السيدتان وولف ودالاوي: عيد ميلاد سعيد!

صبحي حديدي
وإذا كان امرؤ قد فاتته قراءة هذه الرواية الفاتنة في الأصل الإنكليزي، أو في ترجمة عطا عبد الوهاب إلى العربية (مؤسسة الدراسات، 1985)؛ فله أن يشاهد، أو يعود إلى مشاهدة، الفيلم الجميل بالعنوان ذاته، من إخراج الهولندية مارلين غوريس وسيناريو إيلين أتكنز، حيث تلعب الكبيرة فانيسا ردغريف دور السيدة دالاوي. في الوسع، كذلك، العودة إلى “الساعات”، 2002، فيلم ستيفن دالدري ذي الصلة غير المباشرة برواية وولف، والمشاركة الفائقة للثلاثي ميريل ستريب، جوليان مور، ونيكول كدمان.
ولأنّ رواية وولف صدرت بعد سبع سنوات من بدء نشر “عوليس”، تحفة جيمس جويس، مسلسلة أوّلاً ثمّ لاحقاً في طبعة كاملة؛ فإنّ من الصعب استبعاد تأثر الروائية البريطانية بخيار مركزي لدى الروائي الإرلندي: يوم واحد وحيد لوقائع زاخرة يعيشها أو يستعيدها ليوبولد بلوم في “عوليس”، وهكذا تفعل السيدة دالاوي في رواية وولف. ثمة، في المقابل، أكثر من فارق سُجّل على الفور لروائية حداثية مجرّبة بالغة التمرّس في توظيف تقنيات تيار الوعي؛ موضة تلك الأيام في السرد الأوروبي عموماً، وربما العالمي أيضاً. لا يصحّ، أيضاُ، إغفال عداء مبكّر أبدته وولف تجاه “عوليس”، لأسباب شتى لا تُبطل انجذابها إلى تقنيات جويس، أو بالأحرى حرصها على استبعاد تأثرها به.
ولقد أصاب مترجم الرواية إلى العربية حين اقتبس في مقدمته فقرة من محاضرة ألقتها وولف في جامعة كمبرج، سنة 1928، وعرّفت فيها الواقع هكذا: “شيء غريب الأطوار، شيء لا يمكن الاعتماد عليه مطلقاً، فهو يوجد أحياناً في درب مترب، وأحياناً في قصاصة من جريدة متروكة في الشارع، وأحياناً في نرجسة برّية في ضوء الشمس… والروائي يفوق غيره من الناس في اقتناص فرصة العيش بين هذا الواقع المتنوع. إنّ عليه أن يجمعه ويوصله إلى الآخرين”. ولذلك فإنّ حبكة الرواية، إذا جاز الحديث هنا عن أيّ طراز من “الحبك”، لا تنأى كثيراً عن هذا التعريف لتدفق الوقائع في مسيل الحياة اليومية.
السيدة كلاريسا دالاوي تخرج، ذات صباح مشمس لابتياع الزهور استعداداً لحفل تقيمه ليلة ذلك النهار، لكنّ وعيها (السردي بامتياز، غنيّ عن القول!) يقودها، والقارئ معها، إلى ذاكرة شعورية حافلة بالأحداث والتفاصيل، وبالتداعيات الحرّة أو المتواشجة، وبطائفة منتقاة من الشخصيات نساء ورجالاً، وبالماضي الذي يُثقل على الحاضر (في استذكار، لا يخفى، لعبارة جويس الصاعقة على لسان ديدالوس: “التاريخ كابوس أحاول الاستفاقة منه”.)
وقارئ الرواية يتابع، بل لا يكفّ عن استجماع، عشرات الحكايات الفرعية الصغيرة، أو المصغّرة عن سابق قصد، التي تعرّفه على أمثال ريشارد زوج كلاريسا، أو بيتر والش الذي جمعتها به قصة حبّ تبدو حيّة ما تزال، أو صديقتها سالي سيتون بيتر، أو سبتيموس وارن سميث وزوجته إيطالية الأصل لوكريزيا. بل تقوده إلى حيثيات فاصلة، بعضها محوري تماماً، حول التاريخ والمجتمع في بريطانيا مطالع القرن؛ وتلك إضافة نوعية من روائية حداثية وتجريبية، ذات باع طويل في النأي عن تيارات السرد الواقعية.
ومعايدة السيدتين وولف ودالاوي تستوجب، أيضاً أو ربما بالضرورة، وقفة عند الجانب النسوي الذي اتصفت به خيارات الروائية البريطانية ومواقفها وجلّ كتاباتها في مطالع حياتها؛ عبر المقالات ومراجعات الكتب والمحاضرات، قبيل الاستقرار على كتابة الروية والتفرّغ لها. وفي مقالة بعنوان “مِهَن النساء”، تعود إلى سنة 1928، وستُنشر لاحقاً في كتاب بعنوان “موت البَشّارة” ضمّ حفنة مقالات؛ أعلنت وولف أنها لم تعد قادرة على كتابة سطر واحد ما لم تنخرط في صراع مرير مع شبح امرأة تهيمن على روحها، أسمتها “الملاك في البيت”: “لو لم أقتلها، لقتلتني. كانت ستقتلع قلبي من جسد كتابتي”، كتبت وولف وهي تصف واجب المرأة المبدعة في أن تقتل تماماً ذلك الملاك الأنثوي الذي زرعه المجتمع في داخلها، والذي يمثّل المرأة الطيبة البريئة الخنوعة، الجاهزة أبداً للامتثال والطاعة.
ولكن، تابعت وولف، حتى بعد موت الملاك، ما الذي يتبقى؟ قد يُقال إنه “تبقّتْ تلك المرأة الشابة القابعة في غرفة النوم مع دواة حبر. في عبارة أخرى، الآن وقد خلّصت نفسها من الزيف، توجّب على تلك المرأة أن تكون هي ذات نفسها. آه، ولكن أيّ ‹ذات نفسها›؟ أقصد، ما المرأة؟ أؤكد لكم أنني لا أعرف. ولا أعتقد أنكم تعرفون. ولا أعتقد أنّ أحداً يستطيع ذلك، إلا إذا عبّرت المرأة عن نفسها في كلّ الفنون والمهن المفتوحة أمام المهارة الإنسانية”.
وقد تصحّ المعايدة، أيضاً، عبر خمس قصص قصيرة ور>واية واحدة أخرى، تعمدت فيها وولف استعادة السيدة دالاوي؛ فالإغواء ظلّ يتملك العلاقة الفريدة بين الروائية والشخصية، والعكس كان صحيحاً أغلب الظنّ.
· عن القدس العربي

اقرأ ايضا

نسيج الواقعية في “السيدة دالاوي”..كيف ابتدعت فرجينيا وولف مسارا روائيا جديدا؟

زكريا عبد الجوادخلال احتفال أقامته “جامعة كامبردج” تكريماً لذكرى الروائية البريطانية فرجينيا وولف (1882-1941) بعد …