نصير الجادرجي
بعد استقالة وزارة الدكتور (فاضل الجمالي) تشكلت في 29/4/1954 وزارة جديدة برئاسة السيد (ارشد العمري) واعلنت في 4/5/1954، بانها ستجري انتخابات نيابية يكون موعدها في 9/6/1954.
كان السيد (ارشد العمري)، معروفاً بعدائه الشديد وأضطهاده للقوى الوطنية، بالاخص عند تشكيله لوزارته الاولى سنة 1946، حيث قام حينها باعتقال العديد من السياسيين المعارضين، وأقام دعاوى قضائية على رؤساء الاحزاب وقادتها، والحكم عليهم بالسجن، وأغلق صحفاً كثيرة، لكن أخطر ما اتسم به عهده، هو مسؤوليته عن مذبحة كاور باغي.كانت (جريدة الأهالي) قد نشرت مقالاً افتتاحياً ضد هذه الوزارة، قالت فيه بأنها غير صالحة لاجراء انتخابات نزيهة وحيادية.كما أصدر الحزب الوطني الديمقراطي بياناً بتأريخ 29/4/1954 نشر في (جريدة الأهالي) في 30/4/1954 جاء فيه:
(إن الرأي العام فوجئ بتأليف الوزارة برئاسة السيد ارشد العمري الذي يزخر تاريخه وتاريخ اقطاب وزارته بالاعمال الاستفزازية ضد الشعب وحرياته، مما لا يمكن الإطمئنان اليها على الاطلاق او اعتبارها أهلاً لاجراء انتخابات وهي في الوقت ذاته غير قادرة بمهمة الاصلاح او اجراء اي تغيير في الاوضاع الفاسدة).
كما أصدر حزب الاستقلال بياناً بتاريخ 29/4/1954 بالمعنى نفسه لبيان الحزب الوطني الديمقراطي، وبتاريخ 4/5/1954 أصدر الحزب الوطني الديمقراطي مذكرة الى (جلالة الملك المعظم) يبين وجهة نظره في الوزارة الجديدة.
أثير حينها نقاش وتداول بين السياسيين كان مفاده:
هل نقاطع الانتخابات ام نشارك عبر ترشحنا فيها؟.
وعلى اثر ذلك، تم عقد اجتماع في دار السيد (كامل الچادرچي) بين الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال، كان ذلك في تمام الساعة العاشرة من صبيحة يوم الخميس الموافق 6/5/1954 وقد حضره كل من السادة محمد مهدي كبة وصديق شنشل وفائق السامرائي عن حزب الاستقلال، وكامل الچادرچي ومحمد حديد وحسين جميل عن الوطني الديمقراطي، لمناقشة الإشتراك في الانتخابات او المقاطعة.
وكان من أشد المتحمسين للاشتراك السادة فائق السامرائي وحسين جميل ومحمد حديد، أما الآخرون فقد كانو بينَ بينْ.
حينها كان السيد (فائق السامرائي) يخرج بين حين وآخر من صالة الاجتماع في منزلنا، لينفرد بي متحدثاً فيقول:
سوف نقوم باستدعائك لاجتماعنا لتبين رأيك ورأي الشباب الذين تلتقي بهم، ولنعرف منك ما يدور في الشارع من حديث حول الأشتراك أو مقاطعة الانتخابات، كما سألني عن امكانية إحضار أشخاص آخرين يمكن الاستفسار منهم الان.
قلت له: إمهلني لمدة أقل من ساعة لأستدعي بعض الشباب والرجال الكبار بالعمر.
فردّ علي قائلا: في حال وجدنا ضرورة لذلك، فقم بالتهيئة اذا تطلب الأمر، وبعد مضي ربع ساعة تم استدعائي لأبين رأيي، وما يدور من آراء في أوساط المجتمع في الاشتراك بالانتخابات، اذ كنت متحمساً بطبيعة الحال في الاشتراك فيها وخوض غمارها.
جلست بينهم لأبين رأيي بصراحة، وقلت لهم بأن اشتراككم من عدمه سيكون امتحاناً لكم، لكن تأكدوا بأن الشارع مجمع على الاشتراك، وعدم اشتراككم في (المعركة الانتخابية) سيكون خيبة أمل لأننا سوف نشترك مهما كان الثمن… وتم تبادل الضحك بين الحاضرين!.
بعد أن أدليت بحديثي تم استدعاء سائقنا السيد (حسين) المقرب من والدي، والمعروف لدى بعض السياسيين الذين كانوا يتبادلون معه الأحاديث الظريفة.. أظهر حسين للحاضرين حماسته بالاشتراك في الانتخابات، معرباً للجميع على أنه ليس رأيه لوحده بل هو رأي أصدقائه واسرته والناس المحيطين به.
وبناءً على طلب السيد (فائق السامرائي) بقيت لبرهة معهم في الاجتماع للسؤال اذا اقتضى ذلك، وبقيت كمستمع من دون أن أبدي أي تدخل او كلام في النقاش الذي كان يدور بينهم..
بعد ذلك قال كامل الچادرچي: أنا سأمتنع عن الترشيح، فكان وقع ذلك القول شديداً عليهم، ليصر الجميع بانهم لن يشاركوا الا وان يكون هو اول المشتركين.
فقال لهم:
حسناً سأرشح لكن بشروط…
انكم تعلمون ان الانتخابات ستزوّر كالعادة، وخصوصاً أن هذه الوزارة يرأسها السيد (ارشد العمري)، سنشترك ولن يهمنا الفوز، بل سنعد أنفسنا من الخاسرين نتيجة للتدخلات التي ستحصل، ولكن يجب ان نشرك الجماهير بأوسع نطاق، ونقوم بعقد الاجتماعات في المحلات والشوارع العامة والمقاهي، لنفضح من خلالها عمليات التزوير والتدخل أياً كانت، ونفضح الجهة التي ستقوم بها بكل ما لدينا من قوة وإمكانية.
بعد ذلك طرح (الچادرچي) موضوع إشراك الحزب الشيوعي في الانتخابات وكيفية مشاركتهم في الحملة والترشيح والطريقة المناسبة لذلك، حينها أبدى الحضور ملاحظاتهم التي عبروا فيها عن تخوفهم من هذا الأمر واحتمالية استغلال الحكومة له فتعود تبعاته بشكل سلبي عليهم.
ثم قال (الچادرچي): إنني على اتصال بهم واستطيع ان اتعهد بأقناعهم وإفهامهم بطريقة الدخول للانتخابات وصيغة الترشيح، ومن ثم نقوم بوضع خطة مناسبة لعدم اثارة الضجة والدعاية ضدنا وضدهم، لأن عدم دخولهم معنا سوف يفقدنا تأييداً كبيراً في الشارع، والشيوعيون أنشط من غيرهم.
استمر ذلك الاجتماع لوقت أطول من المخطط له، فقال لي الوالد بأن (الجماعة) سيتناولون الغداء عندنا، وفعلاً تناولنا الطعام سوية مع جميع افراد العائلة.. ثم انتهى الاجتماع في عصر ذلك اليوم المصادف (6 أيار/ مايو 1954) بالموافقة على الاشتراك في الانتخابات، لتنشر جريدة (الأهالي) بيان الحزب الوطني الديمقراطي الصادر في 7/5/1954 وبيان حزب الاستقلال اللذين أعلنا فيه الاشتراك في الانتخابات، وبتاريخ التاسع من أيار/مايو 1954 أعلن عن ترشيح السادة:
كامل الچادرچي وحسين جميل وعواد علي النجم ونائل سمحيري عن بغداد، ومحمد حديد واسحق بيثون عن الموصل، وجعفر البدر عن البصرة.. فيما أعلن حزب الاستقلال عن ترشيحاته التي كانت عن الجبهة الوطنية التي اعلنت فيما بعد. وبعد ذلك رشح عدد آخر من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وشخصيات سياسية معارضة ضمن قائمة الجبهة الوطنية لخوض الانتخابات النيابية، وأصدرت ميثاقاً بتاريخ 12/5/1954 حددت فيه الأهداف التالية:
1-اطلاق الحريات الديمقراطية، كحرية النشر والاجتماع والتظاهر والأحزاب وتأليف الجمعيات وحق التنظيم السياسي والنقابي.
2-الدفاع عن حرية الانتخابات.
3-الغاء معاهدة 1930 والقواعد العسكرية، جلاء الجيوش الأجنبية ورفض جميع المحالفات العسكرية الاستعمارية، بما فيها الحلف التركي الباكستاني أو أي نوع من أنواع الدفاع المشترك.
4-رفض المساعدات العسكرية الأمريكية التي يراد بها تقييد سياسة العراق أو ربطه بالمحالفات العسكرية الاستعمارية.
5-التضامن مع الشعوب العربية المناضلة في سبيل الجلاء والتخلص من الاستعمار ولاسيما مصر والمغرب العربي، والعمل على تحقيق استقلال البلاد العربية المحرومة من استقلالها وتحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني وضمان حقوق وكيان شعبها العربي.
التواقيع:
ممثل الحزب الوطني الديمقراطي، ممثل حزب الاستقلال، ممثل العمال، ممثل الشباب، ممثل المحامين، ممثل الفلاحين، ممثل الأطباء، ممثل الطلاب.
دعوة (مرفوضة) لكن قبولها تحول الى مهرجان!
كان السيد (حسين جميل) يشرف وينظم الحملة الانتخابية للمنطقة الثانية «منطقته» التي فاز منها فيما بعد بالتزكية، جراء انسحاب المرشح الآخر السيد (عبد الرزاق القيسي) من الترشيح، أما المنطقة الثالثة فقد كان مرشحها السيد (كامل الچادرچي) والمشرف على حملتها الانتخابية السيد (حسين جميل) حيث كنت مساعداً له، ومُروّجاً لتلك الحملة مع عدد من الشباب نتجول وننظم الاجتماعات وغيرها. بعد عدة أيام طلب أهالي المنطقة بضرورة زيارة (الچادرچي) الى منطقتهم، أيد السيد (حسين جميل) هذا الطلب بشدة، بل عدّه من ضروريات الحملة، لكن (الچادرچي) رفض هذا الأمر جملة وتفصيلا، وقال حينها الاتي:
في الأيام الاعتيادية وقبل الانتخابات لم أزرهم، أما الآن فزيارتي لهم تعد ضربا من ضروب الرياء!.
لم يكف السيد (حسين جميل) عن محاولاته بإقناع الچادرچي، لكن وسط اصرار الاخير برفضه، كلفني بحل هذا الموضوع، عبر دعوة بعض وجوه المنطقة للسيد (كامل الچادرچي) لزيارتهم فتكون صادرة من قبلهم، علَه يقتنع.
أبديت قناعتي بالفكرة حينها، فتحدثت مع أصدقائي سامي طبره وعبد الرحيم الخزرجي وعبد الرحمن الصفار، وغيرهم عن فكرتي بتنظيم وفد كبير من شخصيات المنطقة لزيارة الچادرچي، يقدمون له فيها الدعوة لزيارة منطقتهم بمحلاتها (فرج الله والطاطران وأبو سيفين)، والمحلات المجاورة لها.. (كان جلَ ابناء هذه المحلات من الطبقات الكادحة ومعظمهم منحدر من جنوب العراق)، ثم الى المناطق الأخرى، وفعلا تم ما خططنا له، وقام وفد من ابناء المنطقة، بزيارة السيد (كامل الچادرچي) ليتم الاتفاق على دعوته للمنطقة بعد يومين من ذلك الاجتماع.
حضر الچادرچي الى المنطقة في مساء يوم 11/5/1954 لنشاهد وإياه مهرجاناً انتخابياً رائعاً قل نظيره في تلك الفترة، والقى بالحاضرين كلمة ارتجالية عبر فيها عن عظيم سعادته بما يشاهده، مشيراً لهم، بأن قائمته (الجبهة الوطنية الموحدة) إن فازت فلن تتمكن من تشكيل حكومة بالمطلق «في تلميح منه الى موقف الحكومة منه»، لكنه قال للجماهير بأننا بأصواتكم وتعاونكم سنمنع التحالفات العسكرية والاتفاقيات الجائرة بحق العراق.. في تلك الاثناء ألقيت على رأسه الزهور من قبل بعض طالبات المدارس الحاضرات في ذلك المقهى في مشهد أثر عليَنا جميعاً.
من هناك، انطلقت الحملة الانتخابية بشكل منظم، وقد كتبت حينها (جريدة الأهالي) وصفاً لهذا الاحتفال في عددها الصادر بتاريخ 12/5/1954.
بعد مدة قصيرة أعلن السيد (صبيح الدفتري) انسحابه من الانتخابات، عبر بيان نشره في الصحف، وعلى اثر ذلك أصدر رئيس الوزراء قراراً يقضي بنقله من مدير عام ديوان وزارة المواصلات، الى مفتش في وزارة الزراعة.. وعلى إثر ذلك قدم (الدفتري) إلى رئيس الوزراء (استقالة) جميلة المغزى ذكر فيها انه (لا يملك المؤهل لاشغال وظيفة زراعية، لأن الله لم يهبه الموهبة التي منحها للسيد رئيس الوزراء من كفاءة وقدرة مهندس، ليشغل منصب رئاسة الوزراء)!.
مذكرات نصير الچادرچي : طفولة متناقضة … شباب مُتَمرّد .. طريق المتاعب
اقرأ ايضا
من ذكريات نائب في العهد الملكي..ماذا كان يفعل برلمان الثلاثينيات؟
خيري الدين العمريسارت الحكومات منذ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 وإلى سنة 1930 في سياقات …