في الحرب العالمية الأولى الاحتلال البريطاني والحياة الزراعية في العراق

د . إسماعيل نوري الربيعي

مد الاستعمار البريطاني نفوذه العسكري على العراق في الحرب العالمية الاولى، وبدأت أساليب استغلاله تبدو متنوعة وشديدة التأثير وهي تقوم على ربط الاقتصاد العراقي بمجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وكانت الإدارة البريطانية مدركة منذ البداية ضرورة التعاون التام مع بعض رؤساء العشائر وكبار الملاكين وهذا يعني إعادة الروح في النظام العشائري وتعزيز مركز الشيخ، خدمة للمصالح البريطانية، وجعل الشيوخ مسئولين بصورة مباشرة عن أفراد قبائلهم، لذا عملت على توسيع نفوذهم، بإغداقها المال عليهم، ومنحهم الامتيازات مثل الإعفاء من الضرائب والاستفادة من الأراضي الأميرية ومنحهم أراض واسعة، وجعل ولاء أفراد العشائر للشيخ، بدلا من السلطة الإدارية، لقد مكنت هذه السياسة الإنكليز من فرض سيطرتهم على العشائر، وتحقيق زيادة في الإنتاج الزراعي، لأنها جعلت من بعض الشيوخ والمتنفذين، المرجع المباشر أمامها وجعلتهم المسئولين عن كل ما يدور في الحياة الريفية من أنشطة اقتصادية واجتماعية.

وأغرت هذه السياسة، الملاكين، في استغلال هذا النفوذ لصالحهم، دون التفكير، بمصالح الفلاح. فاستغلوا جهوده بأبشع صورة، ومارسوا عليه أقسى أنواع الاضطهاد، وصاروا ينظرون إليه كوسيلة من وسائل الإنتاج، ومن المظاهر الأخرى التي مارستها قوات الاحتلال، أقدامها على نزع ملكية الأرض من الملاكين والشيوخ المعارضين لها ومنح الموالين لها أراض واسعة. وكان هذا نابعا من أسلوب الحزم الذي مارسته. فركزت السلطة الزراعية، بيد الشيوخ وأشراف المدن، ويقول د. محمد سلمان حسن: إن سياسة الأرض البريطانية في العراق قامت على ركنين، الأول تحويل الأراضي إلى الشيوخ من فوق رؤوس الفلاحين والثاني زيادة القوة السياسية والسيطرة لدى الشيوخ.

ومن المشاكل التي برزت بقوة في تلك الحقبة، وبعد نتيجة منطقية لهذه السياسة الاستغلال الذي مارسه الشيوخ على الفلاحين، حتى وصلوا إلى حد الأملاق والجوع واستغل بعض الشيوخ، جهل الفلاح، فراحوا يغمطون حقوقه، ويأكلون حصته المقررة ثلث المحصول متخذين من السندات المزورة أسلوباً للتهديد الدائم وعملت قوات الاحتلال في تكريس حالة الاستغلال، بإجبارها الفلاحين على طاعة أوامر الملاكين ومن أمثلة ذلك، أن بعضا من فلاحي بساتين التمور في البصرة والتابعة لشيخ الكويت، طالبوا بتحسين أحوالهم ووضع نهاية للقسمة غير العادلة في المحصول، إلا أن سلطات الاحتلال تدخلت بقوة لصالح الملاك .

ويمكن وصف السياسة الإدارية لقوات الاحتلال في المناطق الزراعية، بأنها كانت تقوم على مبدأ السوط والخبز ، وذلك إنها منذ بداية المواجهة مع القوات العثمانية جردت العديد من الشيوخ الذين وقفوا إلى جانب العثمانيين من أملاكهم.

ولقاء تعاون بعض الشيوخ، قدمت سلطات الاحتلال المكافآت المجزية لهم، وتراوحت بين الرواتب الشهرية والوظائف الإدارية، وإطلاق يدهم في العمل ومنحهم سلطات واسعة على أفراد عشائرهم وتوسيع دائرة نفوذهم وتمثلت المناصب الإدارية بمدير قسم ومعاون الحاكم السياسي ومدير ناحية وضابط للشبانة (الشرطة)، وكان مقدار الرواتب يترواح بين (150) إلى (1000) روبية شهرياً، فعلى سبيل المثال، إن رئيس بني خيكان، فرهود المغشغش، عين مديرا لناحيتي العكيكة والحمار براتب قدره (300) روبية شهرياً والحاج حسن الحمداني، عين بوظيفة معاون الحاكم السياسي في سوق الشيوخ براتب (250) روبية شهرياً، فيما نصب خيون العبيد وكيلا للحاكم السياسي في الشرطة بمرتب شهري كبير. ومنحت أيضاً بعضا من رؤساء العشائر في العمارة وأربيل عددا من المقاطعات الزراعية دون بدل أو ضريبة..

ولقاء الدعم الذي لقيه الشيوخ، كانت الإدارة البريطانية تطالبهم بحفظ الأمن والنظام في مناطقهم ودفع الواردات والعمل على جبايتها وتسليم البدل السنوي للملاكين إضافة إلى مطاليب تخص الولاء للإدارة البريطانية والأمن والعلاقات بصورة عامة.

كانت ضرائب حكومة الاحتلال البريطاني، مرتفعة، حيث بلغت في العام 1919 ما يعادل 1300000 دينار، على الرغم من النقص الذي ظهر في الإنتاج الزراعي، ونتيجة لهذا الارتفاع في نسبة الضرائب، وقع الملاكون الصغار والمتوسطون ضحية للملاكين الكبار تحت ضغط الديون التي أستلغوها لتسديد الضرائب الثقيلة، وبرزت هذه الحالة في الحلة والشامية وبعقوبة وفي المناطق الشمالية من العراق.

وتعددت الضرائب وتنوعت على الفلاحين، فظهرت ضريبة صيد السمك والطيور، وضرائب على الحاجات الاستهلاكية، وضريبة على الزواج، حتى بلغ عددهاعشر ضرائب وصار هم الشيخ الأول، الحصول على النقود بأية وسيلة، حتى أنه لم يتورع عن التسليف بالربا واستغلال جهد الفلاح، باستخدام طريقة البيع على الأخضر، لإتمام مظاهر البذخ، والتظاهر بالثراء وشراء المضخات وتوسيع الأملاك، حتى انتهت مكانة الشيخ الكريمة في نفس الفلاح، وصارت العلاقة، تقوم على الخوف من المأمورين والحوشيه والشرطة والسجون.

كانت السياسة الضرائبية، لسلطات الاحتلال شديدة، حيث جعلت رئيس كل عشيرة مسئولا عن جبايتها، مما حدا ببعضهم إلى التنازل عن الرئاسة، واضطر البعض الآخر إلى التنازل عن قسم من أراضيه، ليقل عبء الضرائب عليه. ولم يكفهم هذا بل عمد بعض الحكام السياسيين إلى إصدار أوامر وتعليمات خاصة بهم، القصد منها زيادة الواردات، فقد أقدم الحاكم السياسي في السنية على إصدار لائحة تشكل الضريبة فيها، نسبة عالية، حتى أن واردات منطقته بلغت 3178980 روبية في العام 1920.

كانت غاية سلطات الاحتلال البريطانية، جمع الواردات، بكل ما تيسر لها من وسائل، إذ أنه عندما تمكنت من فرض سلطانها، أقدمت على تأسيس دائرة الواردات، التي نشطت في التحقق عن الواردات التي لم تدفع للسلطات العثمانية.

ووجد الشيوخ، أن سلطات الاحتلال تطالبهم بالطاعة وتحصيل الضرائب بطريقة لم يألفوها، فقد كان الإنكليز يخمنون الضرائب بدقة متناهية، ويتشددون في حسابها، حتى أنهم استخدموا اليهود في ذلك العمل، الذين تفانوا في أداء مهمتهم هذه. فما كان إلا أن بلغت الضرائب ثلاثة أضعاف ما كانت تجنيه السلطات العثمانية، أبان احتلالها العراق(70). والقي على كاهل الفلاح نفقات الجيش، وأرهق بأعمال السخرة، حتى بلغ الذين استخدموا في هذه الأعمال حوالي تسعين ألف فلاح، وبلغت الضرائب الزراعية ما يقارب 7.950 ألف روبية في العام 19171918، ارتفعت إلى 21.750 ألف روبية في العام التالي.

يتحدث أيرلند، عن الطريقة البريطانية في جمع الواردات بلغة الفخر إذ يقول: أن نتائج الجباية، على الرغم من إبقاء الأساليب العثمانية، كانت أحسنquot;، وحين يقارن بين واردات العثمانيين في العام 1911 ، من ضرائب العشر والكودة وضرائب الأرض الأخرى، مع واردات الضرائب ذاتها في العام 1918، نجد أن الزيادة بلغت 1.23، ضعف ما جمع في العام 1911. وان الزيادة في واردات 1919، قاربت ضعفي ما جمع في سنة 1911.

وعمدت السلطة المحتلة إلى تصنيف الأراضي، حسب درجة شرعية السندات، التي يبرزها الملاكون، ففي المنتفك، أقدم الكابتن quot; ليفي quot; على تقسيم المقاطعات إلى نوعين، أحدهما تحجز ملاكيته ( من صاحب الأرض )، بسبب الشكوك في قانونية السند المعروض، فلا يحق للمدعي الادعاء بعائديتها أو استحصال نسبة الملاكية البالغة 7.5 بالمائة من حاصل الأراضي، بل تقيد كأمانة في سجلات الحكومة إلى حين البت في أمر تفويضها، والنوع الآخر هي الأراضي التي لا شائبة في سندات تمليكها، وتكون حصة الملاكية 7.5 بالمائة جيبها الحكومة من حاصلات الأراضي وتدفعها إلى الملاكين دون التدخل في الشؤون الزراعية.

إن هذه الإجراءات كانت تعني شيئاً واحداً، ألا وهو، الرغبة البريطانية الجامحة في تنظيم الأراضي لتسهل لها جباية الواردات. فركزت جهودها على المناطق الأكثر خصبا، فأهتمت كثيراً بالمنطقة الواقعة بين الهاشمية والمسيب، وهي المنطقة التي كان العثمانيون يجبون منها أوسع ضريبة من الأراضي.ووجدت سلطات الاحتلال ضرورة تنظيم عملها، فأصدرت البيان لسنة 1920 بأسم بيان تحديد وتسجيل الأراضي ، وتشكلت لجنتان لهذا الغرض، الأولى في منطقة بغداد، حيث باشرت أعمالها في ديالى والثانية في منطقة الفرات وبدأت بقضاء الهندية.

وسجلت النسبة المئوية للضرائب على الحاصلات الزراعية والجمارك ارتفاعا كبيراً في السنوات 1916- 1919، حتى أنها بلغت في العام 1917- 1918 معدلا بلغت نسبته 98.7 بالمائة، إلا أنها تراجعت في العام التالي حتى بلغت 83.4 بالمائة أما في العام 1920 1921 وصلت إلى 71.5 بالمائة(77) ويعزى هذا الانخفاض، إلى الاضطراب الذي ساد سلطات الاحتلال وأجهزتها الإدارية، نتيجة لثورة العشرين الوطنية التحررية. وإذا ما لوحظت زيادة في نسبة الواردات، فأنها لا تعني تحسنا في الإنتاج إنما تعزى بصورة رئيسه، إلى وصول جابي الضريبة إلى مناطق لم تكن تدفع الضرائب بانتظام، حتى أن إنتاج العام 1918 من الحبوب بلغ ربع ما أنتج في العام 1913.

وأنشأت سلطات الاحتلال لجنة للأعمار الزراعي، كانت الغاية منها، توفير المواد الغذائية لجيشها المحتل، فعنوا بتنظيم شؤون الزراعة والري، فزرعت مساحة 500 ألف فدان، بلغ إنتاجها من الحبوب 125 ألف طن، فيما يقول أيرلاند، أن الإنتاج بلغ بين 50 ألف إلى 60 ألف طن.

لقد كان كل هذا موجها نحو خدمة بريطانيا وجيشها المحتل، حيث بلغ أنفق على الإنتاج الزراعي والري ما يقارب 5900 ألف روبية بلغت نسبتها 12 بالمائة، من مجموع نفقات السنة المالية 1919 1920. وما هذه النسبة الضئيلة المنفقة على قطاع حيوي وهام كالزراعة، إلا دليل ساطع على أن قوات الاحتلال ما كانت تهدف من توجهها نحو الزراعة، إلا توفير احتياجاتها وخدمة أهداف بريطانيا البعيدة حيث اهتمت بزراعة المحاصيل النقدية كالقطن والتبغ وتربية دود القز لإنتاج الحرير، ومحصول التمر، وكان توجههم هذا يفصح عن الغاية التي كانت تحكم وجودهم في العراق، وهي المتمثلة بالهدف الاقتصادي، الذي يتلخص في جعل العراق مصدراً للمواد الأولية. وسوقا لتصريف المنتجات البريطانية.

عن مبحث ( الزراعة والعلاقات الزراعية في العراق أواخر العهد العثماني )

اقرأ ايضا

كيف عرف العراقيون مدارس البنات ؟

زينب هاشم جريان يعود ظهور أول مدرسة ابتدائية حديثة في العراق في مدينة الموصل بمنطقة …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *