ذكريات المصور (جان) مع عبد الكريم قاسم .. الأرمن أول من أدخل التصوير الفوتوغرافي للعراق..

ذكريات المصور (جان) مع عبد الكريم قاسم .. الأرمن أول من أدخل التصوير الفوتوغرافي للعراق..

معد فياض

كان هناك واحدا من اهم ستوديوهات التصوير الفوتغرافي في منطقة حافظ القاضي، او ساحة الوثبة، قرب جسر الاحرار في شارع الرشيد، بجانب الرصافة من بغداد، هذا الشارع الذي أضحى وقتذاك القلب التجاري والحضاري للعاصمة العراقية، حمل هذا الاستوديو اسم "ستوديو بابل" للمصور الارمني جان هوفانيس كريكور جوكاسزيان.

فقد أدخل الأرمن سحر التصوير الضوئي وحتى السينمائي إلى العراق، وإلى جانب جان كان هناك المصور الصحافي الرائد أمري سليم لوسينيان شيخ المصورين الصحافيين العراقيين الذي صور ملوك وزعماء العراق وجزءا كبيرا من أرشيف تاريخ العراق، والمصور الفوتوغرافي المعروف أرشاك (صاحب استوديو أرشاك)، ومصور الآثار كوفاديس ماركاريان.

ولو نشاهد غالبية الافلام السينمائية الاخبارية التي وثقت العهد الملكي والكلية العسكرية الملكية والفعاليات الثقافية والرياضية لوجدناها قد التقطت بعدسات المورين الارمن.

جان صديق الرؤساء

وحسب الموثق العراقي ضياء الشيخلي فان:" جان لبناني من أصل ارمني، و من مواليد تركيا سنة 1914 هاجر مع عائلته الى لبنان وتدرب في شبابه على يد مشاهير فن التصوير في تركيا و بيروت ابتداء من سنة 1932، وفي سنة 1936سافر الى باريس للتدريب العملي والفني وبعد عودته من باريس قدم الى بغداد واقام فيها منذ سنة 1937.

وكان متزوجا من طبيبة ارمنية لبنانية كان قد تعرف عليها في بيروت وقدمت الى العراق فعملت في ميدان الطب في العراق، مضيفاً أنه بعد مرور أقل من عام على وجوده في بغداد افتتح ستوديو للتصوير في شارع الرشيد سماه (ستوديو بابل) وذلك في سنة 1938، عندها بدأت شهرته تزداد الى أن تم اعتماده مصورا خاصا للحكومة العراقية في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم سنة 1958، بعدها أصبحت تربطه علاقات متميزة مع الرؤساء بدءا من الزعيم قاسم.

وأوضح أن "اسم المصور (جان) بقي متألقا باعتباره المصور الخاص للرؤساء في العراق".

الملك وعده.. ولكن

يكتب الموثق ضياء الشيخلي، الذي أنشأ صفحته على الفيسبوك "أول صفحة شخصية تختص بالتوثيق الصوري لتاريخ العراق، بعيدة عن التوجهات السياسية"، قائلا: "أن الحظ لم يحالف المصور جان بتصوير ملوك العراق أو العائلة المالكة، بالرغم من المحاولات المتكررة التي قام بها، ولكن ذلك لا يعني انه لم يكن على اتصال بالعائلة المالكة وبعض الشخصيات المهمة في تلك الفترة ".

وأضاف: "مما ذكره المصور (جان) في مذكراته، أن الملك فيصل الثاني كان قد وعده خلال لقاء جمعه به بتصوير حفل زفافه من خطيبته التركية (فاضلة)، ولكن مشيئة الله شاءت أن لا يتم الزواج بسبب الأنقلاب العسكري الذي أطاح بالملكية يوم 14 تموز 1958".

وورد في مذكراته، حسب ما يذكره الشيخلي:" أن السيدة (هيام) أبنة أمير ربيعة كانت من زبائنه قبل زواجها من الوصي عبدالآله وقد سأل الامير عبد الاله هيام ذات يوم عن الصورة الجميلة التي التقطت قبل زواجها فأجابته انها بعدسة مصور بابل.

وكان من زبائن ستوديو بابل في العهد الملكي كل من:رشيد عالي الكيلاني ورفيق عارف رئيس اركان الجيش الاسبق، منذ أن كانا ضابطين برتبة صغيرة، كذلك تعرف جان على رئيس الوزراء نوري السعيد والتقى به في عدد من المناسبات، ووعده الباشا بزيارة الى محله لالتقاط صورة ولم يتحقق ذلك، وكرر جان الطلب ولم تتحقق رغبته، يعزيها الى كثرة مشاغل الباشا.

ولكن مرافقه (وصفي طاهر) كان من زبائنه منذ أن كان تلميذا في الكلية العسكرية وكان وصفي يفضله على عمه عبدالرحمن صاحب استوديو الأهلي، واستمرت العلاقه معه إلى ما بعد ان اصبح مرافقا لعبد الكريم قاسم 1958.

الصورة الأولى للزعيم قاسم

كانت أولى الصور الرسمية لرئيس وزراء اول حكومة في العهد الجمهوري،عبد الكريم قاسم ورؤساء الجمهورية:عبد السلام وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين، قد حملت توقيع استوديو (بابل)، وقد بقي مجد هذا المصور متألقا حتى نهاية الثمانينات عندما افتتح له فرعا آخر أكبر وأكثر فخامة من الأول بكثير في الطابق الأرضي من بناية الاتصالات في منطقة السنك ليس بعيدا عن موقع الاستوديو الاول في شارع الرشيد.

ذات يوم من شهر يناير (كانون الثاني) عام 1982 جمعني لقاء صحافي مع المصور جان، وكان يضع في الواجهة الزجاجية لصالة العرض صورة كبيرة لصدام حسين، وسألته عن صور باقي الملوك والرؤساء، فقال: "أنا أتمنى أن أعرض كل الصور، بما فيها صورة عبد الكريم قاسم لأنه كان صديقي، لكنني كما تعرف الظروف لا أستطيع فعل ذلك".

ومثل حكّاء محترف، راح جان يقص علي بعربية مشوبة بمفردات أرمنية عن "ضابط عسكري متواضع، لكنه كان قلقا باستمرار، كان يزورني في محلي القديم، القريب من بار ومطعم (شريف وحداد)، نشرب الشاي ونتبادل الأحاديث، وذات يوم نظر هذا الضابط، بعينين مفتوحتين على سعتهما، إلى شخصيات مهمة في العهد الملكي، وقال: (قريبا سوف تلتقط لي صورة مماثلة لهذه)، فعبّرت له عن استعدادي لالتقاط صورة له الآن إذا كان يريد، لكن الضابط أجاب بقوله: (لا، ليس الآن، بل عندما أصير رئيسا للعراق)". وترك جان وسط أسئلته وحيرته لتفسير ما يعنيه هذا الضابط العسكري.

بعد ايام قليلة من انقلاب 14 تموز 1958، توقفت سيارة عسكرية اما باب ستويو بابل وطلب احد العسكريين من جان ان يرافقه مع كاميرته وبقية معدات التصوير، وعندا استفهم جان عن الجهة التي سيذهبون اليها جاءه الرد: تعال معنا بلا اية اسئلة، وهذا ماكان.

يستطرد جان قائلا:" قطعت السيارة العسكرية شارع الرشيد باتجاه منطقة الميدان ثم انعطفت يسارا لندخل الى بناية وزارة الدفاع..في الطريق ابلغني العسكري الذي رافقته بانني سأصور شخصية عسكرية مهمة، ثم قادني الى مكتب لاجد نفسي امام الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أوفى بوعده لاكون اول من يلتقط له صور رسمية عندما يكون رئيسا للعراق".

وأردف: "واجهني قاسم بابتسامة المنتصر ورحب بي كثيرا، وقال لي: (ها جان، شفت اشلون صرت رئيس العراق وانت أول واحد راح تاخذ لي صورة)".

مصور الرؤساء

يستطرد الموثق الشيخلي قائلا:"كَبُر أسم ستوديو بابل واشتهر فأخذ عدد من المسؤولين والشخصيات السياسية والضباط يزورونه لأخذ صور توثق مراحل عمرية وترقية أو لغرض معاملات حكومية فارتبط جان مع البعض منهم بصداقات حميمة، منهم خمسة من الرؤساء تعاقبوا على حكم العراق منذ عام 1958، ابتدأت علاقته كمصور رسمي خاص للزعيم عبدالكريم قاسم بعد فوزه من بين عشرة متسابقين من كبار المصورين بينهم: عبوش، وأرشاك، وانطرانيك وغيرهم، وكانت المسابقة لاختيار صورة رسمية للزعيم عبدالكريم، وسبب فوزه كان في اخفاء آثار جرح قديم في وجه عبد الكريم قاسم وبالتحديد على شفته مستخدما تكنيك فني في وضعية خاصة امام العدسة والانارة مع رتوش فنية".

وأضاف أن "علاقة المصور جان مع عبدالكريم قاسم قديمة تعود الى الأربعينات، فقد كان قاسم كثيرالتردد على استوديو بابل منذ أن كان برتبة ملازم أول في بداية الأربعينات وذلك لأن الكثير من ضباط الجيش كانوا يلتقطون الصور بمناسبة ترقيتهم، فاعتادوا التردد على ستوديو بابل بمثل هذه المناسبات وكان عبد الكريم أحدهم".

وينقل الشيخلي عن رأي جان بعبد الكريم قاسم من الناحية الفنية فيقول: "أن أكثر ما كان يدهشني كمصورهو اناقة عبدالكريم ورشاقة جسمه"، مضيفاً "لم أره مرة الا وملابسه العسكرية مرتبة وكأنها خرجت توا من المكوى مما يدل على انه كان يستبدل ملابسه أكثر من مرة في اليوم الواحد.. وكانت آخر صور التقطها جان لعبد الكريم قاسم قبل أقل من اسبوع من الاطاحة به في 8 شباط 1963، وكان قد رقي الى رتبة فريق ركن ولكنه لم يطلع عليها".

موقع قناة (راداو)