رياض فخري البياتي
بعد انقلاب 29 تشرين الأول 1936م، اصبح بكر صدقي رجل الدولة الأول الذي خضع لإرادته جميع المسؤولين بما فيهم الملك غازي، واخذ رجال السياسية يتهافتون عليه في مقره، في محاولة لكسب وده, وقد كان ينتهز مثل تلك الفرص ليوضح سياسة حكومة الانقلاب الداخلية والخارجية، فيما اصبح رئيس الحكومة حكمت سليمان تابعاً له في حين أنكمش الملك غازي على نفسه في البلاط.
مارس بكر صدقي سياسة داخلية اتسمت بالعنف ضد الساسة والشخصيات المهمة التي عدها خصوماً يخشاهم، او يمكن ان يشكلوا خطراً على مستقبله السياسي، ولاسيما الذين عدهم اتباعاً لياسين الهاشمي وحكومته، فقام بمصادرة الحريات ومطاردة الوطنيين حتى شملت رؤساء العشائر و الوجوه الاجتماعية المتنفذة، والتي يمكن تناولها كالآتي:
أ- اتجهت أنظار بكر صدقي الى تصفية محمد يونس السبعاوي، أحد أنصار الكتلة القومية العربية، من اتباع ياسين الهاشمي، اذ كان يونس السبعاوي أحد أعضاء حزب الإخاء الوطني(4) الذي تزعمه ياسين الهاشمي, وترأس تحرير جريدة (الإخاء العربي), وقد كان يمتلك ثقافة عالية في المجالات السياسية والاجتماعية أهلته للعمل في تحرير العديد من الصحف اليومية، وانتخب نائباً في المجلس النيابي قبل شهر من حدوث انقلاب 29 تشرين الأول 1936م بقيادة بكر صدقي.
اتخذ يونس السبعاوي موقفاً معادياً من انقلاب بكر صدقي، تمثل ذلك الموقف بعقد الاجتماعات وربط الحلقات بين ضباط الكتلة القومية, وعدد من السياسيين بقصد التعاون للقيام بعمل يستهدف مواجهة حكومة حكمت سليمان، وقيام معارضة قومية بمساندة قوات الجيش.
وبطبيعة الحال لم تكن السلطات الحكومية غافلة عن نشاطات يونس السبعاوي المعادية لحكومة الانقلاب, ولاسيما أن الحكومة تعلم بعلاقاته الوثيقة بالضباط القوميين، مما جعل يونس السبعاوي احد المراقبين الذين تترصد الحكومة حركاتهم وتكتلاتهم وأصبحت أقواله وتحركاته تصل إلى حكمت سليمان وبكر صدقي بانتظام, مما دفعها الى محاولة التخلص من يونس السبعاوي أسوةً ببقية المعارضين، وحين سمع المقدم صفوت سعيد احد أعوان بكر صدقي، الذي كانت تربطه علاقة صداقة بيونس السبعاوي اتصل المذكور بيونس السبعاوي، ونصحه بالسفر الى خارج العراق تخلصاً من نقمة بكر صدقي عليه ومخافة أن يتعرض منه إلى انتقام شديد, استجاب يونس السبعاوي لنصيحة صديقه صفوت سعيد وغادر العراق الى لبنان.
ب- اغتيال عبد الله باش عالم يوم 16 شباط 1937، وظهرت شائعة أفادت ان مقتله كان بتحريض من اعوان بكر صدقي حين حرضوا عليه احد الفلاحين الحاقدين عليه بسبب كونه احد المعارضين لانقلاب بكر صدقي، وكان عبد الله باش عالم كثير الانتقاد لسياسة بكـر صدقي واعماله واكتنـف اغتياله غموض تام، اذ لم يعرف الشخص الذي قام بقتله.
ج- اغتيال علي رضا العسكري يوم 22 اذار 1937، وراجت على اثر مقتله شائعات افادت انه قد مات منتحراً، الا ان بعض الروايات اشارت الى ان عليا رضا العسكري قد تاثر كثيراً لمقتل اخيه جعفر العسكري, واقسم ان ينتقم لاخيه من قاتليه وعلى راسهم بكر صدقي, وحين وصل ذلك الى اسماع بكر صدقي ارسل بكر صدقي الى جماعة من اعوانه (اسماعيل توحله, و جميل جمال), وامرهم بقتل علي رضا العسكري، وقد أعلنوا بعد اغتيالهم له انه مات منتحراً.
وطرحت تساؤلات كثيرة عن حقيقة انتحار علي رضا العسكري حول كونه انتحر فعلاً ام قتل بأيدي فاعليه؟.
وأشارت الروايات انه في يوم 22 آذار 1937م كان علي رضا العسكري وحده في داره بعد ان خرج جميع أفراد عائلته خارج الدار في ذلك اليوم فزاره جماعة من الأشخاص ممن لديهم علاقة عمل به تتعلق بمعمل النجارة الذي يملكه، إذ طلب إليهم انتظاره في مكان العمل، لحين قيامه بحلاقة وجهه وارتداء ملابسه لكنه قبل أن يكمل حلاقة وجهه خر صريعاً يتخبط بدمه، وقد وضعت جثته على سطح الدار.
هنالك تساؤلات عدة حول الأسباب التي دفعت علي رضا العسكري إلى الانتحار وبخاصة انه لديه مصدر جيد للمعيشة المتمثل بامتلاكه لمعمل نجارة، جعله بعيداً عن العوز المادي، وما الدافع لقيامه بحلاقة وجهه طالما سيقدم على الانتحار؟، وما الذي حمله على الانتحار على سطح الدار؟.
ويتضح من ذلك أن عملية اغتيال علي رضا العسكري اقرب إلى المنطق من قيامه بالانتحار،وبالتالي فان أصابع الاتهام تشير إلى ضلوع بكرصدقي,وأعوانه في عملية الاغتيال.
د- اغتيال عبد القادر السنوي: بتاريخ 26 اذار 1937، اذ صادف ان عرض على مجلس الانضباط العام الذي كان عبد القادر السنوي عضواً فيه قضية تقاعدية لمحمود جودت، احد الأشخاص المقربين من بكر صدقي، وحين وجه عبد القادر السنوي أسئلة قانونية إلى محمود جودت تتعلق براتبه التقاعدي،امتعض الأخير من تلك الأسئلة وتهجم على عبد القادر السنوي وبقية أعضاء المجلس المذكور, ثم طلب محمود جودت تأجيل النظر في قضيته. على الرغم من تدخل بكر صدقي لصالح محمود جودت، إذ طلب بكر صدقي من عبد القادر السنوي أن لا يزعج الناس بتطبيق القانون حرفياً، وان لا يتشدد في قضية تقاعد محمود جودت, إلا أن عبد القادر السنوي أصر على تطبيق أحكام القانون. قام محمود جودت يوم 26 اذار 1937م باطلاق عيارات نارية صوب عبد القادر السنوي فارداه قتيلاً، وذلك حين نزل عبد القادر السنوي من سلم وزارة المالية.
حكم على الجاني محمود جودت بالإعدام وفق المادة (214) من قانون العقوبات البغدادي(3)، وسبب ذلك الحكم موجة من الاستغراب والاحتجاج لدى الاكراد, وادعى اخوته بانه مصاب بالجنون, وعلى اثر ذلك تم تمييز الحكم في محكمة تمييز العراق، وبتأثير من حكمت سليمان وبكر صدقي على قرارات المحكمة وضع محمود جودت تحت المشاهدة والرقابة الصحية للوقوف على حقيقة ادعاءات اخوته.
قدم الجاني محمود جودت الى المحاكمة من جديد، واصدرت المحكمة حكماً بالاعدام عليه يوم 21 ايلول 1937م، ونفذ حكم الاعدام عليه يوم 20 تشرين الثاني من العام نفسه. ومن خلال تناول مجريات تلك القضية، يتضح مدى تأثير حكمت سليمان وبكر صدقي على وقائع المحكمة، مما قد يرجح كون عملية القتل المذكورة جرت بموافقة بكر صدقي.
عن رسالة (ظاهرة الاغتيالات السياسية في العهد الملكي)
اقرأ ايضا
الرحالة البريطاني جاكسون عام 1797.. بين البصرة وبغداد
حكيم عنكرتلقي الرحلة التي قام بها الرحالة البريطاني جون جاكسون إلى العراق، ضمن مسار طويل لرحلة أشمل انطلقت من …