علي حسين
يصعد روبرت دي نيرو إلى المنصة لتسلم جائزة السعفة الذهبية الفخرية لمهرجان كان. يعانق ليوناردو دي كابريو، الذي قال أن دي نيرو غير حياته عندما ساعده في الحصول على مكانته السينمائية.. ورغم أن الحفل كان رسميا، إلا أن دي كابريو ظل ينادي دي نيرو بلقب “بوب”، وهو اللقب الذي أيطلقه عليه أقرب المقربين. قال دي كابريو: “هذه هي طبيعة بوب. لا يتكلم كثيرا، ولكن عندما يتكلم، يكون له أثره. سواء كان ذلك لأصدقائه أو عائلته أو للدفاع عن ديمقراطيتنا أو لدعم فن صناعة الأفلام، فإنه يظهر دائمًا.”
اعترف دي كابريو بتاثير روبرت دي نيرو عليه: ” في بداياتي عندما شاهدت أفلام دي نيرو الأولى، ابهرني فيها هدوءه ودقة تفسيره للشخصيات. أحيانًا، تكون المشاهد التي لا توصف بالكلمات هي الأقوى”.
يتجه روبرت دي نيرو إلى الميكروفون، يحتفل بمهرجان كان باعتباره ملاذا للفن، وديمقراطيا، وشاملا، وبالتالي تهديدا للمستبدين والفاشيين. ينظر الى القاعة التي وقفت لدقائق احتراماً له تفيض عيناه بالدموع. “أجل، لقد أصبحتُ عاطفيا”، قال للصحفيين: ” كيف لي ألا أكون كذلك؟”.
عندما نفكر في أدوار دي نيرو الرئيسية، فمن المرجح أن نتخيله خلف عجلة قيادة سيارة أجرة، أو يحمل مضرب بيسبول في دور آل كابوني المتمرد، أو يقفز على المسرح في دور روبرت بابكين المُتملق. يكره دي نيرو الرئيس دونالد ترامب ويرثي لحال أمريكا التي عرفها يومًا ما. يقول: “علينا أن نوقف ما يحدث، إنه جنون. لا يمكننا أن نتحمل اللامبالاة والصمت. عليك أن تتحدث وتخاطر بالتعرض للمضايقة”.
سنوات، كان دي نيرو من أشد منتقدي ترامب. ومن المرجح جدًا أن يتعرض هو نفسه لبعض المضايقات قال. “انا كبير في السن على كل هذا. الرجل خطير – يقصد ترامب -، ولا يمكنك السماح للرجال الخطرين بالسيطرة عليم. إذا جاء لأخذ مصروف غدائك يوم الاثنين، فسيطلب المزيد يوم الثلاثاء. عليك أن تنهض وتقاوم “
فكرة التكريم في المهرجانات تثير قلقه: ” “ما زلت لا أرى نفسي عظيما”، يقول ساخرا. “عندما تعود إلى المنزل وتتحدث إلى شريكة حياتك، صدقني، أنت لست عظيمً.”
كان يتمنى التمثيل منذ أن كان في العاشرة من عمره،. يتذكر ذهابه مع والده إلى احدى دور لمشاهدة فيلم جان كوكتو ” الجميلة والوحش عام 1946، وشعوره بأن العالم ينفتح من حوله. كان والده فنانًا ووالدته أيضا، لكنه كان بحاجة إلى إيجاد أسلوبه الخاص في التعبير. لذلك انغمس في أدواره التمثيلية لدرجة أنه أصبح من الصعب التعرف عليه، يتنقل كالحرباء من فيلم إلى آخر مع الحفاظ على حقيقته بإحكام. قال الممثل والمغني ومنج الافلام بيلي بوب ثورنتون ذات مرة: “مع أي ممثل آخر، أعرف كيف سيكونون في الحياة الواقعية، لكن مع دي نيرو ليس لدي أي فكرة على الإطلاق”.
ينظر دي نيرو الى صورته المعلقة على احد الجدران وهو يقوم بدور ترافيس بيكل، بطل فيلم “سائق التاكسي”. إنها صورة من الماضي: نحيف، براس محلوق من جانبيه، وصدر عاري. الصورة تتركه في حيرة من أمره. سيبلغ من العمر 82 عامًا في شهر ىب المقبل، وهو في أوج عطائه.. يقول دي نيرو: “من المضحك أن تتقدم في السن. إنها مغامرة جديدة تمامًا وتتطلب بعض الوقت للتعود عليها.. الأمور تتغير، هذا أمر مؤكد. إذا كنت تنزل درجين، يأتي إليك الناس لمساعدتك. أدركت الآن، وقد كبرت، أن الناس ينظرون إليّ بشكل مختلف بعض الشيء. لكنني كبير في السن، وقد يكون الأمر أسوأ. أشعر أنني بحالة جيدة جدًا. أتحكم في نفسي جسديا. آمل أن يدوم هذا إلى الأبد”. يبتسم ابتسامة خفيفة ويقوا: “لكنني أعلم أن هذا لن يحدث”.
في سائق التاكسي نشاهد ترافيس بيكل الانسان المُضطرب للغاية، سائق سيارة أجرةٍ يُعاني من ازدراءٍ مُستمرٍّ للمجتمع،. إنه انسان “لن يتحمّل الأمر بعد الآن”، شخصيةٌ تزحف تحت الجلد – ودي نيرو يزحف بلا شك تحت جلد بيكل، مُضفيًا على شخصيةٍ التي تعكس الجانب المُظلم من نيويورك في السبعينيات، روحًا مُتغطرسة. قاد دي نيرو قبل تمثيله الفيلم سيارة أجرةٍ في نيويوركلمدة اسابيع للتحضير للدور، فهو مُقنعٌ وغنيٌّ بالطبقات: حزينٌ بقدر ما هو مُخيف، كاريزميٌ بقدر ما هو مُخيف، مُتعاطفٌ ومُختلّ عقليًا في نفس الوقت.
وُلِد روبرت أنتوني دي نيرو الابن في 17 آب عام 1943 في حي مانهاتن بمدينة نيويورك، وهو الطفل الوحيد للرسامين روبرت أنتوني دي نيرو وزوجته فيرجينيا أدميرال. هاجر أجداده عام 1887 من بلدة ايطالية. انفصل والدا دي نيرو عندما كان في الثانية من عمره، وربته والدته. ترك المدرسة الثانوية عندما بلغ السادسة عشرة من عمره ليتجه إلى التمثيل. درس التمثيل في نيويورك. انتقل روبرت الأب إلى أوروبا. باعت والدته، لوحةً لمتحف الفن الحديث وهي لا تزال في العشرينيات من عمرها. كتبت أيضًا روايات ايروتيكية لعدد من المجلات. بعد ان لاحظت ان ابنها البالغ من العمر عشر سنوات، والذي كان خجولًا للغاية، مولعاً بالتمثيل،، ادخلته في ورشة الدراما، كان مارلون براندو قد درس فيها من قبل.
يقول أن حشرة الفن التي اصابت والديه اصابته ايضاً، كان مجرد الجلوس في صالة سينما مظلمة بالنسبة اليه أشبه بالفضل الاول من تجربة سينمائية؛ ويكتمل الفضل الثاني عند عودته إلى المنزل ليعيد تمثيل كل ما شاهده لأمه. في بداية مسيرته المهنية، اعتاد دي نيرو أن يعلن لمديري اختيار الممثلين “أنا بوب دي نيرو، وأنا متأكد من أنكم سمعتم عن والدي”، ثم يُريهم رسومات والده. وحتى هذا اليوم، لا يزال يحتفظ باستوديو والده في ويست برودواي، كما تركه الرجل العجوز عند وفاته عام 1993. وعندما سُئل عما إذا كان قد ورث عين والديه الفنية، يقول مبتسما: “قد يكون. قد يكون. ” ثم يضيف ان ذكر والدي يُضيء حياتي “.
عمل دي نيرو مع بعض من أشهر مخرجي السينما، لكن أفلامه مع سكورسيزي هي التي اكتسب بفضلها دي نيرو شهرةً من خىل تصويره المتقن لشخصيات مظلمة وغير جذابة.. اشتهر بتحضيره المكثف للأدوار، في مدارس التمثيل، يُقال إن وجدتَ كلمةً تُعرّف ما تفعله، وما هو فعلك، وما يعنيه لك، فأضفِ عليه طابعك الشخصي يقول: ” أحيانًا، أصل إلى الشخصية من خلال بعض الملابس التي أرتديها أو بعض السلوكيات التي ألتقطها والتي تبدو مناسبةً لها. يُمكنني استخدامها. وستكون هناك أشياء أخرى ربما لا أفعلها. إنها مسالة غريزية..، تريد أن تقترب من الشخصية قدر الإمكان وأن تتعلم عنها قدر الإمكان. عليك ان تبحث،، سواء كنتَ المخرج أو غير ذلك. في حالتي، أحاول معرفة أكبر قدر ممكن قبل أن أتخذ قرارا بشأن اختياراتي للشخصية. إذا استطعتُ، فسأُجَرِّدُ القصةَ إلى عناصرها الأساسية، كاشفًا عن حالاتٍ من الوجود، لا حتى عن حالاتٍ ذهنية. لا تريد أن تبدو وكأنك تحاول شرح سلوك أي شخصٍ في عمليتك، بل تريد جذب الجمهور إليها، وجعله يستوعب كل عنصرٍ من عناصر الشخصية ” ويضيف: ” في التمثيل، حاول دائما العودة إلى ما سيكون عليه الوضع الحقيقي، إلى السلوك الإنساني الحقيقي في الحياة. دائما ما أقول للممثلين عند ذهابهم إلى تجارب الأداء: (لا تخشَ فعل ما تُمليه عليك غرائزك). قد لا تحصل على الدور، لكن الناس سيلاحظون ذلك. استمر ولا تيأس. إذا أحببت ما تفعله، فقد تستمتع به كما هو. استمر فقط. ربما يوما ما تكسب رزقك منه. إنه دخل متواضع، لكنك قادر على فعل ما تستمتع به وإبداع ما تستمتع بإبداعه. كن شخصًا يفهم معنى الإبداع المميز، وليس فقط ما يمكنك الحصول عليه منه. هذا أفضل ما يمكنك الحصول عليه “.
يصف الإيقاع داخلي للشخصية، بانه مثل نبضات القلب، وان الممثل بمجرد أن يضبط إيقاعه، فإن كل شيء آخر – الخلفية الدرامية، والتعقيد النفسي، والدافع – يصبح في مكانه الصحيح. فإتقان إيقاع الشخصية يُمكّن الممثل من التحرر من قيود النص.
يصفه الذين عملوا معه بانه يُجهّز ويُجهّز ويُجهّز، ثم يُلقي بكل شيء جانبا: ” لقد تعلمتُ ألا أقلق.. أحب أن أترك الأمور تجري على طبيعتها”.
ما يجعل روبرت دي نيرو استثنائيًا هو اهتمامه المذهل بالتفاصيل. لا توجد فيه أيُّ نبرةٍ زائفة، ولا أيُّ تفصيلٍ مُبالغٍ فيه. نظرةٌ بسيطة، أو لهجةٌ مُحددة، أو تمسكه الشديد بالشخصيات التي يُجسّدها، يأخذها من مجرد شخصية عادية إلى كائن بشري حي، قابل للتفاعل، مع عيوبه، وإنسانيته. يرتبط الجمهور بهذه الشخصية، بنقاط ضعفها وبيئاتهاالاجتماعية والسياسية.
اقرأ ايضا
روبرت دي نيرو: أُفضّل السينما على المسرح
عبر العقود الأربعة الماضية، تعرّفنا على العديد من الشخصيات التي مثلها روبرت دي نيرو في …