امين المميز : أنا بغدادي .. وهذا بعض ما أدركته منها

إعداد : ذاكرة عراقية
(( أسمي محمد أمين ، والدي عبد الجبار بك بن إبراهيم أفندي المميز،: أجدادي وأعمامي وأخوالي وأخواتي وأبنائي وأمي وجداتي وزوجتي في ، جدنا الأعلى الوالي أحمد باشا بن الوالي حسن باشا، وكانا قد حكما بغداد حكماً شبه مستقل عن السلطنة العثمانية قرابة نصف قرن وأحمد باشا هو والد عادلة خاتون صاحبة الخيرات والنفوذ ومشيدة الجامعين المشهورين باسمها وهما جامع عادلة خاتون الصغير الواقع في عكد الصخر (مدخل سوق الصفافير مقابل المتحف البغدادي) وقد خلَّدته بعد تهدمه ثلاث نخلات باسقات ما زالت قائمة أمام العمارة التي شيدتها أمانة العاصمة في شارع المأمون مقابل المتحف العراقي القديم ، وقد شيد بديلاً عنه جامع في الصرافية بالاسم نفسه سنة 1962.
أنا بغدادي (أصلي) ، وكما يقول المثل الدارج (جر كراع ودك كراع) ، وقال ولدت في بغداد سنة 1912 علماً انه ورد خطأ في التسجيل بالوثائق الرسمية انه ولد في 10/5/1909. في محلة كانت تعرف في غابر الأزمان محلة الدنكجية والتي وصفها في كتابه (بغداد كما عرفتها) بأنها كانت (قطب الكون) وصارت تعرف بعدئذ بمحلة (جديد حسن باشا) نسبة إلى الوالي حسن باشا والد أحمد باشا وجد عادلة خاتون ، وقد سكناها أباً عن جد وكما يقول (خبناها) كابرا عن كابر لمئات السنين)، ويذكرنشأت وترعرعت وسكنت ودرست فيها شطراً من عمري ولم أنفك عنها إلا حينما نقلنا سكنانا إلى الصرافية سنة 1935 وقضيت بين الدنكجية والصقلاوية والفلوجة والرمادي من أعمال لواء الدليم (محافظة الأنبار حالياً) .
لم تكن عندي هوايات مفضلة في حياتي ، وكل هواياتي في صباي وشبابي كانت هوايات بسيطة عابرة ، كالتصوير والرسم وجمع الطوابع والنوادر والطيور والحيوانات الأليفة ومطالعة الصحف والمجلات والكتب وما إلى ذلك مما يستسيغه الشباب، وكنت بعيداً عن الرياضة والألعاب بكافة أنواعها ، ولم تتبلور هوايتي المفضلة ، وهي حب الأسفار ، إلا بعد انتسابي للسلك الخارجي فصرت أكتب كتاباً عن كل بلد أعمل فيه ، وقد “درت عكا ومكة وعكود اليهود” كما يقول المثل البغدادي ، لذلك الغرض ، فخرجت بثلاثة كتب عن البلاد الأجنبية ، فصدر كتابي الأول (الإنكليز كما عرفتهم) سنة 1944 ولما أهديت هذا الكتاب إلى المرحوم حافظ عفيفي باشا مؤلف كتاب (الإنكليز في بلادهم) ثم زرته عندما كان محافظاً لبنك مصر ، قال لي بكل تواضع ” لو كنت أعلم بأنك ستصدر كتابك هذا لما أصدرت كتابي ” ، أما الكتاب الثاني فهو كتاب (أميركا كما رأيتها) فقد صدر عام 1952 وحاز الجائزة الأولى للمجمع العلمي العراقي لتلك السنة ، عندما كان المرحوم السيد منير القاضي رئيساً للمجمع وذلك بتزكية وتوصية من عضو المجمع الأستاذ محمد بهجة الأثري ، أستاذي في اللغة العربية…
طبيعتي تميل إلى مراعاة التقاليد والتمسك بأهداب العقيدة الإسلامية وشعائر الدين الحنيف، وأني اجتماعي النزعة بالغريزة، أحب المعاشرة والمجالسة وتفقد الأصدقاء والأقرباء ، أمقت الأنانية والاستئثار وحب الذات ، أميل إلى التفاؤل في نظرتي إلى الأمور التي تجابهني في مسالك الحياة ، أجنح إلى المحافظة والاعتدال في التصرف. ..
أحب مجالسة الشيوخ والمعمرين ، وأسعد الساعات هي التي كنت أقضيها في مجالس معروف الرصافي ورؤوف الجادرجي ومحمود صبحي الدفتري وتحسين قدري وصالح صائب الجبوري ، وفخري البارودي في دمشق ، والشيخ محمد نصيف في جدة.
 تعلقي بالتراث ، أو كما يسميه الشيخ جلال الحنفي (الفلكلور) تعلق أعمى لا يزعزعه كسب ولا مال ولا وعد ولا وعيد ، أفضل الطعام الشعبي واللباس الشعبي والغناء الشعبي وكل تقليد شعبي ، وأحب كل شيء قديم إلى حد الهيام ، لا شيء يغيظني ويخرجني عن طبيعتي الهادئة والمعتدلة مثل ما يغيظني أي تعد أو ظلم يقع على شخص أو على معتقدي أو على وطني ، فأبذل كل ما في وسعي لمحاربة ذلك الظلم والعدوان ، قدر استطاعتي وضمن حدود إمكانياتي ، متمثلاً بقول أحد الحكماء القدماء ” لقد أقسمت أمام محراب الله شن حرب أبدية على كل لون من ألوان الظلم على البشر “.
 لازمت بغداد أيام طفولتي وصباي وشبابي وكهولتي وشيخوختي، وعشت فيها أيام بؤسها وشقائها وحرمانها، إني أحب الحياة لأني أحب أن أعمل شيئاً مذكوراً في هذه الحياة من أجل نفسي ومن أجل أبنائي وأحفادي ومن أجل وطني وأمتي ).
ادركت بغداد يوم كان فيها جسر واحد فقط من (الدوّب الخشبية العائمة) واذا ماانقطع هذا الجسر وهربت الدوب الى (كرارة) او نزلت (حدّار) الى البصرة، انقطع الاتصال بين صوبي الكرخ والرصافة الى ان تعود (الدوب) من حيث هربت مصحوبة ( بالمزيقة )، اما في بغداد ففيها الان اكثر من سبعة جسور حديدية ثابتة ومثلها عددا قيد التصميم والانشاء.
وكان الناس يستضيئون ويدرسون في ضوء الشمعة والقنديل والفانوس والادارة واللاّلة والاذيزة، وعند وصول الكهرباء الى شارع الجسر يحصل احتفال به، وصار الطلاب يدرسون على ضياء مصابيح الشارع اما اليوم فقد وصل الكهرباء الى كل بيت من بيوتها كذلك الى القرية والريف والهور والبادية.
اما السقا في بغداد القديمة فقد كان يطوف (بكربته) يحملها على ظهره او على ظهر حماره ليزود بها البيوت بماء النهر، ويؤشر على الحائط بباكورته حساب الدروب التي اوصلها الى كل بيت اما اليوم فقد وصل الماء الصافي المعقم الى كل بيت من بيوتها وتعدّ قوائم الحساب بالحاسبة الالكترونية.
اما الشوارع فكان فيها شارع واحد مبلط او مرصوف باستثناء عكد الصخر (شارع الجسر) المرصوف بالصخر الجلمود الاسود، اما اليوم فقد بلطت الاف الكيلو مترات في شوارعها احدث تبليط.
وفي بغداد قديما كانت هناك سيارة واحدة فقط من نوع (فورد ام اللوكيه) وهي سيارة الوالي خليل باشا فتسير في الشارع الوحيد الصالح لسير السيارة وهو الشارع الجديد الذي فتحه الوالي لهذا الغرض..
ويومها كان (الكاري) الذي يعمل بين بغداد والكاظم اسرع واسطة نقل في بغداد يومئذ، اما اليوم فترى مئات الالاف من السيارات والحافلات ومن الانواع كافة .
كما لم يكن في بغداد سوى خستخانة المجيدية وخستخانة اليهودي (مستشفى مير الياس سابقا) وخستخانة الغرباء في الكرخ اما اليوم فقد قامت مدينة الطب بالاضافة الى تأسيس عشرات المستشفيات الاخرى.
كما لم يكن في بيت من بيوت بغداد القديمة تلفون او راديو او تلفاز فكانوا يسهرون مع القرقوز (خيال الظل) والفوتغراف الذي يعمل بالاسطوانات اللولبية والعاب المنقلة والدومنة والطاولي والاسقنبيل او يقصدون احدى المقاهي للاستماع الى القصخون اما اليوم فعشرات الالاف من ارقام التلفونات موزعة بين البيوت كما يشاهدون البرامج التلفازية عبر الاقمار الصناعية من جميع ارجاء العالم.
عن كتابه ( بغداد كما عرفتها )
ولم يكن في بغداد في نهر دجلة غير البلام والكفف والمهيلات والجلاج اما اليوم فالبواخر السياحية المتلألئة في شارع ابي نؤاس والاعظمية والموتورات والقوارب والبلام.
وايضا لم يكن في بغداد ساحة او حديقة ، والاطفال يلعبون بالازقة والدرابين وفي الخرابة المقابلة للقشلة والمجاورة لأمانة العاصمة القديمة والتي ليست هي الاّ مزبلة لرمي الانقاض والسيان وسقط المتاع او اللعب داخل البيوت اما الان فهناك ملعب الشعب وحديقة الزوراء ومدينة الالعاب.
“هاأنا ذا” بغدادي من أعماق جذور بغداد ومن صميم مراحل تاريخها الغابر والمعاصر ، وسأمضي بقية أيام عمري فيها والأعمار بيد الله واني لأوصي بان ادفن في ثراها الطاهر إن شاء الله ذلك ، وهو القائل صدقت كلمته وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.

اقرأ ايضا

من تاريخ مدينة الديوانية

نبيل عبد الأمير الربيعي ذكرلونكريك في كتابه (أربعة قرون من تاريخ العراق) أن حاكم بغداد سار …