وزارة الداخلية والانتخابات النيابية لسنة 1948

د. قحطان حميد العنبكي
في 22 شباط1948 أصدرت وزارة السيد محمد الصدر قراراً بحلّ المجلس النيابي والدعوة لإجراء انتخابات جديدة،ووصفت الانتخابات بأنها معركة وصراع بين الأحزاب السياسية الثلاثة(الأحرار والوطني الديمقراطي والاستقلال) وبين كتلة(نوري السعيد وصالح جبر).وهذه الكتلة الأخيرة اعتمدت على العشائر في الانتخابات،وأخذت الحركات العشائرية تتصاعد في الكوت والسليمانية وبغداد الكرخ وراح ضحية هذه الأعمال أربعة رجال وامرأة من القتلى وعدد كبير من الجرحى،وقد ظهر أنَّ هذه العمليات قد جرت في أماكن قريبة من مراكز الشرطة والبعض الآخر في المستشفيات، وهذا الأمر يعد تقصيراً من مؤسسات وزارة الداخلية ذات التخصص الأمني،بل يعكس ربما تقصيراً متعمداً من بعض أفراد هذه المؤسسة ولاسيّما أنَّ حركات العشائر كانت موالية لنوري السعيد وصالح جبر ذوا النفوذ الواسع في المؤسسة الحكومية ومنها دوائر وزارة الداخلية المسؤولة عن حفظ الأمن والنظام.
ثم جاء اشتراك الجيش العراقي في الحرب الفلسطينية(4)لتعلن الحكومة الأحكام العرفية في 15 ايار 1948 في جميع أنحاء العراق بحجة حماية مؤخرة الجيش العراقي، وأخذت وزارة الداخلية تستغل هذا الموضوع لتنفيذ سياستها،فحدثت توقيفات كثيرة كان باعثها هو موضوع الانتخابات،واستغلال الأحكام العرفية لمصلحة مرشحي الحكومة(1)، مما جعل وزير التموين محمد مهدي كبه-ممثل حزب الاستقلال في الحكومة- يستقيل من الوزارة قبل أيام قليلة من انتهاء الانتخابات وذلك في7حزيران1948(2)،وقد جاء في كتاب استقالته:((ان اتجاه الانتخابات بدأ ينحرف عن الخطة السوية التي اجمعنا على انتهاجها ..، وإذا بالشكاوى تتوارد من بعض المناطق الانتخابية.. وحين أُعلنت الأحكام العرفية وتكشف الوضع عن تدخل سافر في كثير من المناطق الانتخابية خارج بعض المدن الكبرى،فقد رفضت تأمينات بعض المرشحين،وأغري آخرون بترشيح أنفسهم على وجه مفاجئ في مناطق لم يسبق لهم أي نشاط انتخابي فيها،بل إننا وجدنا بينهم من ليس لهم صلة بالمناطق التي رشحوا أنفسهم فيها،ورافق ذلك جو من الإرهاب ضاق به الاهلون،فقد أوقف بعض المعنيين بالانتخابات من مرشحين ومنتخبين في مختلف أرجاء العراق.. وان إصراري على المطالبة بالكف عن التدخل بالانتخابات لم يثمر،بل مازال موظفو الإدارة يتلقون الايعازات بإفهام المنتخبين ضرورة انتخاب المرشحين الرسميين .. وان توقيف الأشخاص ما انفك جارياً لأسباب لا صلة لها بمقتضيات الدفاع عن فلسطين،وجو الإرهاب ما فتئ مخيماً على الانتخابات..ومن أجل ذلك كله أبادر إلى رفع استقالتي)).
كما استقال داود الحيدري وزير الشؤون الاجتماعية في26ايار1948((احتجاجاً على تدخل موظفي الإدارة وتصرفاتهم الكيفية في شؤون الانتخابات)).
وهذه إشارة واضحة على تدخل وزارة الداخلية في سير العملية الانتخابية لصالح مرشحي الحكومة،أي خروج هذه الوزارة من حيادها الذي كان يجب عليها التمسك به ومعاملة الجميع سواسية.كما استغلت الوزارة المجالس العرفية((في وجهة هي غير الوجهة التي أنشئت هذه المجالس من اجلها ،فقد استغلتها لتوجيه الانتخابات النيابية توجيهاً خاصاً لا يتفق مع حرية الانتخابات ومع المصلحة العامة،بل يخالف الأنظمة والقوانين..)).
وقد استغلت وزارة الداخلية،ايضاً،نظام دعاوى العشائر الذي كان يطبق على نسبة كبيرة من أبناء الشعب العراقي والذي يمنح سلطات واسعة لرؤساء الوحدات الإدارية بحيث يمكنهم من توقيف الأشخاص بشكل جماعي ومن دون ذكر الأسباب،وقد استغل رؤساء الوحدات الإدارية هذا النظام لتهديد المرشحين والناخبين بتطبيقه عليهم اذا ما خالفوا رغبة الوزارة في انتخاب أشخاص معينين.
ويقول النائب نجيب الصائغ عن انتخابات سنة 1948 والأساليب التي اتبعتها الحكومة التي حالت دون فوزه في الانتخابات((رشحت نفسي نائباً عن أقليات الموصل.. ومركز قضاء اللواء بأجمعه يشترك في انتخابات الأقليات،وهذا يتألف من أربع مناطق.المنطقة الأولى والثانية في البلدة نفسها .وهاتان المنطقتان ليس بإمكان الإدارة ان تؤثر على أحد فيها،اما المنطقة الثالثة فتتألف من ناحيتي الحمدانية وتلكيف.والمنطقة الرابعة تتألف من ناحيتي الشورة والشرقاط. وكنا نسعى جهدنا على المنطقتين الثالثة والرابعة و أخذنا نعمل مع المنتخبين فيها،ولكن قبل موعد الانتخابات بخمسة أيام أخبرني بعض مؤيدي في هاتين المنطقتيــن بان كلا من مديري النواحي في المنطقتين جمع المنتخبين وأخبرهم بان هناك ثلاثة مرشحين حكوميين عن المسيحيين،ووزعوا عليهم أوراقاً مطبوعةً فيها أسماء هؤلاء المرشحين وأفهم المنتخبين بأن الواجب عليهم أن ينتخبوا هؤلاء المرشحين، ومن لم ينتخبهم، أو ينتخب غيرهم،فستسخط عليه الحكومة.ومن تسخط عليه الحكومة يجب أن يعرف أنَّ المجلس العرفي موجود،وأن نظام دعاوى العشائر يخوّل مدير الناحية صلاحيات واسعة.)).
ولم تكتفِ السلطات الإدارية بذلك،بل اعترضت على نتائج الانتخابات بعد فوزه على أحد مرشحي الحكومة الثلاثة. وبعد إعلان نتائج الانتخابات والقول هنا لنجيب الصائغ (( تقدم مدير ناحية الشورة باعتراض على انتخابي لأسباب تافهة تتضمن أنَّ بعض الناخبين في هذه المنطقة كتبوا أوراقهم بأنفسهم الأمر الذي أدى إلى فوزي وقد ردت محكمة الاستئناف هذا الاعتراض رغم الضغط الشديد عليها من الإدارة.. ولم يقف وزير الداخلية عند هذا الحد بل اتصل بعدد من النواب كي يعترضوا على مضبطتي عند عرضها على المجلس الا ان جميع من اتصل بهم رفض ذلك)) ، بل أنَّ وزارة الداخلية ذهبت إلى ابعد من ذلك عندما أخذت تضايق وتلاحق المنتخبين في المناطق المذكورة لمعاقبتهم على انتخابه.
وبعد نهاية الانتخابات،أخذت الشكاوى والاحتجاجات تنهال على الحكومة من مختلف المناطق الانتخابية على التدخل فيها،وكان موقف وزير الداخلية إزاء ذلك بأن((الانتخابات حرة،وأنا لا أتدخل فيها،وأنَّ هذه الشكاوى غير صحيحة،وغير واردة.. )).وعندما وصلت أخبار تدخل وزارة الداخلية في الانتخابات إلى رئيس الوزراء السيد محمد الصدر،اتصل الأخير بوزير الداخلية محتجاً على هذا التصرف طالباً منه عدم التدخل وترك الحرية للناخبين لاختيار ممثليهم الشرعيين.
أنَّ إعلان الإدارة العرفية في أيار 1948بحجة حماية مؤخرة الجيش العراقي في فلسطين كانت ذريعة وغطاءً لحرب السلطة في العراق((ضد الحركة الوطنية وخاصة ضد الحزب الشيوعي العراقي..،وقد وضعت المخابرات البريطانية مخططاً متكاملاً للحرب الأخيرة ضد الحركة الشيوعية والوطنية)) فضح الحزب الشيوعي جانباً منها بنشر وثيقة وقعت في أيديه-عن طريق أحد العملاء المزدوجين-وكان تقضي بإثارة الفتن والصراعات القومية والطائفية والدينية بين العراقيين))(1).وهذا تأكيد لاستغلال الحكومة للقضية الفلسطينية لأغراض ضبط الوضع الأمني في العراق ومكافحة الحركة الوطنية ولاسيَما الحركة الشيوعية،فضلاً عن استمرار التدخل البريطاني في الشؤون الداخلية للعراق على الرغم من استقلاله الشكلي منذ سنة 1932،واتباعهم السياسة الاستعمارية التقليدية(( سياسة فرّق تسُد ))من خلال إثارة الفتن والاضطرابات الداخلية وحتى وقتنا الحاضر.
عن رسالة (وزارة الداخلية العراقية 1939 – 1958)

اقرأ ايضا

من ذكريات نائب في العهد الملكي..ماذا كان يفعل برلمان الثلاثينيات؟

خيري الدين العمريسارت الحكومات منذ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 وإلى سنة 1930 في سياقات …