د. عماد عبد السلام رؤوف
وقَفْنا عند بحثنا في وثائق العهد العثماني في سنواته الاخيرة على وثيقتين فريدتين، باسم جمعية سرية عرفت بـ: (جمعية الدفاع المقدس) يبدو أنها كانت تعمل في بغداد منذ أواخر العهد العثماني، واستمرَّت في عملها حتى بداية عهد الاحتلال.
كانت هاتان الوثيقتان من مقتنيات خزانة الأب أنستاس ماري الكرملي (توفي 1947)، في دير الآباء الكرمايين ببغداد، وقد وهبها إلى الأستاذ ميخائيل عواد (المتوفى سنة 1995) على ما أخبرني الأخيرُ في مكتبة المجمع العلمي العراقي سنة 1974، فلبثت في خزانته أمدًا من الدهر، حتى آلت ضمن مجموعته من المخطوطات والوثائق إلى مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب – جامعة بغداد، (نقلت مخطوطات هذه المكتبة إلى مكتبة المتحف العراقي، قسم المخطوطات، وهي اليوم المركز الوطني للمخطوطات)، وفي أعلى الوثيقة الأولى تعليقة بخط الأب الكرملي تفيد بأن هذا النص هو بعينه الذي علق على الحائط”، وفي آخرها تعليقة له أيضًا نصها: “علق في 29 آذار 1917″، والوثيقة مكسرة الأطراف، وبخاصة مِن طرَفها الأعلى الأيمن، من أثر انتزاعها – فيما يبدو – من الحائط الذي ألصقت عليه، أما الوثيقة الثانية فهي منقولة “من الأصل الذي عُلِّق على الحائط”، على ما جاء في تعليقه للكرملي أيضًا في أعلاها، ومن الملاحظ أن كلاًّ من الوثيقتين خالٍ من البسملة التقليدية.
والوثيقة الأولى عبارة عن مُلصَق جداري، مكتوب بخط اليد بعناية ظاهرة، وتاريخه هو 29 آذار سنة 1917؛ أي بعد 18 يومًا فقط من احتلال البريطانيين بغداد، الذين دخلوها في 11 آذار سنة 1917، أما الوثيقة الثانية فهي نسخةٌ بخط اليد أيضًا، منقولة عن ملصق جداري آخر، وتاريخه اليوم السادس من حزيران سنة 1917، وبهذا تكونُ هذه الجمعية هي أولَ جمعية سرية لها نشاط في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، واحتلال بغداد مباشرة.
ويُفهَم من الوثيقة المذكورة – في أسطرها الأولى – أنه قد مضت على تأسيس الجمعية آنذاك خمس سنين، فيكون تاريخ إنشائها إذًا هو سنة 1912؛ أي في مدة حُكم والي بغداد جمال بك (26 آب 1911 – 17 آب 1912م)، أو خلفه محمد زكي باشا (13 تشرين الثاني 1912 – 22 آيار 1913م)، وكان هدفها آنذاك -على حد تعبيرها- هو “تقليص ظلِّ الحكومة التركية عدوةِ التمدُّن والإخاء من هذه الأصقاع العربية، والاستعاضة عنها بحكومة راقية تخلِّص البلادَ من ذلك الاستبداد الأسود”.
وتشير الجمعية إلى أنها مارست العملَ المسلح في العهد العثماني؛ حيث كان لديها مخزن عامر بالقنابل، وتنسُب إلى نفسها مسؤولية إحراق مخزن الذخيرة (الجَبَه خانه) في تلك الأيام، وكان هذا المخزن يقع في قلعة بغداد، وإذ لم نعثُرْ على ما يفيد حدوثَ مثل ذلك الإحراق في السنين المذكورة، فليس من سبيل للتأكد من صحة هذا الادعاء، وإن كنا قد عثَرْنا على ما يدل على حدوثِ عدةِ حرائق خطيرة ببغداد سنة 1912، أحدها في معمل عسكري، فإن هذه الحرائق لم يكن أيٌّ منها في القلعة، وليست لها صلة ما بمخزون الذخيرة فيها، وأهم تلك الأحداث هو الحريقُ الهائل الذي نشب في خان النفط الواقع في محلة العُوينة، ودام أسبوعًا كاملاً،
وفي الوقت الذي تسكُتُ فيه المصادر عن بيان سبب هذه الحرائق المتلاحقة، فإننا نلاحظ بأنها حدَثت كلُّها في وقت واحد، وهو التاريخ الذي زعمت الوثيقتان بأنه تاريخُ تأسيس الجمعية المذكورة، وأن الحرائقَ أضرت بموادَّ ذاتِ صفة عسكرية مهمة.
وعلى الرغم من أن هذه المطالبَ وطنيَّة المظهر، فإن في الوثيقتين جملةَ أمور، من شأنها إثارة الريب حول نشأة الجمعية وأهدافها؛ فالجمعية لا تُخفي في أول بيان لها رأيَها بأن “حكومة بريطانيا هي البديل المرغوب لحكومة الترك الدابرة،” وأن أعضاءَها كانوا ينشرون الأفكار المؤيِّدة لبريطانيا حتى قبل الاحتلال، وجميع مطاليب الجمعية لا يصل إلى طلب استقلال البلاد، وإنما هي تقوم على اعتبار الاحتلال أمرًا واقعًا لا مناص منه؛ ولهذا فهي تدعو إلى أمور من قَبيل “معاملة الأهلين بالحسنى”، و”إعطاء بعض الحرية للمطبوعات”، و”حفظ الأمن العام”، و”ملاحظة الأسعار الغذائية”، ومشاركة بعض الأهالي في شؤون الحكومة.
وتطالب الجمعية في بيانها الأول بعد الاحتلال بإعفاء الجنودِ العرب الذين انسحبوا مع القوات العثمانية الأخرى من وسط العراق، من حصر أسمائهم في سجلات السلطة المحتلة “لِما فيه من الخطر في المستقبل إذا عُدُّوا كأسرى حرب”، وقد نص بيان مارشال على تحقيق ذلك حين “سمح لأسرى الحرب المعتقلين في الهند بالرجوع إلى أوطانهم، ما عدا الذين من الجيش التركي (أي العرب فقط)، أما المطالبة “بملاحظة الأسعار الغذائية المتوقف عليها حالة الفقير والضعيف”، فهي ما أشار إليه بيان مارشال المذكور أيضًا بقوله: “يوزع طعام وألبسة على فقراء بغداد والمدن الأخرى، وتخفف القوانين الحالية بعض التخفيف”، ولو وازنَّا بين كل الفقرات الواردة في بيان الجمعية الأول، وبين بيانات الاحتلال الصادرة قبله وبعده، لوجدنا أنهما كُتِبا برُوح واحدة تقريبًا، هذا رغم زعم الجمعية بأنها ستلجأ إلى العنف “إذا لم يلتفت إلى مطاليبها الإصلاحية”.
ويؤكد بيان الجمعية الثاني (6 حزيران 1917) على أن الجمعية لا تحمل عداءً لبريطانيا، وأنها “أول صديقة صادقة لدولة بريطانيا، بشرط ألا يكون لها غير النوايا الحسنة نحو العراقيين”، وأنها تؤيد السياسة البريطانية طالما وافقت هذه السياسة حقوقَ الشعب الأساسية، دون أن تبين ما تعنيه بهذه الحقوق، وعلى الرغم من تصريح الجمعية مجددًا بأن لجوءها إلى سبيل العنف غير بعيد، وأن أعضاءها مستعدُّون للتضحية بأنفسهم في سبيل “تأييد حقوق الأمة وواجباتها” – فإن البيان الثاني يسكت هو أيضًا عن أي تلميح إلى الاستقلال، هذا مع أن بيانات الاحتلال نفسها لم ترَ حرجًا من التلويح به في بعض الأحيان.
ويهتم البيان المذكور اهتمامًا خاصًّا بمسألة مشاركة بعض الشخصيات الكبيرة من أهل البلاد في “تمشية أمور الحكومة المحلية بصورة موافقةٍ للعدل والاستقامة”، وهو يرشح عشَرة من تلك الشخصيات بأسمائها، مؤكدًا على عدمِ وجود أدنى صلة للجمعية بهم، سوى ما تعرفه عن كفاحِهم ضد السُّلطة العثمانية
.
والناظر إلى الأسماء المرشحة يلاحظ أنها تضم خليطًا عجيبًا من شخصيات، بعضها معروف تمامًا وله تراثه الوطني والثقافي الكبير، والبعض الآخر مغمور ليس له ماضٍ يعرف به أصلاً، ولا يجمع بينهم سوى أن أكثرهم كانت له مواقفُ مناوئة للسلطة العثمانية في أواخر عهدها في العراق، وأن بعضهم لقي عنتًا شديدًا من تلك السلطة، بلغ حد أمرها بنفيه وإبعاده.
وإذا تتبعنا تراجم المرشحين نجد أن بعضًا منهم عُرِضت عليه مناصب مهمة فعلاً في السلطة المحلية التي أقامتها قوات الاحتلال وقَبِلَها، والبعض الآخر أبى المشاركة فيما دُعي إليه بأية صورة من الصور، مما يؤكد عدم وجود صلة ما بينه وبين ترشيح الجمعية له في بيانها المذكور، وواضح أن أولئك المرشَّحين كانوا ينتمون إلى الديانات الثلاث جميعًا: الإسلامية، والنصرانية، واليهودية،، هم:
1.محمود شكري
2 .عبدالمجيد بك الشاوي
3.عبدالرحمن أفندي بن مصطفى
4.السيد موسى الكيلاني
5.حمدي أفندي الباجه
6.عبداللطيف ثنيان
(نصارى، وأولهم مطران الطائفة السريانية، ولم يسمِّه، ولم يعين ما إذا كان مطران السريان الكاثوليك أم السريان الأرثوذوكس، والراجح أنه قصد الأول منهما، وثانيهم تاجر أرمني عُرِف بنشاطه المناوئِ للعثمانيين. يهود، هم حاخام الطائفة اليهودية في بغداد، ومناحيم دانيال (تاجر معروف).
يمكننا القولُ إذًا – بناءً على ما تقدم – بأن الجمعيةَ كانت:
1. لا تميل إلى أيِّ استقلال سريع عن بريطانيا.
2. تريد تشكيل حكومة محلية من الأهالي – أو يشارك فيها الأهالي – تتولى تنفيذ الإصلاحات التي تراها ضرورية، وربما كان ذلك تحت إشراف بريطانيا نفسها.
وإذا طرحنا جانبًا أن تكون الوثيقتان من إصدار سلطة الاحتلال، أرادت بهما إظهار سياستها وكأنها استجابة لمطالب شعبية عامة، وافترضنا وجود الجمعية على ما أعلنت هي عنه، وأنها المسؤولة فعلاً عن إحداث الحرائق في المنشآت الحيوية ببغداد إبَّان العهد العثماني: فإن الجمعية – كما نستنتج من كل ما عرضناه – كانت تضم بعض الفئات التي شعرت بأن مصالحها مرتبطة – بعد انقضاء الحُكم العثماني في الأقل – باستمرار وجود نوع من الإشراف البريطاني على الحُكم في العراق، ولو إلى حين، ومن ناحية أخرى فإن اسم الجمعية نفسه لا يقع في ضمن سياق أسماء الجمعيات الوطنية التي أسسها العرب المسلمون عهد ذاك، لا سيما بإضافة صفة (المقدس) بعد اسمها الأول (الدفاع)، ولعل الأيام تكشف لنا عن حقيقة هذه الجمعية، مما يُلقي ضوءًا جديدًا على تاريخ الجمعيات السرية في العراق.
مجلة (آفاق عربية) لسنة 1979
اقرأ ايضا
حكايتي مع استاذتي بياتريس اوهانسيان
حيدر شاكر الحيدرفي العام 1973 قدمت اوراقي لأقبل بمعهد الفنون الجميلة /قسم الرسم وكنت خائفا …