الشهداء وضحايا الطُغاة لا ترتوي حتى بالدماء.
منزلجي في ترجماته كان كمن يشتغل ثائرًا، قانونيًا، وعالِمًا وطبيبًا نفسيًا ورسولًا/ مسيحًا خفيًا. فنقرأ الروايات التي ترجمها بدون تحفظ لأنَّه لا يغشُّ القارئ، ولا يُفكِّر بذهنيةٍ ساديةٍ شيطانية، ولأنَّ الترجمة أيضًا ليست مجزرةً دموية للكلمات. فأسامة وإن لم يصطدم مع الجلادين كونه اختار العزلة الاجتماعية، كانت الترجمة ملاذه الروحي والوجداني، فكما الربح هناك الخسارة، وكما المستقيمُ هناك المعْوَجُ، وكما الأبيضُ هناك الأسود.
· عن الضفة الثالثة
اقرأ ايضا
أسامة منزلجي: وُلِدْتُ لأصغي
هنادي زرقحين تحدثنا معه على الفايسبوك وأخبرناه أنّنا نرغب في إجراء مقابلة معه، كان لطيفاً …