فايزة هنداوي
روبرت دي نيرو هو المثال الحي للممثل الذي لا يرضى بأقل من التماهي التام مع الشخصية التي يؤديها. وهو ما ظهر جليا منذ استعداده لدوره الشهير في فيلم سائق التاكسي، إذ حصل على رخصة حقيقية لقيادة سيارات الأجرة، وعمل بالفعل سائقًا لبعض الوقت، فقط ليعيش تفاصيل الشخصية من الداخل، ويمنحها صدقًا ينعكس على الشاشة. ولم تكن هذه الجائزة الوحيدة في رصيده، فقد نال دي نيرو عشرات الجوائز الكبرى، منها جائزة أوسكار أخرى كممثل مساعد عن أدائه في الجزء الثاني من فيلم “العراب” 1974، كما رُشِّح لنيل الجائزة سبع مرات أخرى عن أدواره المتنوعة، من بينها: “سائق التاكسي”، و”صائد الغزلان”، وغيرها وصولا إلى فيلم “قتلة زهرة القمر”.
الشراكة الذهبية مع سكورسيزي
بدأت علاقة دي نيرو مع المخرج مارتن سكورسيزي في فيلم “شوارع متوسطة” (1973)، ومنذ ذلك الحين، شكّلا ثنائيًا فنيًا قدّم للسينما أعمالًا خالدة، فعندما قررسكورسيزي عام 1976 أن يقدم فيلمًا عن العزلة، والجنون، والانفجار الكامن في أعماق إنسان المدينة، في فيلم “سائق التاكسي”، لم يجد أفضل من روبرت دي نيرو ليجسّد شخصية ترافيس بيكل سائق التاكسي المنعزل الذي يتحول من مراقب صامت إلى آلة للعنف، ليقدم دي نيرو رحلة نفسية عميقة، حيث اندمج مع الشخصية، من خلال تحول جسدي ونفسي جعل الشخصية رمزًا للعزلة والجنون في السينما، حيث كان انعكاسًا لما بعد صدمة فيتنام، ولحالة الانفصال بين الفرد والمجتمع في أمريكا السبعينيات.
أما في “الثور الهائج” (1980)، فقدّم أداءً جسديًا ونفسيًا مذهلًا في دور الملاكم جيك لاموتا، يُعد هذا الفيلم ذروة التحدي الجسدي والتمثيلي في مسيرته، تجاوز دي نيرو في هذا الدور فكرة التقمص، ليعيد تشكيل جسده بالكامل، ويُظهر الشخصية ككائن ممزق بين العنف الخارجي والانهيار الداخلي. هذا الأداء رسّخ فكرة “التحول الكامل” كأداة تعبيرية وليس مجرد استعراض.
توالى التعاون بين سكورسيزي ودي نيرو، في أفلام مثل “ملك الكوميديا” (1982)، حيث قدّم شخصية روبرت بوبكين، الكوميدي المهووس بالشهرة، و”الأصدقاء الطيبون” (1990)، الذي استعرض فيه عالم الجريمة المنظمة. وفي “كازينو” (1995)، قدّم دور سام آيس روثستين، مدير الكازينو الذي يتورط في صراعات المافيا. أخيرًا، في “الأيرلندي” (2019)، عاد دي نيرو مع سكورسيزي لتقديم ملحمة عن الجريمة والندم والشيخوخة.
وأهم ما يميز تعاون دي نيرو وسكورسيزي هو أنه لم يكن تمجيدًا للبطولة، بل تفكيكًا لها، في معظم أفلامهما، لا يلعب دي نيرو دور البطل المثالي، بل الرجل المعقّد، المتناقض، التائه بين النُبل والخيانة، بين الحب والسيطرة، بين العنف والندم، ليعيدا بناء صورة الرجل الأمريكي الحديث، لا كرمز للقوة فقط، بل ككائن هشّ، عالق في دوامة من الطموحات المحطمة والماضي الثقيل.
من كوبولا إلى تود فيليبس
ورغم أن الشراكة بين روبرت دي نيرو ومارتن سكورسيزي تُعد واحدة من أنجح الثنائيات في تاريخ السينما، فإن مسيرة دي نيرو امتدت لتشمل تعاونا بارزا مع مجموعة من أهم مخرجي العالم، قدّم خلالها أدوارًا متنوعة كشفت عن مدى عمق موهبته وتعدّد وجوهه التمثيلية.
في عام 1974، تألق دي نيرو في الجزء الثاني من فيلم “العرّاب” للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، مجسدًا شخصية فيتو كورليوني الشاب، التي سبق أن لعبها مارلون براندو في الجزء الأول. بتعبيرات صامتة وملامح تنطق بالقوة والتاريخ، قدّم دي نيرو شخصية تعكس تحوّلات اجتماعية كبرى مرتبطة بالهجرة والاندماج في مجتمع جديد، حتى وإن كانت تلك الرحلة محاطة بعالم الجريمة المنظمة، هذا الدور شكّل نقطة تحوّل فنية هامة في مسيرته، وأبرز قدرته على تقديم أداء صامت وعميق.
وفي تجربة هامة، لعب دي نيرو دور مايك في فيلم “صائد الغزلان” 1978 للمخرج مايكل تشيمينو، الذي تناول أثر حرب فيتنام على الجنود الأمريكيين. قدّم دي نيرو شخصية عامل بسيط يتحوّل إلى جندي يعيش أهوال الحرب، في أداء رشحه لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل.
وفي عام 1984، تعاون دي نيرو مع المخرج الإيطالي الكبير سيرجيو ليوني في فيلم “حدث ذات مرة في أمريكا”، وهو من أبرز أفلام الجريمة الملحمية في تاريخ السينما العالمية. أدّى دي نيرو دور نودلز، الفتى اليهودي الذي نشأ في أحياء نيويورك الفقيرة، ودخل عالم العصابات مع أصدقائه منذ الطفولة، في رحلة طويلة مليئة بالصداقة والخيانة والندم. أظهر دي نيرو في هذا العمل أداءً عميقًا وناضجًا، متنقلاً بين مراحل عمرية مختلفة للشخصية، وسط سرد غير تقليدي يعتمد على الاسترجاع الزمني والمونتاج المتقن، هذا الدور هو أحد أعظم أدواره، إذ قدم فيه شخصية تتسم بالصمت الكثيف والمشاعر الدفينة، في عمل ما زال يُصنف حتى اليوم كتحفة سينمائية خالدة.
أما مع المخرج براين دي بالما، فقد شارك دي نيرو في عدة أعمال لافتة، أبرزها فيلم “العصابات لا تُمس” 1987 الذي أدى فيه دور آل كابوني، زعيم المافيا الشهير، مقدّمًا أداءً صلبًا ومهيبًا أضاف إلى رصيده الثقيل من الأدوار الإجرامية المعقدة. وكان قد شارك مع دي بالما أيضًا في فيلم “مرحبًا أمي” 1986، حيث فاجأ الجمهور بأداء كوميدي خفيف ومختلف. وفي فيلم “الحرارة” 1995 للمخرج مايكل مان، قدّم شخصية نيل ماكنولي، اللص المحترف الذي يخطط لعملية سرقة أخيرة، بتوازن دقيق بين البرود العاطفي والذكاء التكتيكي، ما جعل الفيلم أحد أهم أعمال الجريمة في التسعينيات.
وفي فيلم “الهوية” 2003 للمخرج جيمس مانغولد، قدّم دي نيرو دور الطبيب النفسي مالكولم ريفرز، الذي يحاول كشف لغز سلسلة جرائم غامضة، في أداء متوتر ومعقّد أظهر فيه قدرته على الغوص في دهاليز النفس البشرية.
في عام 2019، عاد دي نيرو إلى أجواء الأعمال النفسية المعقدة من خلال تعاونه مع المخرج تود فيليبس في فيلم “جوكر”، أدّى دور موراي فرانكلن، مقدم البرامج التلفزيونية الشهير، الذي يسخر من شخصية آرثر فليك على الهواء، ويدفعه نحو الانهيار والتحول إلى رمز للعنف والفوضى.
دي نيرو في صف الناس
بعيدًا عن الكاميرات والأدوار التي يؤديها بإتقان، برز روبرت دي نيرو في السنوات الأخيرة كأحد أبرز الأصوات الجريئة في المشهد السياسي الأمريكي، لا سيما في موقفه الواضح والصريح من الرئيس دونالد ترامب، وانتقاده الحاد لسياسات اليمين المتطرف، مؤكدًا أن الفنان لا يمكن أن يكون حياديًا أمام القضايا الكبرى، ولا ينبغي له أن يبقى متفرجًا صامتًا في مواجهة الظلم.
دي نيرو تجاوز حدود التلميح أو التعبير الضمني، وتصدّى لترامب، واصفًا إياه بأنه “خطر مباشر يهدد الديمقراطية الأمريكية”.
هذا الموقف عبّر عن قناعة راسخة لدى دي نيرو بأن الفن لا يجب أن يكون محايدًا حين يتعلق الأمر بالعدالة والكرامة الإنسانية، لذلك، شارك في عدد كبير من الحملات المناهضة للعنصرية، ودافع علنًا عن حقوق اللاجئين والمهاجرين، ورفع صوته مطالبًا بسياسات أكثر عدلًا وإنصافًا وشمولية.
وفي كلمته خلال تكريمه الأخير في مهرجان كان، قال: “في بلدي، نناضل بشراسة من أجل الديمقراطية التي كنا نعتبرها أمرًا مسلّمًا به، وهذا يؤثر علينا جميعًا هنا، لأن الفن هو بوتقة التقاء الناس، كما حدث الليلة، الفن يبحث عن الحقيقة، والفن يحتضن التنوع. لهذا السبب يُشكل الفن تهديدًا. ولهذا السبب نشكّل تهديدًا للمستبدين والفاشيين”.
دي نيرو رغم ما بلغه من شهرة عالمية وثروات ضخمة، ظل وفيًا للسينما المستقلة، ذاك التيار الفني الذي كثيرًا ما يُهمّش ويُحرم من التمويل والدعم، لكنه غالبًا ما يكون الأصدق في التعبير عن القضايا الجوهرية في المجتمع.
وامتد تأثير دي نيرو ليشكل وعي أجيال من الممثلين حول العالم، فالعديد من أبرز نجوم السينما اليوم، أمثال ليوناردو دي كابريو، خواكين فينيكس، وكريستيان بيل، يرون فيه مصدر إلهام يمثل مدرسة الأداء القائمة على الصدق الداخلي، والتجرد من القوالب الجاهزة، كما أنه أعاد تعريف العلاقة بين الفنان ودوره، وأرسى قواعد أداء تقوم على الغوص في أعماق النفس البشرية، وتقديم شخصيات معقدة ومتناقضة تحاكي الواقع، لذلك فإن تكريمه في “كان” هو رسالة للأجيال الجديدة بأن الفن الحقيقي لا يهرم، وأن الالتزام بالصدق الإبداعي هو ما يمنح العمل الفني حياته وخلوده.
· عن القدس العربي
اقرأ ايضا
روبرت دي نيرو: أُفضّل السينما على المسرح
عبر العقود الأربعة الماضية، تعرّفنا على العديد من الشخصيات التي مثلها روبرت دي نيرو في …