طيب تيزيني.. المفكر المتمرد

علي حسين
كتب طيب تيزيني في مقدمة كتابه الموسوعي الشهير ” مشروع رؤية جديدة للفكر العربي إن ” الحقيقة في البحث التراثي ، كما هي في البحث العلمي عموماً ، هي كذلك ، أي حقيقة ليس لأنها نافعة ، وإنما هي على العكس من ذلك ، نافعة لأنها حقيقة « .
ستشهد مدينة حمص التي ولد فيها عام 1934 ، محاولة الصبي أن يتلمس دروب المعرفة ، ستساعده أمّه التي تنحدر من إحدى العوائل الغنية إن يذهب الى المكتبات المدينة للحصول على الكتب :” تركت أمي آثاراً طيبة في نفسي من الرغبة في المعرفة، إذ لاحظت باكراً إنها لم تكن تقرأ ولا تكتب في ما أتعلم فيه، فلفت نظري هذا الأمر واكتشفت إنها لا تقرأ إلا القرآن ومن النسخة التي تملكها، والتي ما زلتُ أحتفظ بها في مكتبتي الشخصية حتى الآن منذ وفاتها عام 1967».
عرف جان جاك روسو المرة الأولى حين وقع بيده كتاب ” هؤلاء علموني ” لسلامة موسى ، وقد شغف بكتب التنويري المصري ، وأخذ يبحث في المكتبات عن مؤلفات داروين وبرنادشو ومكسيم غوركي ، وأفلاطون وتولستوي وقائمة طويلة من الأسماء التي شكلت شخصية مؤلف ” هؤلاء علموني” ، إلا أن تيزيني الباحث عن جذور الفلسفة سيكتشف بعد سنوات أن سلامة موسى قاد تياراً ثقافياً حاول أصحابه تجاوز التراث العربي ورفضه وسيكتب في مقدمة كتابه ” الثراث والثورة ” إننا :” نستطيع تقصي هذا القصور في فهم قضية تراثنا فهماً علمياً تاريخياً دقيقاً من قبل سلامة موسى والذين تأثروا به من خلال سببين: الأول هو أن تراثنا الفكري والحضاري عموماً ، قدِم إلينا بشكل مشوّه ممسوخ، بحيث أبرزت منه الجوانب السلبية الغيبية والمناهضة للتقدم العلمي والاجتماعي إبرازاً بدائياً مملاً في طريقة تقديمه. أما السبب الثاني فقد كمن في كون أولئك لم يستوعبوا المنهج المادي التاريخي بشكل جدلي حي” . وسيجد الطيب تيزيني إن التاريخ يمكن أن يكتب على شكل حكاية ، بعد أن قرأ كتب أحمد أمين عن تاريخ الاسلام .
في بداية الخمسينيات سيشد الرِحال الى دمشق لدراسة الفلسفة في كلية الآداب ، في الجامعة يجرب كتابة القصة القصيرة فينشر عدداً من القصص في المجلات السورية ، عام 1962 يقرر السفر إلى بريطانيا ، كان شغوفاً بشكسبير وسيزور مسقط رأسه ، في لندن كان طموحه أن يدرس الأدب الإنكليزي ، لكن كتاباً هيغل ” محاضرات في فلسفة التاريخ ” سيغير مصيره ، حيث سيرشده الفيلسوف الألماني الى أن دراسة التاريخ لاتقل أهمية عن دراسة الفلسفة ، وسيكتشف إن التاريخ و الفلسفة مترابطان :” كل شيء يتجه إلى شيء أحسن ” ، وسيغرم بالجدل الذي هو الصدام بين فكرة و نقيضها. كان هيغل يعتقد أنه بإمكاننا الاقتراب أكثر من الحقيقة بإتباع هذه المنهجية الجدلية، ثم يقرأ كتاب ماركس ” الأيدلوجية الالمانية ، فتضطرب عنده فكرة هيغل عن الروح والتاريخ وسيؤمن بموضوعية الديالكتيك الماركسي ، ويبادر الى دراسة التراث العربي ضمن هذا المنهج ، حيث أصبح مقتنعاً بالماركسية إطاراً منهجياً للتفكير .
ولأنه نشأ في مناخ ديني في أحضان مدينة حمص ، نجده في شبابه ينجذب إلى شخصية الحلاج، ذلك الفيلسوف الصوفي المتمرد الذي شكّل على حد قول تيزيني :” جزءاً جوهرياً من تراثنا الثقافي، ولم يكن أبداً نسخة عن الثقافات الأخرى» .
سيصل ألمانيا عام 1963 كان الهدف دراسة الفلسفة ، وهذه المرّة سَيُخضع التراث العربي لشروط هيغل في الجدل ونظريات ماركس في الديالكتيك ، كان في السادسة والعشرين ، حين تفرغ لمشروع إعادة قراءة الفلسفة العربية ، يحصل عام 1967 على شهادة الدكتوراه عن أطروحته ” تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة ” والتي أصرّ أن ينشرها باللغة الألمانية ، وتصادف مع النجاح الذي حققه الطيب التزيني في مجال دراسة الفلسفة ، أن منيَّ العرب بمشروعهم القومي بهزيمة كبيرة – حزيران عام 1967 – هذه الهزيمة أثارت في نفسه أسئلة عن الأسباب التي تقف وراء هزيمة الجيوش العربية ، فنشر تيزيني آنذاك مقالاً عزا فيه أسباب الهزيمة الى غياب مشروع نقدي حقيقي للفكر العربي .
البحث بين رفوف المكتبات عن كتب التراث سيمتد لأكثر من نصف قرن متنقلاً بين حمص ودمشق وبرلين ، حيث حاول أن ينطلق في الآفاق الشاسعة التي اتسعت أمامه و كان كلما تقدم في سبل المعرفة، يكتشف سعة الهوة بين عالم القناعات البليدة والراسخة وعالم العقل الذي يعمل من أجله ويصبو إليه، كما لو أن عليه أن يجتاز قروناً في سنوات معدودة .
مع قراءة كتاب لينين ” المادية والنقد التجريبي ” سيؤمن الطيب تيزيني بموضوعية العلم وقوانينه في دراسة التاريخ ، ويبادر الى أن يكون مشروعه في 12 مجلداً بعنوان ” مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من العصر الجاهلي حتى المرحلة المعاصرة ” ، حيث أصبح مقتنعاً بالماركسية في جانبها التطبيقي على دراسة التاريخ والفكر ، وكان لا بد أن يقترب الطيب تيزيني من صفوف الشيوعيين، لكنه لن يختار الالتزام الحزبي واختار الانضمام الى مجموعة المفكرين الباحثين عن الحرية والعدالة الاجتماعية. محتفظاً بروحه المتمردة ضد القوالب الحزبية التنظيمية الجامدة
ومثلما تخيل ماركس أن التاريخ كله عبارة عن قطعة كبيرة من الورق مطوية على نفسها. كان تيزيني يؤمن أن التراث العربي لا نستطيع فهم ما يوجد بداخله حتى نفتح أبوابه ، لينكشف لنا محتواها كله ، ولهذا يمكننا أن ندرس التراث و نكتشف الأسباب المحتملة للأحداث و نتوقع شيئاً مما سيقع في المستقبل، لو اننا تمعنا في مراحل تطوره والتاثيرات الاجتماعية والسياسية على هذا التطور .
لم تكن دراسة التراث عند الطيب تيزيني مستقلة عن باقي مشروعه الفكري ، لقد كانت جزءاً مهماً وحيوياً منه ، التراث و الفلسفة مترابطان بالنسبة له، ، ولهذا تركّز مشروعه على إعادة قراءة الفكر العربي عبر تاريخه في إطار الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة به اعتماداً على المنهج المادي. وقد حاول أن يواجه مجموعة من القضايا التي مثلت بالنسبة له عوائق أمام تحقيق النهضة العربية والتي أدت الى هزيمة حزيران 1967 ، أولها هي الفكر غير التاريخي الذي يصدر أحكاماً مشوشة على العقل العربي ويدفع، من وجهة نظره، إلى التخلي عن فكر النهضة، والثانية هي قضية قراءة وفهم الفكر الديني بشكل عام ، حيث يرى إنه يمكن قراءة النص الديني قراءة جدلية تاريخية وبالتالي الارتكاز عليه لطرح تصورات النهضة، وبذلك يتم حل إشكالية العلاقة بين فكر النهضة، الذي يستند على العقل، وبين فكر الذات العربية الاسلامية الذي يستند في محاججاته ومقولاته ز على النقل ، القضية الثالثة كانت مهمة بالنسبة له والتي جعلت منه معارضا للانظمة الشمولية والبوليسية ، وهي قضية فساد الواقع المجتمعي سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، من ناحية، والتحديات الحضارية التي تفرضها الحضارة الغربية على هذا الواقع من جهة أخرى.
يمكن تقسيم الفكر الفلسفي للدكتور تيزيني، إلى تصورات نظرية وأخرى عملية. فعلى المستوى النظري، ينقسم فكره إلى تصوراته الفلسفية التي ترنكز على المادية الجدلية، ، ثم إلى التحليلات التاريخية للفكر العربي وللعلاقة بين هذا الفكر والدين الإسلامي. وعلى المستوى العملي ينقسم فكره الفلسفي إلى تصوراته عن كيفية معالجة النص الديني وشروط فهمه باتساق مع المادية الجدلية، وإلى تصوراته عن الشروط المجتمعية لتحقيق النهضة، وإلى تصوراته عن العلاقة بين المجتمعات العربية والغرب الاستعماري الذي يسعى لان يفصل العالم العربي عن تراثه الحقيقي ، وهو التراث الذي ساعد في مرحلة من المراحل على تطور النهضة الاوربية ، فيما ساهم هذا التراث بجانبه الغيبي وليس العقلي على انكسار الامة العربية ، وظهور الجماعات المتشددة ، ولهذا سعى الطيب تيزيني على التعامل مع الفكر العربي الإسلامي على اعتباره جزءً من تاريخ الفكر الإنساني يقبل التعامل معه كند وليس تابعاًالمعرفة التي قادت الطيب تيزيني لأن يحدث ثورة في دراسة الفكر الإسلامي و العربي طارحاً السؤال الكبير: لماذا تخلى العرب والمسلمون عن سؤال العقل؟ .بقي عنده مقصد واحد جلي لم يمل عنه إطلاقاً هو الوجود الإنساني وكما كان شيوخه الأوائل الفارابي وابن مسكويه وابن رشد يسعون إلى أن يكونوا حراس العقل في فلسفتهم سعى أركون إلى أن يكون متمرداً في مواجهة الغيبيات التي أراد البعض أن يتمسك بها بديلاً عن تراث مضيء ، كان يمكن له أن يجنّب هذه الشعوب ، ويلات الانحدار في طريق داعش وأخواتها .

اقرأ ايضا

طيِّب تيزيني… التأويلُ ليسَ ترفاً فكرياً

أنور محمدطيِّب تيزيني (1934 – 2019) صاحب “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” …