السينما في بغداد .. بدايات وتطور

د . كمال رشيد العكيلي
إهتم البغداديون بمشاهدة الصور المكبرة في فترة سبقت ظهور أول صورة متحركة صامتة فوق شاشة سينما ، أما السينما توكراف فقد شاهدها أهالي مدينة بغداد للمرة الاولى وذلك في ليلة الاحد 26/ تموز1909، حيثُ عُرض أول هذه الافلام في دار الشفاء الواقع في الجانب الغربي (الكرخ) من بغداد .(20) وقد انبهرت تلك الجمهرة التي حضرت العرض مما شاهدت من (الالعاب الخيالية) كما دُعيت في ذلك الوقت .(21) ويظهر أن مدينة بغداد سبقت غيرها من العواصم المجاورة من خلال أول عرض سينمائي جرى في عام 1909.
ويبدو أنّ هذا الفن الوافد قد راق لبعض تجار ذلك الزمان فقرروا اختيار مكان مناسب عام يرتادهُ الأهالي بموجب تذاكر . وقد وفق هؤلاء إلى تشييد أول دار للعرض السينمائي في عام 1911 ، وسط البستان الملاصق للعبخانة وتقع هذه المنطقة حالياً في منتصف شارع الرشيد ببغداد . وفعلاً جرى حفل العرض السينمائي الاول في 5/ أيلول /1911 ، فكان لهذا الحدث غير الاعتيادي أصداء واسعة في الاوساط الاجتماعية والثقافية وظهرت عنهُ مقالات وتعليقات .(23) وقد ضم العرض ، الذي حضرهُ الوالي العثماني (جمال باشا) ، ثمانية أشرطة قصيرة .
وتشير الجريدة البغدادية (صدى بابل) الصادرة في أيلول ـ 1911 الى : (يبتدىء أول تمثيل بالسينما توغراف في يوم الثلاثاء منذُ الساعة الواحدة والنصف في البستان الملاصق للعبخانة وهذا التمثيل الأولي يكون بالاشكال اللطيفة التهذيبية المبهجة ) الآتية : ـ
1ـ صيد الفهد .
2ـ الرجل الصناعي .
3ـ بحر هائج .
4ـ التفتيش عن اللؤلؤة السوداء.
5ـ سباق مناطيد .
6ـ طيور مفترسة في أوكارها .
7ـ خطوط حية (متحركة) .
8ـ تشييع جنازة ادوارد السابع ـ ملك إنكلترا .
كان هذا أول إعلان ينشر في الصحافة العراقية عن عروض سينمائية تقدم في دار للعرض بموجب تذاكر ـ وفيه إشارة لعناوين الافلام المعروضة . وقد حضر هذا العرض السينمائي ماينيف على 200 شخص يمثلون علية القوم من موظفي الحكومة ووجهاء المدينة صاحب العرض عزف الموسيقى العسكرية . ويذكر أنّ ذلك المكان (البستان) الذي عُرضت فيه تلك الافلام هو نفسه الذي دُعي فيما بعد بـ ( سينما بلوكي ) نسبة إلى تاجر مسيحي مستورد للمكائن كان معروفاً في العراق . وبذلك تكون هذه السينما ـ أي بلوكي ـ هي أول دار عرض سينمائي تُفتتح في مدينة بغداد عام 1911 .
ولم يكن ذلك البستان بالعبخانة المكان الوحيد الذي عُرضت فيه الصور المتحركة ، ففي المسرح المركزي بحديقة الاهالي خصصت سينما للأهالي عُرضت العديد من الأشرطة القصيرة من أهمها : ـ
1ـ جريدة باتة .
2ـ العاب بدنية .
3ـ صورتان هزليتان .
4ـ طعام الملوك .
5ـ بالاضافة إلى شريط من خمسة أجزاء اسمهُ (مناظر الحرب) .
وكانت عروض السينما توغراف تقدم عادةً في المناسبات المهمة والاحتفالات العامة كما حدث في التياترو الجديد بالبساتين العمومية عند الاحتفال بيوم الامبراطورية في 24/ أيار / 1918، فالى جانب العرض التمثيلي الذي قدمتهُ فرقة الممثل البريطاني (بول فريمن ) عُرض شريط سينمائي يحمل اسم (معارك هذه الحرب) سجل مآسي الحرب العالمية الاولى ، كذلك عُرضت الصور الجديدة التي التقطت في شوارع بغداد واسواقها .
ويظهر أنّ العديد من مناطق مدينة بغداد شهدت بعد الحرب العالمية الاولى عروضاً سينمائية في الهواء الطلق نظمتها دائرة الاستعلامات البريطانية بجهاز عرض (16ملم) كانت تنتقل به إلى مناطق عديدة من المدن العراقية .
وكان أول من تنبه إلى أهمية السينما في العراق هم التجار اليهود الذين سارعوا إلى تشييد دور العرض ، وكان أيضاً للصحافة دورها في التنبوء باهمية السينما والاعلان عن الافلام وتقديم القراءات النقدية ، حيثُ شجع ذلك إقبال الناس على مشاهدة العروض السينمائية .
بعدها تكاثر تأسيس دور سينما جديدة في الفترة التي سبقت وأعقبت قيام الحرب العالمية الاولى ، حيثُ افتتحت دار ثانية للسينما هي (سينما عيسائي ) نسبة إلى التاجر المسيحي يعقوب عيسائي في محلة رأس القرية . ثم تبعتها سينما أولمبيا ، وسينما سنترال ، والسينما العراقي ، والسينما الوطني .
ويلاحظ أنّ الغالبية العظمى من هذه الدور كانت تقع في الشارع الجديد ـ أي الرشيد حالياً ـ أو على مقترباته على الأقل باعتباره مركز مدينة بغداد العمراني ونشاطها التجاري والتسويقي حيثُ يكثر المارة والازدحام .
ومع إتساع ظاهرة السينما في مدينة بغداد أخذ الشباب يهربون من المقاهي إلى دور العرض السينمائي تشبهاً بتلك النخبة من المتنورين التي وجدت في السينما مصدراً جديداً يضاف إلى مصادر ثقافتها .
ومع تضاعف إهتمام الناس بمتابعة تلك الاشرطة المليئة بالمشاهد والصور المدهشة ، تضاعف أيضاً إهتمام بعض الموسرين بتلك الظاهرة الجديدة التي اسمها (السينما الصامتة ) فسعوا للاستفادة منها بالتفكير الجاد في بناء دور خاصة بالعروض السينمائية تجلب أحدث الأشرطة القصيرة التي غزت العالم كلهُ . وقد أدت سينما أولمبيا ورويال سينما تلك المهمة بنشاط ملحوظ في عام 1919.
وعن بدايات دور السينما في مدينة بغداد يشير الباحث أمين المميز بقوله ( أذكر بغداد يوم تأسست بعد الاحتلال البريطاني أول دار سينما في بغداد وكانت لاتتسع لأكثر من مائة مشاهد تقع في شارع النهر ـ مقابل أورزدي باك القديم ـ ثم تأسست بعدها السينمات الثلاث في شارع الرشيد وهي رويال سينما ـ مقابل ساحة الشاعر معروف الرصافي حالياً ـ والسينما الوطني ـ كان مقابل شركة المخازن العراقية ـ وسنترال سينما ـ مقابل ساحة الوثبة ومحل حافظ القاضي ـ . أما الباحث الموسوعي جلال الحنفي فيشير الى ذكرياته عن دور السينما في مدينة بغداد قائلاً ( وفي منطقة الميدان كانت تقع سينما العراق كانت أول الأمر تُعرض فيها الافلام صامتة وتكتب بعض تفاصيل الأمر على الشاشة في ترجمة مستعجلة .
بدأ التوسع والانتشار في دور السينما في عام 1920 من خلال شراء ذلك النوع المطور من الأشرطة الطويلة المسلسلة . ومما شجع أصحاب رؤوس الأموال في استثمار أموالهم في تجارة الأفلام وفتح دور للعرض إقبال الجمهور عليها لذلك توالت العروض السينمائية خلال الاعوام التالية مع استمرار فتح دور عرض جديدة وتولي أصحابها وهم من التجار المعروفين في بغداد استيراد الأفلام والإعلان عنها . وقد لوحظ إهتمام الجمهور البغدادي وحرصه الشديد على متابعة الأشرطة المصورة ذات الطابع الكوميدي ومن الجدير بالذكر أن الفنان الكوميدي الشهير (شارلي شابلن) تكرر ظهوره على شاشات دور العرض في مدينة بغداد مرات عديدة منذُ عام 1920 والذي استحوذ على إعجاب الجمهور البغدادي . وفي عقد العشرينيات تعمق الوعي في فن السينما وقد لعبت الصحافة دوراً واسعاً في التبشير بالسينما والدعوة إلى مشاهدتها ، فأفردت الصحف والمجلات زوايا وصفحات لعرض أخباره والتعريف بنجومه ، ومع إتساع ظاهرة السينما انتعش النشاط المسرحي كذلك . وخلال هذا العقد ظهرت أولى المحاولات في النقد السينمائي ، كذلك قامت بعثات أجنبية بزيارات إلى بغداد وصورت الأحداث الجديدة الجارية في العراق وتولت عرضها للجمهور المحلي مثل مقدم فيصل الأول وتنصيبه ملكاً على العراق الذي صورهُ مصور بريطاني ، وقام مصور آخر بتصوير حفر بئر لاستخراج النفط .
عن بحث ( دور السينما في مدينة بغداد بالعهد الملكي وأثرها في الحياة الاجتماعية )مجلة الموروث ( دار الكتب والوثائق ) .

اقرأ ايضا

بمناسبة رحيله.. مع هشام المدفعي

رفعة عبد الرزاق محمدالحديث عن الاستاذ الفاضل هشام المدفعي، المهندس الاستشاري القدير والشخصية الاجتماعية المرموقة، …