سميحة ايوب.. سيرة امرأة إستثنائية

شعبان يوسف
رحلت السيدة العظيمة التي ظلّت تعطي وتقاتل وتخدم الفن وخشبة المسرح عقودًا تزيد عن السبعين عامًا، وهذا عمر فني لم يصل إليه كثيرون، وهي قد وثقت ذلك العمر الفني في مجلد ضخم صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2002 “مشروع مكتبة الأسرة”، وفي تلك السيرة، رصدت وحللّت وقرأت واعترفت فيه كثيرًا، وقدمت سفرًا غنيّيًا بالمعلومات والأفكار والتأملات التي جاءت مفاجأة كاملة لواحدة عاشت تفاصيل وصعود النهضة المسرحية في عقديّ الخمسينات والستينات، كما رأت انهيار تلك النهضة في عقد السبعينات، ولكنها كانت تختار، وتطيل في تأمل الأدوار التي تقوم بها، وفي سيرتها الذاتية سنجد الكثير الكثير الذي لا يخص سيدة المسرح الكبيرة فقط، لكننا سنجد الكثير مما يخص تاريخ المسرح والثقافة والفن عمومًا في حياتها الغنية، والسطور القادة كانت مساهمتي في مهرجان المسرح المصري الذي انعقد في عام2023، وهو البحث الوحيد الذي تناول سيرتها وحياتها، والجدير بالذكر أن الدورة التالية تم إطلاق اسم الفنان العظيمة كتكريم لها في العام التالي 2024.
قبل أن ندخل إلى عالم الذكريات الذى فتحته أمامنا الفنانة سميحة أيوب، آثرت أن تكتب كلمة قصيرة لتقدم بها المذكرات، إذ كتبت: “عندما جلست لأكتب مذكراتى للمرة الأولى، ترددت كثيرًا قبل أن أمسك بالقلم لأخط مشاهد مسيرة حياتى الفنية، ماذا أكتب، ولماذا، وكيف؟، وبعد أن أمسكت بالقلم بدأت الذكريات تتداعى فى خاطرى لتتحول أمامى على الورق إلى لحظات من لحم ودم ومشاهد مسرحية وسينمائية، وأحيانا مسامع إذاعية، لم تكن مسيرة حياتى تلك، مجرد لحظات عابرة فى حياة فنانة، وهبت حياتها لفنها ووطنها ولأمتها”، هذه بعض عبارات وردت فى مستهل الذكريات التى كتبتها للمرة الأولى بدعوة من الكاتبة سناء البيسى لكى تنشرها فى مجلة “نصف الدنيا” التى تصدر عن مؤسسة الأهرام، وكانت الأخيرة تديرها ترأس تحريرها، وبالفعل نشرت سميحة مذكراتها فى المجلة، وبعد ذلك تم جمعها ونشرها فى عدة طبعات، حتى أن نشرت فى الهيئة العامة للكتاب، وتنهى المقدمة بتلخيص واف للهدف الذى أرادت أن تشرحه الفنانة الكبيرة، حيث قالت: “هى رحلة كفاح ومعاناة ومتعة، تلك المتعة التى لا يشعر بها إلا فنان آمن بفنه وبإبداعه، وبقدرة هذا الفن، وذلك الإبداع على أن يرسم مسيرة وطن يطمح إلى مستقبل أفضل”.
وقبل أن ندخل إلى عالم مذكرات سميحة أيوب، نقرأ مقدمتين، الأولى للكاتبة الصحفية سناء البيسى، والثانية للناقد الراحل الكبير رجاء النقاش، والمقدمتان تتمتعان بقدر جاد وكبير جدًا من الإنشاء الجميل دون الوقوف عند قسمات وملامح وسمات المذكرات، أو الذكريات، مقدمتان فيهما نوع من الدعاية الواضحة، وإن كنت تمنيت من الكاتبين الكبيرين غير ذلك، لأن سميحة أيوب لم تكن مذكراتها فى حاجة إلى ذلك، ونقرأ في الاستهلال الذى جاء فى مقدمة البيسى الذى يقول: “صاحبة الصوت المميزالذى يستدعينى من أى هناك، من أفكارى، من مشوارى، من شرودى، من انشغالى، من غيبوبتى، من السقوط إلى بدروم النفس، يستدعينى على الفور فأهرول إلى حضرته لأضرب تعظيم سلام وأنا واقفة فى وضع التمام على عتبته”، وهكذا تسترسل الكاتبة الكبيرة سناء البيسى فى تعظيم المذكرات دون التوقف عند أى المحطات التى تواجهنا فى الكتاب، ربما يقول البعض بأن هذا هو المطلوب فى مثل تلك المقدمات، لكننى أعتقد أن الروح الدعائية والإنشائية التى تصاحب أى كتابة دون تأملها، وتحفيز القارئ لنقاط تثيرها الكتابة، تدخل فى باب التسويق السلعى، وربما يكون هذا جائزًا للعزيزة سناء البيسى، لكننى وجدته كذلك فى مقدمة أستاذى الكبير الناقد رجاء النقاش، وكنت أنتظر منه وهو الناقد الأهم فى مصرأن يشاغب المذكرات كما تعودنا منه، وفى حقيقة الأمر فإن ذكريات سميحة أيوب، ولا هى شخصيًا تحتاج إلى مثل هذه الأمور، فهى من هى، وأرست لنفسها سلسلة من النجاحات الكبيرة على أكثر من سبعين عاما، ولم يبق سوى تأمل تلك الرحلة، والتفاعل معها بالشكل الذى يليق بها، ومما كان يدهشنى رغم أنها سميحة أيوب العظيمة، أننى كنت أفاجأ على مدى العقدين المنصرمين حتى الأعوام القليلة الفائتة، بمن يجرى تغطية لحديث تلفزيونى للفنانة، أو تغطية لندوة أو لقاء هنا وهناك، ويقولعلى سبيل المثال: “الفنانة سميحة أيوب تكشف لأول مرة أسباب انفصالها عن الفنان محمود مرسى”، وهكذا نجد موادًا كثيرة من هذا النوع تتواتر فى الصحف والمواقع، وكأنها نوع من السبق الصحفى، والمفاجأة أن كل ذلك سردته سميحة أيوب فى كتابها “الذكريات” الذى نشر فى مشروع مكتبة الأسرة عام 2002، ذلك المشروع الذى ترعاه الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتطرحه فى الأسواق بأقل الأسعار، ليصبح أوسع مشاريع النشر انتشارًا، وهذا يدلّ للأسف على ظاهرة أن لا أحد يقرأ، ولا أحد يتابع، حتى لو كان المؤلف فى عظمة وأهمية وقيمة وسيرة سميحة أيوب.
ربطت الفنانة سميحة أيوب بين تطورها الفنى وتمثيلاته المتعدة فى المسرح والسينما والإذاعة، وبين زيجاتها الثلاثة المذكورة والمعلنة والمعروفة، وهذا ما لاحظناه فى بداية المذكرات، فبعد أن سردت دهشة البدايات، عندما سمعت من الراديو أن معهد الفنون المسرحية يطلب آنسات للانضمام إلى المعهد، وسوف تأخذ كل فتاة من الفتيات عندما تنجح، مكافأة قدرها ستة جنيهات، وتوقفت سميحة عن عملية المذاكرة التى كانت تحدث على مائدة الطعام، ولفت انتباهها ذلك الخبر أو الإعلان الذى انطلق كمفاجأة لها من الراديو، ولم تتوقف المفاجأة عند ذلك الحد، بل تطورت عندما رأت زميلتهافى المدرسة تماضر، وقالت لها:
(إيه رأيك تيجى معايا
_ فين؟
_ رايحة امتحن فى معهد التمثيل، ويارب أنجح، وستأخذ البنت اللى تنجح فى الامتحان ستة جنيه، ماتيجى معايا ياسميحة أهو نتسلى وتتفرجى)
ودون الاسترسال فى سرد وقائع كثيرة وأحداث كلها مذكورة فى الكتاب، فهذه هى البداية التى أشعلت شرارة الفن عند سميحة أيوب عندما التحقت بمعهد التمثيل، والتقت هناك بمجموعة من الدارسين الذين أصبحوا نجومًا كبارًا فيما بعد مثل عمر الحريرى ونعيمة وصفى وحمدى غيث وعائشة حمدى التى أصبحت زوجة حمدى غيث فيما بعد، ولا تنسى سميحة أن تخبرنا بأن حمدى غيث قد أبعد زوجته عن التمثيل بعدما أنهت الدراسة فى المعهد، وأثناء ذلك فى منتصف السنة الدراسية الأولى لها، جاء زكى طليمات الفنان الكبير وقال لطلّابه:
سوف نعرض على دار الأوبرا مسرحية “البخيل” لموليير بعد شهر ونصف، وسوف تكون حصص التمثيل من خلال مسرحية البخيل.. هذه كانت الخطوة الثانية التى أدخلت سميحة أيوب المجال العملى فى التمثيل، وكان معها فى المسرحية: سعيد أبو بكر، عدلى كاسب، على الزرقانى، نعيمة وصفى، فاتن حمامة، وبعد عرض المسرحية أشاد كثيرون بها، وكتب الدكاترة زكى مبارك مقالًا أشاد فيه بالمسرحية، وبالممثلة الشابة، وقال لأستاذها زكى طليمات: “هذه الشابة عندها حضور مسرحى طاغ”، وذلك أثلج صدرها، وأعطاها كثيرًا من الثقة والقلق فى وقت واحد، بعد ذلك بحث عنها الإذاعي محمد محمود شعبان الشهير ببابا شارو لكى يلحقها لديه بالتمثيل فى الأوبريت الإذاعى “عذراء الربيع”، والذى ظهرت فيه باسم سميحة سامى، لأن والدتها اعترضت على أن تضع اسم العائلة “أيوب” فى القيل والقال، كما أنها ظهرت به فى أول فيلم لها، وهو “المتشردة” عام 1947، وبعد فيلم المتشردة، عرض عليها التمثيل فى فيلم يخرجه فنان تونسى، وكان معها الفنان شكرى سرحان، الذى قال لها بأنه يريد أن يخطبها، وبالفعل ذهب لكى يخطبها من والدها، لكن لم تتم الموافقة عليه، وذلك لصغر عمرها آنذاك، الذى كان ستة عشر عاما، وليس خمسة عشر كما هو شائع، حيث أن ميلادها كان فى 8 مارس 1931، وليس 1932، ولكن شكرى سرحان لم ييأس، وأوصى عليها زميله الفنان محسن سرحان، الذى خطبها بدوره، وحدث معه ما حدث لشكرى سرحان، ولكن سميحة لم تستسلم في تلك المرة مثلما حدث مع شكرى سرحان، وتركت منزل أهلها، وقررت حسم الزواج من محسن سرحان، ولكن أول قرار كان قد اتخذه محسن سرحان هو إيقافها عن مواصلة الدراسة، وتقليص نشاطها الفنى، وهذا مما عطلها كثيرًا فى تلك الفترة، وعندما حدث الطلاق عادت مرة أخرى إلى المعهد، وبالتالى إلى التمثيل، ولكن كان أقرانها الذين بدأت معهم حققوا أشكالًا من التقدم، وتجاوزوها، وكان عليها أن تبذل قصارى جهدها، وسوف نجد أن بعضًا من السخط لديها قد صرّحت به وعبّرت عنه فى المذكرات، وذكرت أن الغيرة كانت مسيطرة عليه بشكل كبير، للدرجة التى كان يغلق عليها الباب فى البيت وهو خارجه. هذا ما كتبته باستفاضة فى المذكرات، ولكننى عثرت على مقال لها، كانت قد كتبته فى مجلة روز اليوسف عام 1954، وكان عنوانه: “كيف أنقذنى محسن سرحان”، واستهلت سمحية مقالها بقولها: “كانت هوايتى فى الصغر أن أشاهد الأفلام السينمائية، ثم أعود إلى البيت لأنصب فى الفناء مسرحا صغيرا أزينه ببعض الورود القديمة وأعيد تمثيل ما رأيته على الشاشة، وكانت هذه الهواية تعجب أهل البيت الذى أعيش فيه لأنها تسليهم..”، واستطردت سميحة فى مقالها لكى تخبرنا بأن الأهل كانوا يشجعونها على تطوير مسرحها الصغير، حتى أن كبرت، وكبرت معها موهبتها، ثم التحقت بمدرسة سان جوزيف فى عام 1942لا بد أن أذكر هنا، بأن عنصر ذكر التاريخ فى الذكريات شبه مهمل تماما، وكونت مع صديقاتها فريقًا من التمثيل لم تعترف به المدرسة، ولكنها اعترفت به بعد ذلك، وهذه كانت الخطوة الثانية، أما الخطوة الثالثة، فهى الالتحاق بمعهد التمثيل، ولكنها لم تصرّح لأهلها بتلك الخطوة حتى تسرّب الخبر إليهم بشكل ما، وهذا مما شكّل لها أزمة كبيرة، حتى أن تصل إلى قولها: “وفى وسط هذه العواصف أرسل الله لى من ينقذنى من حرجى فى شخص الزميل محسن سرحان الذى رآنى فى أحد تلك الأيام فأحبنى، وأحببته، وتزوجنا”، وأنجبا طفلهما الذى أسمياه “محمود فهمى النقراشى”تيمنًا برئيس وزراء مصر الذي تم اغتياله عام 1948_، وعاشت سميحة مع محسن عامًا ونصف العام، بعدها تم الطلاق، ولكنها كانت تشعر بالحسرة على ما فاتها، حيث تقول فى مقالها: “ولكن أنباء فرقة المسرح الحديث كانت تصلنى بين الحين والآخر فتملأ قلبى بالحسد على أولئك الزميلات اللاتى كنت أعتبر أننى واحدة منهن”، ولذا راحت سميحة تطلب الطلاق بعدما تحولت حياتها إلى جحيم، ولم يكن زوجها مصدقًا لما تقول بعدما كانت تعتبره منقذها الأول من حياتها الرتيبة، ولكنها أصرّت على الطلاق بحسم حتى حدث، وتختم سميحة مقالها بقولها: “إننى اليوم أعيش لفني، ولزوجى الجديد!، وتمر هذه الأحداث بذاكرتى، فأعجب كيف يتكون الفنان فى حياته”.
فى هذه المرحلة باحت سميحة أيوب بأن زوجًا ما فى حياتها، ولكنها لم تعلن عن اسمه، ولم أستطع أن أستدل عليه من خلال متابعتى لصحف تلك الأيام، لأن الصحف والمجلات حسب حدسى، كانت تعمل حسابًا كبيرًا لمحسن سرحان الذى تزوج فورًا بعد انفصاله عن سميحة، وكان يظهر بزوجته الجديدة فى كافة المنتديات، وبالتالى لم يكن اسم زوجها الذى وصفته بالجديد متداولًا أو معروفاً، وهو قبل زواجها بالفنان محمود مرسى الذى تزوجته عام 1955، وهو التاريخ الوحيد الذى ذكرته فى مذكراتها، وعلى عكس محسن سرحان كان محمود مرسى الذى أعطاها حريتها بشكل كامل لدرجة الإفراط، وربما لم يصلح ذلك الإفراط للزواج، ولكنه كان سببًا جديدًا فى الانفصال بعد أن ارتبطت سميحة بالمسرح والإذاعة، خاصة بعد مسلسلها الناجح “سمارة” الذى قامت ببطولته عام 1955، وأحدث دويًا كبيرًا، وكانت شوارع القاهرة تخلو تمامًا أثناء إذاعة المسلسل، وكان وجود الفنان محمود مرسى فى حياتها كمثقف وفنان وزوج، دافعًا مهمًا للغاية لكى تبدع أكثر وتصل إلى درجات عليا فى التمثيل المسرحى والإذاعى.
لا أريد أن أنغمس فى التأريخ الشخصى لحياة سميحة أيوب، ولكن ارتباط الخاص عندها بالعام كان واضحًا تمامًا، حتى المعارك التى كانت تجد نفسها فيها، كان زوجها محمود مرسى يدفعها لها ويرشدها بنبل كبير، ويؤازرها، خاصة عندما دسّ البعض، بعضًا من الافتراءات على الفنان زكى طليمات، وتم إبلاغ لجنة التطهير بإقصاء ذلك الرجل عن منصبه، وإبعاده عن أدواره التى كان يقوم بها، وللأسف كان قائد تلك الحملة ضد طليمات، كان عبد الغنى قمر الذى تزعم حملة التوقيعات على المذكرة التى سترسل لمجلس قيادة الثورة، وكانت هى قائدة الحملة التى وقفت ضد هذا الفعل الردئ كما وصفته.
ولم يكن انفصالها عن زوجها محمود مرسى مزعجاً، بل كان هادئًا للغاية كما وصفته، رغم أن ذلك الانفصال كان محزنًا بالنسبة لها، لكنه لم يرد أن يشكل أى عقبة لها فى حياتها، وعندما كانت تطلب منه أن توافق على القيام بأكثر من دور فى أكثر من مسرحية، كان يقول لها: هذا مستقبلك، وأنت حرة فيه، ولكنه مع تقادم الأيام والزمن، لم يستطع كزوج أن يحتمل ذلك الأمر، فانسحب فى هدوء بعدما عاشت معه أيامًا جميلة، وظلّت تكن له احترامًا طوال حياتها، وكانا قد أنجبا ابنهما علاء، وانفصلت عنه وهى متأثرة، وحائرة بين حبين، حب زوجها محمود مرسى، وحب عملها للمسرح، ولكنها انتصرت للمسرح، وآثر هو ألا يكون مزعجًا لها فى ذلك، وكانت تعرف أنها فى مرحلة تكوين وتطور، فامتزجت حياتها بالمسرح، وقامت بأدوار كبيرة فى تلك الفترة، وعلى رأسها القيام ببطولة مسرحية “المومس الفاضلة” للفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر فى نوفمبر عام 1958، التى ترجمها مازن الحسينى، وأخرجها الفنان حمدى غيث، وقامت هى بدور ليزى، والذى أطلق عليها “المومس الفاضلة”، والتى شاركها البطولة عمر الحريرى وحسن البارودى وتوفيق الدقن وحسين رياض، وكانت سميحة أيوب قد بلغت أوجًا تمثيليا فى المسرح عظيما، وبالطبع كان عنوان المسرحية صادما لكثير من النقاد، حتى أنها عندما طرحت عليها البطولة، توجست، وكادت أن ترفض، لولا أنها أجرت مناقشة مع حمدى غيث، وشرح لها بأن “ليزى” بطلة المسرحية، كانت تخفى أحد الزنوج فى مواجهة العنصريين، وتكبدت أشكالًا من المشقة والتعنت لكى تحميه دون أن تنتظر أى مكافأة، ولكنها كانت تقوم بذلك الدور بدافع النبل فقط لا غير، ودفاعا عن العدالة المهدورة، وعندما تفهت الدور، أحبته بقوة شديدة، ولذلك قامت به وأدته ببراعة غير مسبوقة.
وقد كتب عنها الناقد الفنى كامل يوسف فى 24 نوفمبر بجريدة المساء قائلًا: “وقد أمتعتنا (سميحة أيوب) بدراسة مستفيضة لمعالم الغانية من حيث اللفظ والحركة”، كما أن أنيس منصور كتب مقالًا فى 25 نوفمبر بجريدة الأخبار وأشاد بها وبالمسرحية وبالعرض المصرى إشادة كبيرة، وكتب عبد الفتاح الفيشاوى مقالا فى 1 ديسمبر 1958 مقالا بجريدة “القاهرة”، بدأه بالإشادة بسميحة أيوب قائلًا: “سميحة أيوب فى شخصية (المومس الفاضلة)، وصلت إلى أقصى طاقتها الفنية، وسيظل هذا الدور من مفاخرها، فقد أدته فى جرأة شديدة، وليونة على الرغم من الانفعالات العنيفة التى تؤلف هذه الشخصية، فإنها ترفض أن يلمسها الزنجى، وتثور فى وجهه مخفية السبب الذى من أجله هرب من غرفتها، ثم تنتقل إلى التفكير السريع فى حمايته، وكل انفعال من هذه الانفعالات المتتابعة له عند سميحة وقع خاص، دون أن يختلط كل انفعال بآخر”، ولم يقتصر الأمر في الكتابة عند نقاد الفن فقط، لكنه استدعى واحدًا من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهو خالد محيي الدين الذى كتب مقالًا فى جريدة المساء التى كان يرأس تحريرها، ويكتب مقالًا ثابتًا ويوميًا، قال: “أما من ناحية المومس، فقد أظهرت المسرحية ان بها بقية من ضمير حاولت أن تستخدمه، ولكنها استسلمت فى النهاية لظروف مجتمعها، ولكن فى ألم وبكاء”.
ورغم أن المسرحية نالت قدرًا من تجاوب مرتادي المسرح القومى عندما تم عرضها فى مصر، إلا أن المتابعات الصحفية كانت متنوعة بين السلبي والإيجابي، بينما آثرت مجلة الغد اليسارية التى صدر عددها الفصلى فى ديسمبر 1958 ألا تقترب من الموضوع بأى كلمة، بينما نشرت مجلة روز اليوسف فى 3 نوفمبر 1958 على صفحة كاملة دون توقيع تحت عنوان “انقلاب فى المسرح المصرى”، ذكرت فيه كل مسرحيات الموسم، ما عدا مسرحية “المومس الفاضلة”، كما أن محمود السعدنى كتب فى 15 ديسمبر بذات المجلة مقالًا عن كافة المسرحيات المعروضة، ولكنه لم يأت أيضًا على ذكر المسرحية، بينما نشرت المجلة خبرًا غريبًا ومثيرًا عن سميحة أيوب يقول الخبر: “بعد أن تم طلاق الممثلة سميحة أيوب من زوجها الرسام الإيطالى الأصل، قرر الزوج مغادرة القاهرة إلى الأبد ليعيش فى إيطاليا، فأقامت له سميحة أيوب حفلة وداع، وفى نهاية الحفلة قبّلت سميحة زوجها السابق قبلة الوداع وتمنت له حظًا سعيدًا”.
هذا الحراك الذى حدث آنذاك، يدل على أن المسرحية أحدثت دويًا لم يحدث من قبل، خاصة أن المرحلة كانت ثورية بدرجة كبيرة، وكانت الجزائر تشهد تعاطفًا شديدًا من الحكومة المصرية، وكان جان بول سارتر أحد الذين كانوا منتصرين للقضية الجزائرية، ويبدو أن تفوق ونجومية سميحة أيوب المنقطعة النظير، قد أوغرت صدور البعض فى ذلك الوقت، وبهذه المناسبة، أن تلك المسرحية تم عرضها فى مطلع عام 1967 عند زيارة جان بول سارتر القاهرة، وشهدتها حشود من المثقفين والكتاب والساسة وجان بول سارتر نفسه، وفى ذلك الأمر تكتب سميحة أيوب قائلة: “وانتهى العرض، وإذا بسارتر وسيمون دى بوفوار يصعدان خشبة المسرح وسارتر يقبلنى ويقول لى:
_ أخيرًا وجدت ألكترا فى القاهرة.
وكان سارتر فرحا وسعيدا”
لا تكتفى الفنانة الكبيرة سميحة أيوب بسرد تاريخها الشخصى، وهو لم يكن تاريخا شخصيا بشكل محض، بقدر ما كان مرتبطًا بالمناخ العام، والأحداث العامة، وبعد ارتباطها زوجيا بالكاتب المسرحى سعد الدين وهبة، ارتفعت وتيرة الارتباط بين الأحداث العامة والخاصة بشكل لا يقبل الانفصال، خاصة أن سميحة كانت تقوم ببطولة بعض أدوار مسرحياته، بالإضافة إلى أن سعد الدين وهبة كان مسئولًا كبيرًا فى وزارة الثقافة فى مراحل كثيرة من حياته، وكان هذا ينعكس أحيانًا عليها بالسلب، وعلى سبيل المثال أنه عندما تولى إدارة السينما، وجد أن خمسة مخرجين اختاروا سميحة لكى تلعب دور البطولة فى الأفلام الخمسة، فما كان منه إلا أن يشطب ويحذف اسمها من الأفلام الخمسة حتى لا يقال أنه كان يستغل منصبه فى الاستفادات الشخصية.
لا تريد الرغبة أن تكف عن التدفق فى قراءة تلك الذكريات، أو السيرة الذاتية، والتى لا تكتمل فائدتها وجدواها، إلا بالتدقيق التاريخى من خلال الوثائق والأصول التى لا تنتهى، وهذا يعنى أن تلك الذكريات تمثل ركنًا أصيلًا فى بناء الذاكرة، وبناء مدونة تاريخية عظيمة، لأن صانعى ذلك التاريخ عظماء وجادين، واستطاعوا أن يؤدوا أدوارهم بأكثر مما ينبغى، وعلى رأس هؤلاء الفنانة الكبيرة سميحة أيوب.
عن الدستور المصرية

اقرأ ايضا

سميحة أيوب وذكريات عمرها 45 عامًا

ناصر عراقكيف رأيت السيدة سميحة أيوب تمثل بتألق على خشبة المسرح؟ بل كيف شاهدت أداءها …