عباس بيضون
إسكندر كان قبل كلّ شيء رفيقاً. إنها رفقة عمر بدأت في جريدة السفير حيث أمضينا معاً عقوداً طويلة لا أذكر تاريخها الدقيق لكنّها عمر كامل. كان إسكندر حين تعرفت لأول مرة عليه مطلاً من جيل آخر. جيل ثانٍ لم نكن نحن محلّ نقمته أو اعتراضه. كنّا الأقرب إليه، بل يحسب نفسه تتمة لنا، أو أنه حقيقتنا الكامنة التي لا يسعفنا الوقت ولا يسعفنا الظرف لنعلنها. كنّا في نظر هذا الجيل لا نزال نخجل من إعلان كل شيء. من المفاتحة بكل شيء، أي أنه لا يزال لدينا شيء من الاحترام لما سبقنا، أوان معركتنا معه لم ينته بعد، بل لا نزال في الميدان. بالنسبة لإسكندر وجيله كانت المعركة انتهت ونحن حينذاك فوق ركامها، لذا لم يكن هناك بد من أن نعلن نصرنا، أو في الأقل انتهاء المعركة. كنّا لا نزال في حرج من أنفسنا ولا نثق بنصرنا أو ما كنّا على يقين منه؛ فقد خضنا معركته بكثير من القلق وبجرأة أتعبتنا ولم نملكها إلّا بشق النفس، فقد كنّا بمواجهة تاريخ كامل؛ بمواجهة عظمة لن نجسر عليها إلّا بمجازفة كبيرة، لم نبالِ فيها بإلقاء أنفسنا للتهلكة؛ ونحن لا نزال وسط القتال ولا نعرف له نهاية.
إسكندر ورفاقه جسروا بدون همّ كبير على إعلان النهاية. لقد انتصرنا في حسبانهم وجاؤوا بعد ذلك ليحتفلوا بالنصر. فعلوا ذلك بيسر وخفة؛ بل وبفكاهة وهزء أو سخرية. أصدر إسكندر ومعه الشاعر شبيب الأمين نشرة بالستانسل يومذاك، أطلقا عليها اسم “ميكروب”. الاسم وحده يكفي لتبيان الفحوى. لم نكن من أهل النشرة ولا بين محرّريها، لكنها مع ذلك كانت من ذيول معركة لا نزال في حماها. لا نزال نعتبرها قائمة وأن هناك ما أمامها، وأنّ “ميكروب” مع ذلك، وإن لم نكن فيها، هي مع ذلك من لواحقها ومن تظاهراتها، فالمعركة أوسع منا ولها بطبيعة الحال واقعاتها ونواحيها و”ميكروب” من بينها.
التحق إسكندر بالسفير الجريدة التي كان في صفحتها الثقافية، إلياس خوري وحسن داوود ويسري نصر الله ومحمد سويد، وبين محرّريها جوزيف سماحة وحازم صاغية وجهاد الزين. ما يعني أنها كانت جريدة مرحلة بالمعنى اللبناني والعربي. إذ عبّرت الجريدة، من حيث أرادت أو لم ترد، عن حلقة أخرى في تاريخ البلد كانت مفتوحة لجديد الأدب العربي قصة وشعراً ونقداً. كنت وإسكندر في أسرتها، من هناك تابع إسكندر الحائز على ليسانس في الأدب الفرنسي مسيرته شاعراً ومترجماً، أحسب أنه كان يعد لرواية لا أدري إذا أتمّها.
كان مفاجئاً لي أن أعلم بعد أن توقفت السفير، ولم يعد لقاؤنا يومياً، أنه أصيب بسرطان في الرئة، وحين التقينا بعد حين في مضافة صديقة صارحني بأن وضعه خطر، وأن السرطان يتفشى في جسده. قال ذلك من دون أن يتباكى وبدرجة من الاعتياد، وكأنّه لا يتكلم عن نفسه. بعد ذلك كنت أفهم أنه ينشط، وأكثر من السابق، وأنه يترجم ويؤلّف ويتنقل بوفرة. وأنه الآن موجود في مجالات عدّة. بل هو تقريباً في فورة نشاط. حضرت له في منتدى خيرات الزين في بيروت أمسية قرأ فيها نصوصاً عن نفسه. كان فيها ثابتاً في مواجهة قدره. كان هكذا يجعل من مرضه آخر له وشخصاً ثانياً. من أيام قيل لي إنّ حاله ساءت كثيراً فلم أنتبه كثيراً. كنت لا أزال أحسب أنه، بطريقة ما، غلَب مرضه فقد عاينته غير مرة وهو يقفز ناجياً منه.
لكن إسكندر الآن لم يثبت. صرَعه المرض. إنها عقود من الرفقة؛ تاريخ مشترك من الزمالة في الشعر والصحافة ولقاء يومي عاماً بعد عام. لم أكن التقيت إسكندر من وقت لكنّني كنت عنده بقدر ما أنا عند نفسي؛ رحَل جوزيف سماحة وعناية جابر وإلياس خوري، وطلال سلمان، والآن إسكندر حبش. إنه زمن السفير، زمننا يقارب النفاد. لنقل إنّنا جميعاً، جيلنا وجيل إسكندر، وربما الجيل الذي يليه ننتمي إلى عالم غارب، وإنّ هناك ما بعدنا؛ عالم آتٍ لا نعرف ماذا يستحق، لكننا بإزائه نكاد نغيب عن أنفسنا.
عن العربي الجديد
اقرأ ايضا
اسكندر حبش”غادرنا على عجل”
محمد ناصر الدين«أتذكر رغبةً/ تركها رجل/ حين أضاع ذراعيه القديمتين/ قولي أيتها الجميلة/ أتكفي حياة …