كيف تلقيت نبأ رحيل عناد غزوان؟

د. مالك يوسف المطلبي

ليست المعضلة في الموت! فمنذ مغامرة الإنسان الأخيرة لتجاوز الموت إلى الخلود على يد المغامر كلكامش ومنذ فشل هذه المحاولة بعد أن تلقفت الأفعى وصفة الخلود. أو عشبته على نحو محدد، انتقل الإنسان إلى اعتبار الموت حقيقة أولى من حقائق الوجود وتطور هذا الأمر أيديولوجيا باعتبار الموت ليس حقيقة بل حق. يقينية الموت لم ترتبط بالمحتوى بل تعدته إلى الشكل فصار للموت اسم آخر هو الخبر، خبر مثل أي خبر في حلقات السرد المتتالية للوجود وهكذا لم يعد الموت مدهشاً في تلقيه أيضاً لكن المعضلة صارت تكمن في ((كيف نتلقى هذا الموت؟ أو ذاك؟)). ملاحظات البشر في هذه الإرسالية صارت تكمن في التفصيلات الصغيرة التي تعمل في إطار (غير المتوقع) كسر التوقع يحتاج إلى فترة تسمى فترة استيعاب الصدمة وهذه العملية كالعملية الفنية، تعمل في إطار مراوغة التوقع، الجملة الشعرية تسلبنا ما هو متوقع ولهذا تصيبنا بالدهشة جملة الموت التي تسلبنا قدرة التوقع تصيبنا بالدهشة! ربما تند عنا صرخة ما أو صوت مبعثر، أو نزول كفنا على أفخاذنا حينما نرسم بكاء حركة.

هذا ما حدث لي بالضبط حين استقبلت خبره! من على شاشة (العراقية) يا الهي انه مدين لي بلقاء!.. لم اعد أرى الشريط الفرعي للخبر إلا شريطاً اسود للاحتفال بالحزن.. شريط دائري كذلك الذي يوضع على الكتف ولكن ها هنا يدور مع دورة الأخبار الحية! اتجهت إلى الفضائيات العربية لأعمم حزني لكن لم أجد في فضائيات الدم أي بقعة للرثاء! الرثاء يعطل الدعوة إلى الموت لأنه يتأمله وهم يريدون نشر قصص الموت. الموت عندهم هو صورة الحياة! لكن عثرت أخيراً على تدفق شريط الحزن في فضائية الفيحاء فقط حينها أدركت انه بدأ يعبر الحدود ليبدأ امتصاص الصدمة!.

عناد غزوان لافتة عريضة الأستاذ الدكتور الباحث، الأديب الشاعر، عالم اللغة المترجم، تتلمذت له منذ بدأ زغب المعرفة بنيت على حساب زغب استهلاك الحياة! كان أول لقاء لي معه في قاعة امتحان الطلبة المتقدمين للدراسات العليا وكنا موجة من الأدباء، وكان اجتياز امتحان اللغة الإنكليزية أو شروط القبول في الدراسات اللغوية العربية كنت أجيب بإنكليزية الطالب أي الإنكليزية المكبوتة. مراقب الامتحان هز رأسه وهو يقرأ ما اكتب ثم أطلق ضحكته المجلجلة وقال: جيد ولكنك لا تفكر في اللغة الإنكليزية انك تفكر في اللغة العربية، لم يكتب للدورة أن تكون أصلاً لأسباب مجهولة ولهذا لم نعرف حصيلة نتائجها، غير أن كلمات مراقب القاعة د. عناد غزوان ظلت تلازمني طوال عقدين حتى قادتني أخيراً هي وحدها التي قادتني أو هي وحدها التي مكنت الدافع على عبارة النفسانيين من أن انخرط على كبر في الدراسة الأكاديمية طالباً في كلية اللغات قسم اللغة الإنكليزية مستمراً أربع سنوات في كفاح مرير لكهل وسط مراهقين! مستقبلاً سخريات الأهل والأقارب والمعارف بصبر غريب لما شاب ودوه للكتاب لا لكي احصل على شهادة فانا في حينها كنت املك منها الدكتوراه في علم اللغة وشهادة معهد القاهرة في الفنون لكني كنت أريد أن اصل إلى ذلك الحجاب الذي وضعه أمامي قبل ربع قرن. إذا أردت أن تتعلم لغة وجب عليك أن تفكر فيها فقط، في سنوات الدراسة الأربع كنت التقيه لأعرض أمامه نموي اللغوي لا لكي انتزع منه جملة التشجيع بل لكي اسمع منه تعليقاً باني صرت أفكر في اللغة التي أريد اكتسابها:

عال عال.. ماذا يعني ذلك؟.. يعني انك في الطريق الصحيح.. كلما وقعت عيناي على الشهادة التي تلتها من قسم اللغة الإنكليزية تذكرت أنها ثمرة تعليق ذلك الرجل، أن هذه الشهادة ليست ثمرة كفاحي (كفاح من يتعلم لغة أجنبية على كبر خارج سياق تلك اللغة) بل ثمرة تعليقه ذلك التعليق الذي أنتج في داخلي الدافع ثم السؤال ثم الجواب.

ونعود إلى البنيوية والى السجال الذي اندلع بين متبنيها ورافضيها كان رد الدكتور العلامة علي جواد الطاهر شديداً قاسياً بل كان مقدمة تبناها مثقفو القطيع لدرء هذا الشر درءاً تقدمياً. وقد تبنى أطروحة الدكتور الطاهر رحمه الله تلميذه الدكتور عناد غزوان رحمه الله ولما كنت منغمساً في حشد طاقة المنهج على حساب المتن فقد رددت عليهم رداً قاسياً تحت عنوان (أبنية فارغة) وما أصابني فزع من نفسي واضن انه لم يصبني مثلما حصل لي بعد أن تأملت ما كتبت أي عاق أنا؟ وأي وأي وأي؟ الآن وبعد مضي ما يقارب الربع قرن اتامل المشهد عبر هذه المسافة الشاسعة لأدرك أن دافع الخروج من المتن كان أقوى من أي شيء آخر. وكان لي، وكنا في أبو ظبي في مهرجان أدبي، أن أعتذر لهما اعتذار العبد لسيده (من علمني حرفاً ملكني عبداً) ثم أسررتهما بما عندي. قال لي د. علي جواد الطاهر: أمض في طريقك، وقال لي د. عناد غزوان لقد ربحنا جميعا! نعم لقد ربحنا جميعا بعد خسارتنا المصطنعة!.

لقد قرأت لأغلب المترجمين العرب أن لم اقل كلهم، وأقول هنا وهو قول ليس من باب تعدد محاسن المرثي، كما جرت العادة لأنه أمر قلته في مقابلة أدبية قبل ستة أعوام، أقول ما وجدت وعياً مرهفاً باللغتين وما ينطويان عليه من بنى قواعدية وتداولية إلا عند علمين من أعلام الترجمة من الإنكليزية إلى العربية وهما د. عبد الجبار المطلبي ود. عناد غزوان وان كنت تتلمذت للدكتور عبد الجبار المطلبي مباشرةً بكونه أخي وكنت اشتغل معه بأجر في ترجماته وكنت أتقاضى على إملاء ترجمة الصفحة الواحدة (خمسين فلساً) عام 1961، فأنني تتلمذت للدكتور عناد غزوان في الدرس الذي ابتغي وهو درس الحداثة. ولعل ذلك عائد إلى تلك الجملة: (لكي تتعلم لغة يجب أن تفكر فيها). كانت أمنيتي أن أرى د. عناد غزوان في هذه الأوقات جزءاً مسؤولاً عن المجمع العلمي العراقي الذي عاثت به آفة التحجر والوساطة المقيتة، كنت آمل أن يعيد لهذا الصرح رونقه الذي اختفى منه بعد أن أطلقت النار على (العراق) بعد ثورات الجمهوريين الدموية المراهقة منها والفاشية وكنت آمل.. غير أن شريط الحزن الذي ارتداه تلفاز العراقية وفضائية الفيحاء قطعا تيار الأمل! نعم من الممكن أن يصلح كل شيء عند ذاك فقط يكون عناد غزوان وكل الموتى الجميلين قد استمر واستمروا فينا.

اقرأ ايضا

عناد غزوان انموذجاً أكاديمياً رصيناً

عقيل مهدي يوسف قبل أكثر من ثلاثة عقود، انفتحت أكاديمية الفنون الجميلة على كلية الآداب، …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *