الرجب ومكتبة المثنى ببغداد ودورها الفكري الرائد

رفعة عبد الرزاق محمد
كتب احد الادباء العراقيين: لو انصف العراقيون تاريخهم الفكري، لأقاموا تماثيل ثلاثة رواد عراقيين، وهم الزهاوي الشاعر الفيلسوف لادخاله الأفكار الحديثة الى العقل العراقي، ورفائيل بطي رائد الصحافة الحديثة، وقاسم محمد الرجب الذي جعل مطبوعات الخافقين في متناول العراقيين.
ولعل الكاتب والصحافي مشكور الاسدي بما كتبه اراد من وضعه اسم قاسم الرجب في طليعة الاسماء الرائدة لليقظة الفكرية في العراق الحديث، لأدراكه العميق بما قدمته مكتبة المثنى ببغداد من خدمات جليلة للحركة الثقافة، والجهود الكبيرة التي بذلها صاحبها في تذليل الصعوبات امام تجارة الطبوعات مما دفع خير الدين الزركلي الى ان يخلد اسم الرجب في موسوعته الذائعة (الاعلام).
ومن المفيد التذكير بان مشكور الاسدي الاديب العراقي المنسي، كان صحفياً ناجحاً ومراسلاً ادبياً للعديد من الصحف والمجلات العربية وقد اثنى الدكتور طه حسين على جهوده في احاديثه التي ذكرها صهره الدكتور الزيات في كتابه الماتع (ما بعد الايام).
أسماء أولى
ولم تكن تجارة الكتب في العراق، قبل ان يقبل قاسم محمد الرجب على تنظيمها، الا عملية تجارية صرفة تخضع لمتطلبات السوق، وقد ذكر الرجب في مذكراته المنشورة نماذج عديدة على ذلك فضلاً عن كونها تجارة غير رائجة لضعف المستوى الثقافي وتفشي الامية في مطلع القرن الماضي، وقد كان بيع الكتب يجري داخل المساجد ومدارس العلم، ولا نعلم عن باعة الكتب في القرن التاسع عشر الا النزر اليسير، حتى اذا أقبل القرن العشرون وبدأت الافكار الحديثة تدخل العراق بعد انبثاق الحركة الدستورية وبعض مظاهر الحريات العامة، بدأت عملية تجارة المطبوعات تأخذ مساراً متقدماً.
ومن الاسماء الاولى التي عملت في تجارة الكتب قبل ظهور المكتبات الشهيرة ببغداد، نذكر اسماء الكتبيين: عبد اللطيف ثنيان ومحمد رشيد السعدي وداود صليوا وعبد الامير الحيدري والملا خضر، ثم تأسست المكتبة العربية لصاحبها نعمان الاعظمي سنة 1908 وتلاها افتتاح المكتبة العصرية لصاحبها محمود حلمي قبل الحرب العالمية الاولى ثم ظهرت قائمة لكتبيين عراقيين، جديرة بالتنويه والتحقيق، ضمت فيما ضمت: شمس الدين الحيدري، محمد جواد حيدر، عبد الكريم زاهد، عبد الكريم خضر، حسين الفلفي، كاظم الحيدري، ابراهيم الكتبي وغيرهم غير ان اسم قاسم محمد الرجب الذي افتتح مكتبة صغيرة في سوق السراي سنة 1935، اخذ شهرة ذائعة في سنوات قليلة ليصبح الاسم الاول بين الكتبيين العرب، بله العراقيين.
ولد قاسم محمد الرجب العبيدي الاعظمي سنة 1917 في الاعظمية وبها ونشأ واكمل دراسته الابتدائية ولم يواصل الدراسة وتفرغ للعمل منذ يفاعته لمساعدة اسرته على مواجهة مشاق الحياة وعمل في مكتبه قريب له، وهو الكتبي العراقي الرائد نعمان الاعظمي صاحب المكتبة العربية ببغداد (1888-1953) وكانت هذه المكتبة اشهر دور الكتب ومنتدى لرجال الفكر والعلم والادب، كما يعد نعمان الاعظمي من اوائل الناشرين العراقيين ومن اشهر مطبوعاته (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، و(الحوادث الجامعة) الذي نسبه محققه مصطفى جواد الى ابن الفوطي ثم تراجع عنه فيما بعد.
وعلى الرغم من الفوائد الكبيرة التي جناها الرجب من عمله في هذه المكتبة اذ تعلم اسرار الكتبيين والناشرين، فقد عانى قاسم الرجب شظف العيش ومشاق الحياة، وقد قدم في مذكراته صورة طريفة لاستاذه نعمان الاعظمي ووسائله الطريفة في العمل الكتبي، غير ان المعية الرجب وعصاميته، وضحت منذ البداية، فقد برع في عمله وكسب خبرة واسعة في تجارة الكتب واحوالها.
مكتبة المثنى
وافتتح الرجب مكتبة صغيرة في وسط سوق السراي- سوق الكتبيين قبل انتقالتهم الى شارع المتنبي في منتصف الاربعينيات من القرن المنصرم- سماها (مكتبة المعري) سنة 1935، ثم غير اسمها الى (مكتبة المثنى) بعد ان نصحه صديقه عبد الستار القره غولي- وهو من رواد اليقظة الفكرية- ليحصل على تخويل توزيع مطبوعات نادي المثنى بن حارثة. وفي غضون سنوات قليلة نمت مكتبة المثنى واتصل صاحبها بدور النشر العربية الكبيرة، وتوسعت خبرته وذاع امره بين كبار الكتبيين بعد ان بز العراقيين منهم، فتراجعت المكتبات الكبيرة الاخرى امام نشاطه واخذت منشورات مكتبة المثنى- وقسم كبير منها يطبع في القاهرة وبيروت- تنتشر بصورة مدهشة ولسعة نشاطها، انتقلت الى بناية كبيرة في وسط شارع المتنبي في النصف الثاني من الخمسينيات، كما حصلت على حق توزيع الصحف والمجلات العربية بعد انتكاسة المكتبة العصرية وتعرض صاحبها الى ازمة مالية.وفي الاول من نيسان سنة 1974 توفي في بيروت قاسم محمد الرجب اثر نوبة قلبية مفاجئة، بعد مسيرة طويلة من العطاء والبذل. وبقيت مكتبة المثنى بعهدة انجاله على الرغم من السنوات العجاف التي المت بالثقافة العراقية في العهد الديكتاتوري وتراجع حركة الكتاب في العراق بعد تأسيس ما سمي بالدار الوطنية التي لعبت دوراً في ضعف الحركة الفكرية وضعف الحركة الكتبية في العراق.
كوركيس عواد مستشار المكتبة
في سنة 1935 م تعرف قاسم الرجب الى كوركيس عواد 1908- 1992 م كان عواد معلما في احدى مدارس الموصل، وكان قد درس في دار المعلمين في بغداد وتخرج في سنة 1927م، غير انه بقي يتردد على العاصمة، ويمضي الكثير من اوقاته في دير الكرمليين حيث ملتقى الاب انستاسي ماري الكرملي 1866 – 1947 م ويعرج على سوق السراي، حيث تقع المكتبات وباعة الكتب وفي احدى الزيارات تم التعارف بين الرجب وعواد وكانت تلك الفرصة بداية لصداقة حميمة امتدت طيلة عمري الرجلين، وكان لذلك التعارف اثره في تنمية الثقافة في العراق والوطن العربي وتشجيع ودعم الكتاب العربي وحفظ ورصد المخطوطات وغير ذلك.
بعد ربع قرن من ذلك اللقاء يذكر كوركيس عواد (الذخائر الشرقية – دار الغرب الاسلامي – بيروت – 1999 م ج3 ص 250-252) فيقول:
اني ما زلت اذكر ذلك الكتاب اول كتاب اقتنيته من تلك الملاقاة وهو “لب اللباب في تحرير الانساب، للسيوطي (طبعة لندن 1840م)، فكان حجر الاساس في اقتناء امهات الكتب العربية ونقاشها.
كانت تلك الملاقاة في مكتبته الاولى في سوق السراي، ولم تكن تلك المكتبة يوم ذلك الا دكانا صغيرا لا تتجاوز رقعته بضعة اشبار مربعة وكانت الكتب فيه قليلة محدودة، ولكنها الى ذلك تتسم بميسم الطرافة والنفاسة.
بعد نحو سنة ينتقل عواد الى بغداد يفضل ساطع الحصري 1880 – 1968 مدير الاثار العام ايامئذ فتشتد الصلة بين الاثنين.
كان (كوركيس عواد) منذ يفاعته مهتما بملاحقة الكتاب، مطبوعا ومخطوطا، وبتوجيه من (الكرملي) راسل مجموعة من المستشرقين ودور النشر الاستشراقية والمكتبات المعنية ببيع نوادر المطبوعات وكانت اجادته الانجليزية تتيح له مثل هذا التحرك.
لقد وضع (العواد) كل معلوماته وخبراته بين يدي (الرجب) وباختصار، كان خبيرا ومستشارا ومكتب سكرتارية لمكتبة المثنى، فكان يتولى مراسلاتها باللغة الانجليزية.
ولهذا فان المكتبة، على صغر حجمها – اكتسبت خلال فترة وجيزة سمعة عالية، بل عالمية.
حريق المثنى
وحاقت بالمكتبة نكبة جسيمة ففي صبيحة يوم الجمعة 20 آب 1999، شب حريق هائل في المكتبة اتى على كل شيء في المكتبة ولم يبق فيها ورقة صغيرة، ولم تعرف اسباب الحريق الى يومنا هذا، مع ان الدفاع المدني ذكر يومئذ ان الحريق وقع بفعل فاعل (!!) وبقي اسم الجاني مجهولاً بعد ان فقدنا مكتبة عامرة باقدم المطبوعات العربية وانفسها مما نشر في مغارب الارض ومشارقها.
ومما يضيف الى الاهمية التاريخية لمكتبة المثنى ببغداد، ما يلي:
1ــ بدأت المكتبة منذ اوائل الستينيات من القرن الماضي مشروعها الكبير بأحياء المطبوعات العربية النادرة وهذا المشروع من اهم المشاريع الثقافية التي اضطلعت بها جهات غير رسمية فقد نهدت المكتبة الى اعادة طبع نوادر الكتب العربية ونفائسها عن نسخها الاصلية بالاوفست لتيسيرها الى طلاب الثقافة والمعرفة ومن هذه النوادر، كتاب البدء والتاريخ لأبي زيد البلخي نسبة وهو لمطهر بن طاهر المقدسي، اعتنى بنشره المستشرق الفرنسي كليمان هوار بباريس سنة 1899 وتاريخ الحكماء للقفطي وقد طبع في ليبزك سنة 1904 وكتاب النقط والضبط لابن القيسراني وطبع في ليدن سنة 1865. وكتاب الأعتبار لاسامة بن منقذ، الذي حققه فيليب حتي وطبعه في نيويورك ومن الطريف ذكره ان قاسم الرجب ذكر في مذكراته ان نوري السعيد اقتنى الكثير من نسخ الكتب ووزعها بين اصدقائه كما يضمه الكتاب من تجارب انسانية ومشاهد تاريخية نادرة.
يقول الدكتور جليل العطية:
حدثني (ابو محمد قاسم الرجب) قال:
اثناء زيارتي الاولى لمصر صحبني (مشكور الاسدي) – الاديب العراقي – فتوجهنا الى جامعة القاهرة حيث حضرتا مناقشة رسالة (عبد الرحمن بدوي) لنيل الدكتوراه بقسم الفلسفة والتي طبعت لاحقا باسم (الزمان الوجودي).. ناقش الرسالة الدكتور طه حسين والمستشرق (بول كراوس) ومصطفى عبد الرزاق وحسن ابراهيم حسن.
القى (بدوي) خلاصة رسالته كانه يحفظها عن ظهر قلب، فلم يتلكا ولم يتعلثم. اضاف (الرجب) وهو يردد بعض عبارات الرسالة الفلسفية، الغامضة قائلا: ولم افهم منها شيئا..!
وفي سفرته المصرية وقع صاحب مكتبة المثنى على كنز دهش له، فلقد كانت الكتب المطبوعة في اوروبا قد انقطعت عن العراق بعد الحرب العالمية الثانية فاتصل بالقاضي احمد حسين – شقيق الدكتور طه حسين، فوجد عنده مجموعة من نفائس ما طبع في اوروبا وباسعار رخيصة فاشترى معظمها وشحنها مع ما اشتراه كله بالبريد اذ لم يكن شحن الكتب سهلا الا بالبريد. وكان (القاضي احمد) يريد التخلص من مكتبته بسبب شكواه من اخيه (طه حسين) الذي كثيرا ما ضايقه باستعارة ما يحتاج اليه هو واصدقاؤه وطلابه.
2ــ اصدار مجلة (المكتبة) سنتحدث عنها بعد قليل.
3ــ المجلس الادبي الكبير في الفرع الرئيسي للمكتبة في شارع المتنبي وقد حضره كبار الكتاب والادباء والعلماء والوجوه الشهيرة في المجتمع، وقد بقي هذا المجلس الى السنوات الاخيرة من حياة المكتبة.
4 ــ وكتب الرجب مذكراته ومشاهداته سماها (مذكراتي في سوق السراي) وهي صفحات مطوية وطريفة من تاريخ الفكر العراقي الحديث، نشر القسم الكبير منها في مجلته (المكتبة) وقد اعدت اخيراً للنشر، وسنقتبس بعد قليل بعضاً من هذه المذكرات.
مجلة المكتبة
اصدر قاسم محمد الرجب مجلة باسم (المكتبة) تعنى في بدء امرها باخبار الكتب ومؤلفيها، وقد صدر العدد الاول منها في آيار 1960 وصدر عددها الاخير سنة 1972. وسرعان ما تحولت هذه المجلة من نشرة مكتبية الى مجلة ادبية وعلمية قيمة وقد حملت الاعداد الاولى من المجلة عبارة: قائمة شهرية تصدرها المثنى لصاحبها قاسم محمد الرجب، ثم تغيرت هذه العبارة الى: المكتبة مجلة الكتب والكتاب، واصبح المرحوم مهدي القزاز رئيساً لتحريرها والمحامي عبد الكريم جواد مديراً مسؤولالها، وتطبع في مطبعة شفيق.
وقد اسهم في تحرير هذه المجلة الرائدة في بابها نخبة من كبار الكتاب والمثقفين في العراق وخارجه، واكثرهم لهم صلة وثيقة بصاحبها ويحضر مجلسه الادبي الرائع في باحة المكتبة التي كانت تشغل داراً تراثية كبيرة في منتصف شارع المتنبي ولم تزل قائمة، ومن هؤلاء: مصطفى جواد، احمد حامد الصراف، كوركيس عواد، صالح احمد العلي، يوسف عز الدين، محمود العبطة، عبد القادر البراك، سلمان هادي الطعمة، فؤاد جميل، جليل العطية، محمد هادي الاميني، علي جواد الطاهر، علاء الدين خروفة، مشكور الاسدي، حكمت توماشي، عبد الكريم الامين، خضر عباس الصالحي، احمد حامد الشربتي، سليم المعروف، يوسف سعيد، فاروق عمر فوزي، خالد محسن اسماعيل، صفاء خلوصي، ناجي محفوظ، عبد العزيز الدوري، جميل احمد الكاظمي (الاسماء وردت هنا بدون ترتيب معين) ومن الكتاب العرب: محمد سعيد العريان، حسين مؤنس، فؤاد افرام البستاني، عبد اللطيف حمزة، شكري فيصل، وغيرهم.
وتضمنت ابواب المحلة المختلفة الكثير من الفوائد التاريخية وحركة الكتاب العربي في كل مكان، واخبار المخطوطات وخزائنها وفهارسها. ومن هذه الابواب: مطالعات في الكتب، اخبار الادب والادباء، معرض الكتاب، رسائل القراء، اخبار ثقافية، صدر حديثاً، كتب جديدة. غير ان اطرف ما نشرته هذه المجلة واهمها حلقات كتبها قاسم الرجب باسم (مذكراتي في سوق السراي) ضمنها ذكرياته عن تجارة الكتب واحوال الكتاب والمؤلفين منذ ان كان عاملاً في المكتبة العربية لصاحبها سلمان الاعظمي، وقد نشر عشرين حلقة من هذه المذكرات ونشر بعض الحلقات في جريدة (البلد) البغدادية لصاحبها عبد القادر البراك الذي اصبح محرراً لمجلة (المكتبة) بعد مهدي القزاز وقد اعدت اسرة الرجب هذه المذكرات للنشر ثانية.

اقرأ ايضا

كتبيون رواد ومكتبات قديمة في بغداد

منصور بسيم الذويبليس هناك مايشد المثقف اكثر من مكتبة وكتاب، فإن من اكثر مايعلق في …