إبراهيم عرب .. الحياة والسياسة والضحك العراقي

صادق الطائي
مثل إبراهيم عرب ظاهرة اجتماعية وفنية في آن واحد؛ شخصية شعبية عراقية خرجت من قلب المقاهي البغدادية، لا تحمل لقبا رسميا ولا وساما سلطويا، لكنها امتلكت سحر الكلمة، وقدرة أسطورية على تشكيل الأكاذيب في هيئة متعة سردية خالصة. كان صاحب مقهى في منطقة راغبة خاتون قرب الأعظمية، لكنه تحوّل إلى اسم يتجاوز الجغرافيا والزمان، حتى أصبح رمزا لـ»الكذاب الظريف»، الذي لا يُراد له أن يُحاسَب، بل يُحتفى به، بوصفه مساحة للضحك وسط عالم مثقل بالقسوة والتحولات. رحل عن عالمنا عام 1979، ولم يُكتب شيء عن هذه الظاهرة، لكنه بقي ملتصقا بالذاكرة الجمعية، يتكرر ذكره على ألسنة البغداديين وأدباء المدينة ومن عايشوه عن قرب، بوصفه شخصية لا مثيل لها في تاريخ بغداد الحديث.
كان إبراهيم عرب صاحب مقهى، لكن المقهى لم يكن مكانا لتقديم الشاي فحسب، بل مسرحا يوميا للخيال الشعبي. يجلس إبراهيم في منتصف الحلقة، يحرك الحديث كما يحرك الممثل الماهر جمهور المسرح، يفتعل الأكاذيب، والجميع يعرف أنها أكاذيب، ومع ذلك يصغون إليه بإعجاب، لأن كذبه لم يكن خديعة، ولا تضليلا، بل كان «فنا من فنون النجاة»، في مجتمع يضيق بأبنائه ويحمّلهم ما لا يُطاق.
كتب الشاعر العراقي بلند الحيدري في مقال له عن مقاهي بغداد، وهو ممّن أدركوا تلك المرحلة، أن إبراهيم عرب كان قريبا من جميع الطبقات، يجالس الطلبة والأدباء، ويبتكر الحكايات بين الجد والهزل، حتى باتت مقهاه ملتقى للنوادر والسخرية اللطيفة التي تصنع للمدينة فرحها اليومي، المدينة التي عاش فيها إبراهيم عرب لم تكن مدينة سهلة. إنها بغداد المتقلبة سياسيا، التي تتغير فيها الحكومات بسرعة، وتثقلها الأزمات الاقتصادية، وتشوّهها الحروب والانقلابات. ومع ذلك بقي الضحك واحدا من أدوات بقائها، وتحوّل إلى نوع من المقاومة الرمزية ضد الألم، كأن الناس حين يضحكون، يؤكدون قدرتهم على الاستمرار. ضمن هذا المناخ، ظهر إبراهيم عرب، بوصفه حارسا لهذه الطاقة الساخرة؛ لم يكن سياسيا ولا خطيبا ولا زعيما جماهيريا، لكنه كان يقدّم خطابا مضادا، غير مباشر، يسخر من الجدية القاتلة عبر الحيلة اللغوية والنكتة المبالغ بها، حتى صار كذبه «أصدق» من كثير من الخطب الرسمية، لأنه يقول الحقيقة بطريقته.
قصصه التي نسجت أسطورته كانت مزيجا من العبث الواعي، والخيال الشعبي المفتوح. يدّعي أنه كان صديقا لهتلر، يسير معه بسيارة مكشوفة في برلين إبان دورة الألعاب الأولمبية عام 1936 فيتساءل الألمان مشيرين للسيارة بتعجب: «هذا إبراهيم عرب، لكن من الرجل الجالس إلى جانبه؟». ويعلن أنه هو من أوقف القطار بركلة من قدمه لأنه يزعج طلاب كلية الحقوق، الذين يذاكرون دروسهم في مقهاه، ثم يشير إلى كومة حديد صدئة قرب المقهى ليقول بثقة من لا يشك في نفسه: هذه بقايا القطار! حتى شجرة المقهى الهزيلة كانت لها حكاية، إذ يقول إنه اقتلعها من حديقة نوري السعيد بجرة يد واحدة دون أن ينقطع جذر واحد. كما كان يروي عن مبارياته «الأسطورية» في كرة القدم، التي ينقذ فيها المنتخب العراقي، يركل الكرة عاليا ويذهب بهدوء لاحتساء الشاي، ثم يعود ليواصل البطولة. كل ذلك كان يُحكى بملامح جدية، لكنها جدية ساخرة تعلم أن المستمعين لا يصدقون، ومع ذلك تحتاج إلى أن تسمع وتضحك وتنسى للحظة أثقال الحياة .
وصفه عباس بغدادي في كتابه “بغداد في العشرينات” قائلا؛ «نفاخ من الدرجة الأولى، كان صاحب مقهى في باب المعظم، لم يدع البطولة والشجاعة والشقاوة، لكنه كان يدعي إيجاد الحلول لكل شيء، في السياسة والاجتماع والاقتصاد ويقدمها لكبار القوم والمسؤولين مجانا، إضافة إلى أحاديث عن مغامراته في السفر والتجوال، التي تفوق حدود المبالغة والخيال، مثال ذلك: إنه كان مدعوا للعشاء عند الملك فيصل الأول، وقدم له النصائح في كيفية حكم العراق. كما إن المندوب السامي البريطاني هنري دوبس، زاره منتصف الليلة الماضية وشرب عنده الشاي وحل له مشكلة مستعصية. أما المس بيل، فقد عشقته وراودته عن نفسها ولكنه رفض ذلك بكل إباء. وقد افتتح ابنه مقهى في كمب الأعظمية وسماها مقهى عرب تيمنا باسم والده».
لم يكن هذا “الكذب الظريف” مجرد تسلية فارغة، لقد شكّل، من حيث لا يُراد له، مرآة حساسة لحالة مجتمع مأزوم. يذهب بعض الباحثين إلى أن مثل هذه الشخصيات تمارس دور “التنفيس الاجتماعي”، تمنح الناس فرصة للضحك على ذاتهم وعلى السلطة وعلى الأحداث التي تفوق قدرتهم على الفهم والسيطرة. يشبهون حضوره بحضور شخصيات تراثية مثل البهلول (مجنون الحكماء)، أو شخصية جحا في التراث العربي، تلك الشخصية التي تمزج بين ادعاء البلاهة الظاهرة والذكاء المستتر، لتكشف مفارقات الواقع بأسلوب ساخر وغير مباشر.
وقد رأى كُتّاب معاصرون، أن إبراهيم عرب كان، في جوهره، فنانا سرديا شفاهيا، يمارس شكلا بدائيا من الفن الشعبي، يوظّف فيه الخيال والمبالغة كوسائل جمالية، لا بوصفها كذبا أخلاقيا، بل كوسيلة لإعادة ترتيب العلاقة مع الواقع، وجعله أكثر قابلية للعيش. شهادات من عايشوه تؤكد هذه الفكرة. بعضهم رآه “مصابا بعقدة العظمة”، وبعضهم رآه حصيفا أدرك سر المهنة، فجعل من النوادر وسيلة لجذب الزبائن ورواج سمعة المقهى، وآخرون اعتبروه “نفّاخا» من الدرجة الأولى، لكنه محبوب؛ لأنه لا يؤذي أحدا، ولا يستهدف الإساءة لأحد، ولا يستخدم كذبه للاستغلال أو الاحتيال، على العكس، كان يقدّم البهجة مجانا، ويمارس لعبة لغوية يعرف هو وجمهوره قواعدها وحدودها. حتى حين اشتد النقاش حول ما إذا كان كذبه مرضيا، أم أدائيا، بقيت صورته الوجدانية أكبر من أي تصنيف طبي أو نفسي؛ لأنه ببساطة جزء من ذاكرة مدينة كاملة.
ولأن بغداد مدينة تعيد إنتاج رموزها، لم تمت شخصية إبراهيم عرب بموته، بل عادت بعد عقود في ثوب جديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حين ظهر صانع المحتوى الشاب العراقي، الذي يعيش في أوروبا المعروف بكنية “أبو شاهين” بوصفه امتدادا رقميا لروح الكذب الظريف القديمة. الفكرة هي ذاتها: سرد مبالغ فيه، بطولة متخيلة، حكايات تتحدى المنطق، وجمهور واسع لا ينتظر الحقيقة بقدر ما يبحث عن المتعة والضحك والهروب من واقع قاسٍ. الفارق الوحيد أن مقهى إبراهيم عرب كان مكانا ماديا تتشكل فيه الجماعة الاجتماعية المباشرة، بينما صار “مقهى” اليوم افتراضيا على شاشة هاتف، وجمهوره يمتد عبر الجغرافيا.
وهنا يصبح السؤال أشد عمقا: لماذا ينجذب الناس لمثل هذه الشخصيات؟ هل لأن الواقع أثقل من أن يُواجه، بلا وسائط تخفف مرارته؟ أم لأن هذه الشخصيات تقدم فنا حقيقيا وإن بدا بسيطا؟
الحقيقة أن إبراهيم عرب لم يكن مجرد «ظريف» يطلق النكات، بل ظاهرة ثقافية تختصر جانبا من العلاقة غير المستقرة بين الإنسان العراقي وواقعه. لقد قدّم نموذجا شعبيا للفن اليومي، حيث يصبح الكذب لعبا لغويا جادا، والضحك شكلا من أشكال الاحتجاج السياسي الهادئ، والهزل وسيلة للحفاظ على التوازن النفسي في مجتمع مضطرب. هو لم يرفع شعارا سياسيا، ولم يعلن موقفا مباشرا، لكنه عبر سردياته العبثية فضح، دون قصد، المبالغة السلطوية في الخطاب، وكشف هشاشة الشعور الجمعي بالثقة في الوعود الكبرى، لذلك ظل محبوبا: لأنه لم يكذب ليخون، بل ليجعل الحياة أكثر قابلية للابتسام.
بقي إبراهيم عرب في النهاية واحدا من «أساطير بغداد المعاصرة»، رجلا هزليا جميل الحضور، ابتكر لنفسه بطولة بديلة حين حُرم من البطولة الواقعية، وترك للمدينة إرثا من الضحك الذكي الذي يتذكره الناس كلما ضاقت صدورهم. رحل دون أن يخلّف ثروة أو سلطة، لكنه ترك ما هو أثمن: فكرة أن الخيال، حتى وهو كذب صريح، يمكن أن يكون ملاذا إنسانيا نبيلا، وأن الضحك ليس سذاجة، بل أحيانا أعلى درجات الحكمة الشعبية. ولهذا يظل اسمه حاضرا حتى اليوم، لا بوصفه «أشهر كذاب»، بل بوصفه أحد أجمل من حوّل الكذب إلى فن للحياة، وزرع في مقهى صغير من بغداد ضحكة لا تزال تتردد في ذاكرة المدينة حتى الآن .

اقرأ ايضا

بريطانيا في العراق.. صناعة ملك ودولة

رفعة عبد الرزاق محمدلم يكن يوم 23 آب 1921 يوم تولى الامير فيصل بن الحسين …